قراءة في رواية «قناع بلون السماء»..الفائزة بالجائزة العالمية للرواية العربية
أسامة خليفة*
رواية «قناع بلون السماء»، رواية تنتمي إلى الأدب المقاوم، وتحديداً أدب السجون، للروائي الفلسطيني الأسير باسم خندقجي الذي يقضي حكماً بثلاثة مؤبدات، لم تستطع قضبان سجن «نفحة» منعه من ممارسة حريته ومقاومته، حاملاً سلاح القلم، متجاوزاً جدران زنزانته، يحمله إبداعه شعراً ورواية إلى كل العوالم لتفوز روايته لتميزها بالجائزة العالمية للرواية العربية، حدث يؤكد أن الإبداع حرية، ينتصر دوماً على عتمة الزنازين، بل هو انتصار للأسير على السجان، لا قوة بوليسية في الكون تستطيع أن تحجز الفكر وتمنعه عن الإبحار بعيداً، وإلا لما وصلتنا الرواية وشدتنا إلى أحداثها و استمتعنا بقراءتها و أعجبنا بحبكتها، وأثرت في عقولنا وعواطفنا، بما دار من صراع عبر جدل أو حوار داخلي بين نور الفلسطيني اللاجئ وأور المستوطن الصهيوني الأشكنازي، لاسيما بالنسبة لقارئ فلسطيني عاش في مخيمات البؤس وعانى تجربة اللجوء، يميز الفرق بين المخيم الفلسطيني في الشتات و الغيتو اليهودي في أوروبا، يميز بين التاريخ والأسطورة، الفرق بينهما المخيم و الغيتو حسب الكاتب في القدرة على أسطرة المأساة والإمعان في تخيلها، هم أسطروا وتخيلوا كما يجب إلى الحد الذي خلقوا فيه مخيماً وشتاتاً ولجوءاً لنور وأمثاله.
ومن المخيم ينتقل إلى مكان آخر في فلسطين، ماذا يسميه في تفاصيل البنية الكولونيالية للنظام الصهيوني؟. هل هو كيبوتس أم مستوطنة أم مستعمرة؟. يقول أور: إنه كيبوتس وليس مستوطنة .. كيبوتس له تاريخه وعراقته، فأهلاً وسهلاً بك في أحد أهم الكيبوتسات الاشتراكية في إسرائيل.
يتجاهل أور أن مستوطنة مشمار هعيمق قد أقيمت على أنقاض قرية فلسطينية مدمرة كانت تسمى أبو شوشة، والآن في القدس يجري اغتصاب بيوت الفلسطينيين.. حيث ينصح مراد صديقه أن يتجه كخبير آثار للتأكيد على ملكية أراضي الشيخ جراح بصفتها قضية أهم وأكثر إلحاحاً من البحث في تاريخ مريم المجدلية.. «في القدس يا مراد أنا أتجرع أكاذيب وأساطير ملعوباً بأسفل سافلها.. أتجرعها ثم ألفظها بمناعتي و حصانتي وعزمي على مواجهة الاغتصاب التاريخي الذي نتعرض له منذ نكبتنا على الأقل..»، إنه الإصرار على استلاب التاريخ وتقييده بالسيطرة والعنف والتعسف..
يتساءل الكاتب لماذا ينتزع كاتب أجنبي المجدلية من سياقها التاريخي الجغرافي الفلسطيني ليلقي بها في مهاوي الغرب ؟. لماذا؟. أراد الكاتب أن يسرد سيرة أخرى لمريم المجدليّة التي زورها المستشرقون والكتاب الغربيون مثلما فعل دان براون في رواية «شيفرة دافنشي»، مؤكداً أنها قصة واقعية حقيقية، ويدعي أن الكنيسة أخفت زواج المسيح من مريم المجدلية، وأنها أنجبت له ولداً، ومن أجل الحقيقة تحامل نور على نفسه وارتدى قناعاً صهيونياً أشكنازياً، وتغلب على الخوف ومخاطر المغامرة، أغلبنا لا يستطيع ارتداء هذا القناع، ليس خوفاً من الصهيوني المتمكن بالأرض، إنما لأن الانسان لا يستطيع أن يخرج من جلده، حتى سماء اسماعيل الفتاة التي تحمل هوية إسرائيلية رفضت بشدة هذا القناع، ودافعت عن هويتها في أصعب وأحلك الظروف، «هذه العربية التي لا تسأم من الحديث في السياسة ومعاني الهوية». عرّفت نفسها واسمها: « سماء إسماعيل من هذه البلاد لم تقل إنها إسرائيلية أو عربية من إسرائيل »، وإيالا تذمرت من الطريقة التي عرّفت بها سماء نفسها. وحتى صديقه المقرب الأوحد مراد في سجون الاحتلال سيشتمه حين يعلم أنه واسى أوشارات بغياب زوجها الطيار الإسرائيلي مستنفراً في قاعدته العسكرية استعداداً لعدوان قادم على غزة، حين قال: إن جميع الصهاينة فخورون بالجيش وسلاح الجو الصهيوني، هاتفاً بشعار الجو الصهيوني «الجيدون للطيران».
