العروبة عند الدكتور عادل سمارة..يوتوبيا حالمة أم ضرورة تاريخية؟
ابراهيم أحنصال *
في حومة اشتداد العدوان الامبريالي والصهيوني على الوطن العربي، والذي تَرَكَّزَ منذ نحو عام أساساً في حرب اقتلاع وإبادة غزة في فلسطين المحتلة. وما رافقها من دعاية إيديولوجية رجعية تستهدف مسخ وعي الجماهير ودفعها إلى اليأس من جدوى مقاومتها والتشكيك حتى في مسلمات وجودها، حتى تكون فريسة سهلة تذعن لمشاريع الهيمنة الامبريالية. في خضم هذا التناقض التناحري على جميع المستويات، والذي تحتل فيه المقاومة العربية المسلحة طليعة هذا الصراع في غزة ولبنان واليمن، وما يرادف ذلك من حملات التشويه والتضليل بجميع أشكاله الذي يلعب فيه جواسيس إعلاميون وكتاب ومثقفون تتعدد تمظهراتهم (ليبريالية، دين سياسي، يساريون)، لكن يلتقون جميعا في خدمة الثورة المضادة.
في هذا المجرى العام للصراع المحتد، ولفهم خلفيته التاريخية وجذوره الطبقية وطبيعة المصالح الاقتصادية والسياسية والإيديولوجية المحركة للمركز الإمبريالي وللقوى الإقليمية والنظم الرجعية والكيان الاستيطاني، ومن أجل التخندق السديد وعن وعي نقدي فيه؛ أصدر الرفيق المقاوم عادل سمارة كتابا بعنوان: «العروبة في مواجهة الأنظمة، الامبريالية والاستشراق الإرهابي»، طبع هذا العام 2024. ولأن العنوان هو بمثابة الشكل المكثف لمضامين دفتي الكتاب، فإن العروبة هي فرش فكري وواسطة العقد يبدأ منها النقاش ويتعمق النقد، ولا يتشعب في مواضيع فصول الكتاب المتنوعة إلا ليعود ويصب فيها أكثر. لذا سنعمد ههنا إلى تقديم إضاءة مقتضبة لمفهوم العروبة كما وصَّفتها صفحات تقديم الكتاب حصراً، دون أن نتوسع إلى باقي فصول الكتاب على ما في ذلك من نقص وتقصير من جانبنا نعترف به. فما هي دواعي انحياز الكاتب وتشديده على العروبة؟ هل هو خاضع للاعتباط أم له مسوغاته النظرية ووجاهته العملية؟ بل، ما هي العروبة؟ أوليس لها طابع عنصري شوفيني؟
العروبة مصطلح وشعار عام ومجرد كشأن المصطلحات الرجراجة التي تعكس الشيء ونقيضه، وما يُكسبها معنى هو إنزالها من عُلياء التجريد إلى حقل الملموس التاريخي المعين؛ هنا يتحدد المصطلح بإعطائه محتوى سياسي وإيديولوجي يجعله يتمايز كنقيض عن التوظيفات البرجوازية له على أرضية الصراع الطبقي.
في معرض تعريفه للعروبة بأنها «بوتقة تشكلت تاريخياً من الجغرافيا والتاريخ والاقتصاد والثقافة ومختلف التحديات التي عاشتها مختلف القوميات والإثنيات في الوطن الكبير، بما هي جميعاً لها نفس الحقوق كمواطنين بغض النظر عن أعراقهم ومذاهبهم وأديانهم ومعتقداتهم الأرضية…» (ص:6)؛ ينفي عنها الكاتب أي نزوع نحو الانغلاق العرقي، كما ليست إقصاءً لغير العرب ولا حصراً عليهم «بمعزل عن أهل البلاد من غير العرب» (ص:6). وما يُضخ من دعاية أن الأكثرية العربية يمارسون اضطهادا ومصادرة ضد غير العرب، هو محض «فزاعة استعمارية امبريالية متحالفة مع الأنظمة الحاكمة في الوطن نفسه» (ص:10). إذ القوى الاستعمارية والأنظمة الحاكمة المتخارجة معها هي من يزرع ويذكي الصراعات الإثنية والطائفية، للتمويه عن طبيعة السلطة الحاكمة وطمس المصالح الاقتصادية القائمة ومن يحوز الثروة، لذا «فإن القمع يطال كل من يعارض أنظمة الحكم والاستغلال والإفقار والتوزيع المنحاز للثروة، يطال الطبقات الشعبية بمعزل عن الدين والقومية والإثنية» (ص:10)؛ وأن تكون السلطة في هذا البلد أو ذاك بيد طبقة برجوازية عربية، فهذا لا ينسحب على عموم الجماهير العربية بما هي ضحية لنفس منظومة الاستغلال والاضطهاد الطبقيين.
