عبد الرازق أحمد الشاعر*
تعبنا يا رسول الله! استأسد علينا الطغاة، فسامونا العذاب أصنافا والشقاء ألوانا، ولم يرقبوا في ضعيف ولا مسترق تحت أيديهم إلا ولا ذمة. وهن العظم منا والتهبت الجلود، وجئنا إليك بقلوب مؤمنة ونفوس راضية قانعة، لكننا نطمع أن تدعو الله لنا، ليرفع البلاء، فأنت النبي وفيك الرجاء. كان هذا لسان حال خباب ابن الأرت التميمي ومن جاء معه من مستضعفي قريش إلى صحن الكعبة حاملين آلاما مبرحة فوق ظهورهم وتحدوهم آمال طامحة في غد مختلف.
كان خباب قد ألف الشقاء منذ نعومة أظفاره حين هاجمت قبيلة عربية قبيلته، فاستاقت الأنعام وسبت النساء وأخذت الذراري، وكان هو أحد أطفال السبي، فانتقل من سيد إلى سيد حتى جيء به إلى مكة. وهناك، اشترته أم أنمار الخزاعية، وأخذته إلى أحد الحدادين ليعلمه صناعة السيوف والرماح والخناجر. فلما تمكن من صنعته، استأجرت له سيدته الخزاعية دكانا واشترت له عدة حدادة ليصبح أحد أشهر صانعي السيوف في ذلك الوقت.
لكن الشاب الفطن لم يستمرئ عبادة الأصنام، ولم يستسغ فكرة السجود لها، وكان يتمنى أن تصدق الأيام حدسه، ويرى بعينيه نهاية إساف وتحطيم نائلة، وقد كان. ولم يكد الفتى يسمع ببعثة النبي القرشي حتى أسرع إليه، وأقبل عليه، وجلس بين يديه، وأشهده بعدما سمع منه أن لا إله إلا الله وأنه رسول الله. ولما نما الخبر إلى أم أنمار، هرعت إلى أخيها سباع بن عبد العزى، واستعانت به على عبدها الصابئ. فلما أتاه وتأكد أنه قد اتبع محمدا، أمعن هو وجماعة من خزاعة في ضربه وتعذيبه. فلما لم يرتد عن دينه، أخذوه إلى الصحراء وقت الهاجرة، وجردوه من ثيابه، وألبسوه دروع الحديد وألصقوا الحجارة المحمية بظهره حتى نز شحمه. وحين أبى أن يذكر اللات والعزى بخير، أو أن يذكر محمدا بسوء أوقدوا حطبا حتى صار جمرا، وجروه فوق الجمر جرا حتى فقد وعيه. واستمرت حفلات التعذيب حتى سقط اللحم من بين كتفيه، وهو ثابت على دينه. ولما رأت أم أنمار محمدا معه في دكانه استشاطت غضبا، فذهبت إليه، وأوقدت الكير على حديدة حتى احمرت ووضعتها فوق رأسه حتى تصاعد الدخان منه، وفقد وعيه.
وفي صحن الكعبة كان ينام محمد، واضعا رأسه فوق بردته حين أتاه المعذبون من أتباعه يصطرخون: “ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟” فدعوة واحدة من خاتم الأنبياء كفيلة برفع كل هذا العذاب عنهم، أو هكذا يوقنون. عندها، ذكرهم النبي بحال الذين سبقوهم بإيمان: “قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يصده ذلك عن دينه. والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون.”
الدعاء ليس هو الإجابة إذن، ولا رفع البلاء النصر. حتى قتل سباع بن عبد العزى الذي تحقق على يد حمزة في غزوة أحد لم يكن هو الجائزة، ولا الصداع الذي كان يذهب بعقل أم أنمار ولا يذهب إلا بالكي. الفوز كان ولا يزال هو الصبر، والشهادة هي النصر، والثبات على الحق في زمن الفتن هو ديدن المؤمنين وغاية سعيهم في كافة العصور والأزمنة لأنهم يرون ما لا يرى الناس ويعلمون ما لا يعلمون. فما الحياة الدنيا إلا دار فتن، والأنبياء أشد الناس ابتلاء. سخر الكفار من نوح، وكادوا لإبراهيم، وكادوا يفتكون بموسى ومن معه، وآذوا محمدا، وقتلوا شعياء وزكريا ويحيى وغيرهم، وحاولوا قتل عيسى عليه السلام فرفعه الله إليه.
وأكاد أرى بأم عيني الهلع والفزع والرعب الذي تملك ماشطة فرعون وهي ترى أبناءها الخمسة يلقون في الزيت المغلي فتذوب شحومهم ولا يتبقى من هياكلهم إلا العظام، قبل أن تنضم عظامها إلى عظامهم في القدر نفسه. صحيح أن الماشطة المحتسبة لم يكتب لها أن ترى نهاية فرعون لتقر عيناها بغرق من أغرق حبات قلبها في زيته المغلي، لكن ذلك لم يكن يعنيها في شيء، فقد كان انتصارها في الثبات يوم زاغ بصرها وكاد قلبها ينفطر حزنا وكمدا.
لكل هذا، أكاد أجزم أن أهل غزة قد انتصروا، لأنهم اجتازوا كافة الابتلاءات من خوف وجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات بخطى ثابتة وقلوب محتسبة، فكانت بشرى الله لهم هي الجائزة “وبشر الصابرين”. لم يقل ربنا سبحانه “وبشر المنتصرين” لأن الحق قليلا ما ينتصر، ونادرا ما يسود. ولأبناء غزة قدوة في النبي وآله حين فرض عليهم المشركون الحصار حتى أكلوا أوراق الشجر. العبرة ليست بعدد القتلى أو مساحة الأرض المغتصبة إذن، وإن كان في انتصار الحق تثبيتا للمؤمنين وإذلالا للمشركين لتكون كلمة الله هي العليا، وهو واجب ديني وشرعي، لكن الانتصار في الثبات يوم الزحف ويوم تنكص الجيوش على أعقاب وتتوافد الأكلة على قصعة المؤمنين لينهشوا جسد الأمة الغض ويفضوا عذريتها على مرأى ومسمع من غثاء الأمة الذين ارتضوا الدنية في دينهم.