لارتداء نور القناع ما يبرره لدى الكاتب، لتوفير مادة الرواية لبطله نسيم شاكر، هذا بالنسبة للقصة، أو لأجل نسج سردية تاريخية أخرى تناسب إرثنا الثقافي بديلاً لسردية مؤرخين زيّفوا وزوّروا الواقع بقصد أم بغير قصد، لأجل ذلك قام الكاتب بسرد معلومات تاريخية ودينية ضرورية للعمل الروائي، حول المجدلية و ثورة باركوخبا، والمعركة التي خاضها تحتمس الأول في مجدو، وعن معارك جيش الإنقاذ، كلها كانت مرتبطة مكانياً بموقع الحفر، لم يكن فيها إطالة على حساب تشويق الحدث ومتابعته، أراد لسرده أن يبوح في التاريخ المسكوت عنه، يقول: ما التاريخ في نهاية الأمر سوى تخيل معقلن، والبحث في الآثار بحث علمي يفصل حقائق التاريخ عن الأساطير، هذه ليست فقط بعثة آثار علمية بل كما يقول الكاتب على لسان سماء إسماعيل: ألا تعلم أن الآثار سياسة؟. أنتم من أحلتم التوراة دليلاً سياحياً، أليس كذلك؟. هذه أسئلة مهمة يطرحها الكاتب ومنها أسئلة وجودية “من أنا؟. من أبي؟. ما الأزقة؟. أين هويتي؟. أين ظلي؟. أين مرآتي؟. ماذا أفعل هنا؟. ” هل تضيع هويته وملامح وجهه تحت القناع متقمصاً شخصية أور الصهيوني الأشكنازي ؟. وأسئلة أخرى: أتعاتبني يا صديقي على مسعاي المجدلي وتتهمني بالهروب من الواقع إلى دهاليز تاريخية مجهولة المصير والمعنى؟. أليس الاستشراق الذي أهلكتني به هو من قضى على أنفاس المجدلية في بلادنا، وجعلها تترنم وتبتهل وتصلي باللاتينية واليونانية والفرنسية؟..
«قصة المجدلية» قصة مشوقة داخل قصة البحث في التاريخ والآثار، صراع بين بطرس والمجدلية، صراع بصبغة دينية بين الذكورة والأنوثة، فيها انتصار النهج الذكوري على النهج الأنثوي، واختفت المجدلية بوصفها حضوراً عرفانياً من المتون الدينية الإنجيلية الرسمية، معلنة بطرس أنه أول رئيس للكنيسة، ووحده من يحوز على الشرعية اليسوعية ليُقصي بصورة نهائية المجدلية منافسته الأقوى.. أما بالنسبة لـ«قصة نور-أور» فبعد نجاحه في الوصول والوقوف على حافة بئر المجدلية عاجزاً عن أن يرى ما في أعماقها، يخبرنا عن حلم ذات ليلة: بأنه نزل في هذه البئر، ينتزع غطاء كوة، ويدخل في دهليز مظلم ضيق، ليلمح في آخر الممر سبعة مشاعل متوهجة، ويصل إلى غرفة حيث يسمع صوت أنثوي رقيق ينبعث منها، يرنم بترنيمة، دقق فيها ملياً، رفعت الفتاة رأسها نحوه فجأة، ثم جمعت ضفائرها وراء ظهرها، كانت تشبه سماء إسماعيل، هكذا تنتهي قصة المجدلية بحلم بعيداً عن الواقع، لكن كان له أثره على عواطفه، حين يقول: أظلمت آفاق روايتي المجدلية وحلت محلها تجليات سماء.
كان اختيار عمل بطل القصة وتخصصه بعلم الآثار ذا أهمية بالغة، اختياراً موفقاً خدم الفن القصصي حيث يجري الحديث عن التنقيب في سياق السرد بسلاسة، و خدمت القضية الوطنية، فالأرض تبوح بأسرارها لمن يداعبها بيديه، هل هما يدا نور أم أور الباحث الأشكنازي؟. هل هما يدا سماء إسماعيل أم أيالا شرعابي اليهودية الشرقية؟. حيث تقفون لا يوجد سوى نكبة و شعب هجر من أرضه… حيث تقفون مقام شيخ تتبارك فيه النساء العاقرات من أجل الحمل والولادة، ولا « يوجد شمشون هنا ولا ما يحزنون». لا تريد اليد الصهيونية أن تنبش الحقائق الكامنة في مواقع الحفريات، لقد كان عمل نور في الحفر والتنقيب سريعاً ومتقنناً، أثار إعجاب المشرف العام على موسم التنقيب الثاني عن معسكر الفيلق الروماني السادس البروفيسور بريان مور، لقد عثروا هناك على قطع نقدية رومانية ليس إلا، لكن ثمة ما يمكن أن يكشف عنه في هذا السهل الواسع من حقائق مؤلمة للإنسانية تتحدث عن الوجع الفلسطيني وآلام النكبة وعن قرىً وبيوت فلسطينية تم تدميرها و إخفاءها تحت أشجار الغابة.
بعد إلغاء عملية التنقيب تحسباً من سقوط صواريخ إثر معركة سيف القدس التي اندلعت بسبب مسيرة الأعلام الصهيونية في القدس، واقتحام المسجد الأقصى من قبل المستوطنين. ومصادرة بيوت الفلسطينيين في حي الشيخ جراح، يُخرج الكاتب بطله نور من مستعمرة مشمار هعيمق، ممزقاً القناع، وبطاقة هوية أور شابيرا الاشكنازية المزورة، ونازعاً قلادة نجمة داود من عنقه، يرميهما بعيداً نحو السهل المحاذي للرصيف، ويعيد نور برمجة هاتفه من العبرية إلى العربية، في ختام الرواية ينتصر نور على أور، تلحق به سماء إسماعيل وتقلّه بسيارتها إلى رام الله، يستعيد لغته العربية ويقول لسماء إسماعيل: أنت هويتي و مآلي.
*باحث في المركز الفلسطيني للتوثيق والمعلومات «ملف»