تحاليل و تقارير ساخنه

خريطة جديدة لغزة.. ماذا تريد “إسرائيل” من تمزيق القطاع؟

الكاتب الإسرائيلي تسافي بارئيل يصف محور فيلادلفيا بـ”طريق نتنياهو المعبّد بجثث الأسرى”

لم يكن قطاع غزة محاصرًا دائمًا كما هو الحال اليوم، ولم تكن الحدود التي نعرفها الآن تحمل التسميات الإسرائيلية التي قد تبدو جديدة وغريبة، لكنها أصبحت واقعًا مفروضًا بالقوة العسكرية والتهجير القسري، كما أصبحت تحمل مستقبلًا قاتمًا للقطاع، يتضمن تقسيمه جغرافيًا وأمنيًا بحيث يتم عزل كل جزء عن الآخر، في سياق تطهير عرقي يهدف إلى تغيير البنية الجغرافية والديموغرافية لأكبر سجن مفتوح في العالم.

نشر نائب رئيس بلدية الاحتلال في القدس أرييه كينغ، خريطةً في مطلع عام 2024، تظهر قطاع غزة مقسّمًا إلى مناطق زراعية وصناعية وسياحية، محاطًا بحزام أمني يمتد داخل القطاع، فيما يُحشر باقي سكان غزة في المساحة الضئيلة المتبقية.

بدأت بعض ملامح هذه الخريطة المفترضة تتكشف تدريجيًا على مدار الأسابيع التي تلت نشرها، حيث شرع جيش الاحتلال في تكثيف الضغط على الطرق والمحاور والمعسكرات داخل القطاع المحاصر أصلًا. ويمكن تلخيص هذه التحركات في 3 محاور رئيسية:

في أقصى جنوب قطاع غزة، يقع ما يُعرف بمحور فيلادلفيا حسب تسميات الاحتلال، أو محور صلاح الدين كما يُسمّى في السياق الفلسطيني، وهو طريق موازٍ للحدود المصرية مع قطاع غزة، ويبلغ عرض بعض أجزائه نحو 100 متر، ممتدًا على طول 14 كيلومترًا تقريبًا على طول الحدود بين غزة ومصر، ويشمل المحور معبر كرم أبو سالم ومعبر رفح.

كما هو الحال في معظم جولات التفاوض التي تخوضها “إسرائيل”، تظل هناك مناطق رمادية مصيرها معلق، حيث لم تُحدد اتفاقية كامب ديفيد لعام 1978 مصير هذا المحور بشكل صريح، لكن تناولت ترتيبات أمنية تشمل سيناء وقطاع غزة بشكل عام.

في بداية مايو/ أيار 2024، شنَّ الاحتلال الإسرائيلي حملة عسكرية واسعة على جنوبي قطاع غزة، وتحديدًا في مدينة رفح، حيث دمّر بشكل كامل معبر رفح، وهو نقطة الحدود البرية بين القطاع ومصر، كما أقام الاحتلال مواقع عسكرية في المنطقة، وبدأ بتجريف خط الحدود بشكل كامل، مهيئًا بنية تحتية عسكرية وطرقًا جديدة لتسهيل مرور الآليات، في سياق سعي الاحتلال لتهجير السكان المحليين واحتلال هذه المنطقة، بهدف إقامة منطقة عازلة.

وفي سبتمبر/ أيلول 2024، نشرت “بي بي سي” تحقيقًا يكشف عن قيام الاحتلال، بعد السيطرة على المنطقة، برصف طريق بالإسفلت على طول المحور، وقد اُعتبرت هذه الخطوة بمثابة رسالة إسرائيلية تؤكد أن الاحتلال لن ينسحب من هذا المحور، بل يسعى لخلق واقع جديد من خلال فرض قيود على الحركة بين غزة ومصر، بحيث تصبح إمكانية التنقل عبر هذا الطريق محكومة بشكل كامل من قبل الاحتلال، وبإرادته العسكرية.

كشف التحقيق أيضًا عن تدمير الاحتلال لمئات المباني القريبة من المحور بالغارات والجرافات، بما في ذلك مسح وتدمير قرية السويدية بالكامل، لتتحول إلى قاعدة إسرائيلية عسكرية في أقصى جنوب قطاع غزة متاخمة للحدود المصرية في محافظة رفح.

تكمن أهمية هذا المحور في أن سيطرة الاحتلال الإسرائيلي عليه تعني السيطرة الكاملة على الحدود البرية لقطاع غزة، وبالنظر إلى التواجد البحري الإسرائيلي قبالة سواحل القطاع، فإن الاحتلال يستطيع بذلك تضييق الخناق على حركة الأفراد والبضائع، بما في ذلك الأسلحة المهرّبة التي تصل إلى غزة عبر الأنفاق من سيناء، وفقًا لرواية “إسرائيل”.