العروبة هنا تمثل عنصر الالتحام والتمازج القومي للكفاح ضد الامبريالية وتوابعها في كامل الوطن العربي، الذي كان وما يزال تحت الاستهداف والتقويض على يد الغرب الرأسمالي الاستعماري منذ المرحلة التجارية (الميركانتيلية) حتى المرحلة الامبريالية المعولمة، وحيث هو عرضة للاستعمار الاستيطاني وللتبادل اللامتكافئ وحتى استعماره بالكمبرادور المحلي واحتجاز تطوره. بهذا المعنى فالعروبة «هي عملية مشتبكة بطبيعتها»، وليست «مجرد أطروحة نظرية يمكن القبول بها أو نفيها أو تعديلها كأنها مجرد تجريد نظري» (ص:10). إذ ليس هناك ترف للمفاضلة بينها في الاختيار أو التردد في الانحياز لها، بما هي تعبير عن «مصلحة الأكثرية الشعبية في هذا الوطن في التحرير والتحرر والوحدة والتنمية والاشتراكية” (ص:5). والحالة هذه يصبح الفرز الطبقي بناء على تلك المستلزمات ضرورة: فـ«أيُّ الطبقات مع هذه الضرورات وأيُّ الطبقات لها مصالح ضدها. أي التي مارست كأقلية ديكتاتورية طبقية على الأكثرية فكرَّسَت القطرية والتبعية والرأسمالية المتخلفة، وصولاً إلى عدوان نظام على نظام قُطر آخر» (ص:6).
إن الحضور الموضوعي للعروبة هو خطوة تاريخية تقدمية يجعل منها خياراً مصيرياً لصد سياسة التفكيك والتفتيت الممنهجة استعماريا، فالانتماء إليها هو الأفق لـ«التلاحم بين تحقيق الدولة العربية المركزية وإنجاز المعركة المركزية أي تحرير فلسطين» (ص:11). لأن تحرير فلسطين لن يكون إلا عروبياً، ودون ذلك هو تقويض للمشترك في الوطن العربي وتخليد للقطرية، ونتيجة العملية لن تكون إلا «…تعجيز الفلسطينيين عن الانتصار، لأن هؤلاء وغيرهم من الأعداء يدركون أن التحرير عروبياً» (ص:12). فبتر فلسطين عن عمقها العروبي هو تجريد لها من عناصر القوة التي تزخر بها الأمة، وهو هدف استعماري صهيوني يتماهى مع إدامة التجزئة الاستعمارية وتكريسها.
يُضفي الكاتب على العروبة صفة «مشروع عملي تغييري مشتبك» (ص: 10)، بيد أن أي مشروع لاسيما إن لوَّح براية التغيير يبقى مجرد صرخة في وادٍ أو نشيداً للتغني: “بلاد العرب أوطاني…”؛ ما لم يتحول إلى قوة مادية بأن تعتنقه الجماهير، كما أن معيار صحته ومدى وجاهته ونجاعته لا يستمدها إلا في خضم الممارسة. هنا لزومية «بلورة قوة منظمة تتفهم هذه المشروطية وتقاتل عديد المعارك، كي تكتسب من خلال ذلك القدرة على كسب الحرب النهائية ضد الثالوث العدو: الإمبريالية والكيان الصهيوني والصهيونية العربية» (ص:11). هذا الرهان الكبير مدخله «حركة ثورية برؤية الصراع التناحري مع ثلاثي الثورة المضادة» (ص:12).
ختاماً، ما قدمناه لا يتعدى انتخاب عناصر من صفحات “التقديم” بحيث لا يغني ذلك عن العودة لقراءته في مصدره، ومن ثم قراءة كامل الكتاب. والذي في رأينا يتسم بزخم المواضيع وصرامة منهجية تحليلها وتأصيلها نظريا ورصانة طرحه للخطوات العملية؛ وهذا مدعاة للاشتباك النقدي مع مواقف وأفكار الكتاب. فكل الشكر والتقدير للمثقف المشتبك الرفيق عادل سمارة على هذا المنجز الفكري.
*كاتب من المغرب العربي