المحور ليس مهمًا بالنسبة إلى “إسرائيل” وحركة حماس فقط، بل هو ذو أهمية أيضًا لمصر، ففي ظل الزيارة التي قام بها وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن إلى القاهرة في 20 أغسطس/ آب الماضي، كان الموقف المصري واضحًا في رفض وجود أو إعادة انتشار القوات الإسرائيلية في هذه المنطقة، فقد جدّدت مصر تمسكها بضرورة انسحاب قوات الاحتلال الإسرائيلي بالكامل من محور فيلادلفيا ومعبر رفح الفلسطيني، معتبرة أن ذلك جزء من سيادتها وأمنها القومي.

محور نتساريم
محور نتساريم هو طريق يقطع تقريبًا منتصف قطاع غزة، فاصلًا بين شمال وادي غزة وجنوبه، ويبدأ من الحدود الإسرائيلية مع القطاع ويصل إلى البحر المتوسط، وتمّت تسميته بـ”ممر نتساريم” نسبةً إلى المستوطنة الإسرائيلية التي كانت تقع على الطريق الساحلي في تلك المنطقة.

في السابق، أُطلق على هذا الطريق اسم “الإصبع الثاني”، لأنه كان يشكّل جزءًا من استراتيجية “الأصابع الخمسة” التي اعتمدها رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق أرئيل شارون، بهدف تقسيم قطاع غزة إلى أجزاء، بحيث تظل جميعها تحت السيطرة الأمنية الإسرائيلية، وهي خطة مشابهة لما يحاول رئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي بنيامين نتنياهو تنفيذه، إلا أن الخطة لم تنفّذ بالكامل، حيث تم تطبيقها جزئيًا فقط قبل أن يأمر شارون بالانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة عام 2005.

بعد أشهر قليلة من الحرب على غزة، بدأت تظهر المؤشرات الميدانية لإعادة إحياء ممر نتساريم، الذي أطلق عليه الجيش الإسرائيلي اسم “الطريق 749″، وقال حينها إن الهدف من هذا الطريق هو تسهيل حركة الآليات نحو القطاع.

وفي فبراير/ شباط 2024، نشرت “القناة 14” الإسرائيلية تقريرًا يكشف عن عمليات متواصلة باستخدام الجرافات والآليات لشقّ طريق عسكري جديد، يفصل شمال قطاع غزة عن وسطه وجنوبه، ويبدو أن هذا الطريق كان مخططًا له منذ بداية العملية البرية على قطاع غزة، في خطوة تستهدف إعادة رسم الجغرافيا العسكرية للقطاع.

مع مرور الوقت، بدأ المحور العسكري الجديد يقضم تدريجيًا الأراضي المجاورة له، فقد أنشأت قوات الاحتلال 4 قواعد عسكرية على طول هذا الممر، ممتدًا من كيبوتس بئيري الاستيطاني، ليشطر قطاع غزة من الشرق إلى الغرب، وصولًا إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط.

وتوسع هذا المحور على حساب مناطق فلسطينية كانت حيوية قبل أن تسويها “إسرائيل” بالأرض عبر عمليات هدم وتفجير واسعة على جانبَي الطريق، أبرزها أحياء في مدينة غزة مثل تل الهوى والزيتون والصبرة والشيخ عجلين، بالإضافة إلى مناطق شمال محافظة دير البلح، وتحديدًا شمال مخيم النصيرات ومدينة الزهراء وبلدة المغراقة التي مُسحت بالكامل، كما طالت عمليات الهدم مناطق شمال مخيم البريج ومنطقة جحر الديك شرق وادي غزة، فجّر الاحتلال كذلك جامعة الإسراء التي كانت تقع أيضًا على جانب الطريق.

تدريجيًا، بدأت تتضح الدوافع الخفية وراء إنشاء ممر نتساريم، حيث استغل جيش الاحتلال هذا المحور بشكل متكرر لفرض حصار خانق على تنقل الفلسطينيين بين الشمال وباقي مناطق القطاع.

ومع مرور الوقت، بدأت موجة تهجير قسري عنيفة في الشمال، تزامنت مع حصار مستمر يمنع وصول المساعدات الإنسانية، ودمّر المنشآت الحيوية مثل المستشفيات والمخابز، فيما استمرت الدعوات الموجهة للأهالي بترك منازلهم والنزوح إلى المناطق الجنوبية.

شنَّ الاحتلال أيضًا حملات عسكرية متتالية على الشمال تحت ذرائع مختلفة، وكان يعود مرارًا إلى المنطقة بعد إعلان انتهائه من العمليات أو القضاء على كتائب المقاومة هناك.

وفي ظل هذه العمليات، توسّع محور نتساريم بشكل ملحوظ من خلال إقامة منشآت عسكرية ثابتة ومراكز قيادة، ليتحول من مجرد طريق ضيق إلى محور متكامل يمتد بعرض يصل إلى حوالي 8 كيلومترات.

كما توسع طوله ليصل إلى عمق نحو 7 كيلومترات، فوق مساحة كبيرة تصل إلى حوالي 57 كيلومترًا مربعًا، أي ما يعادل تقريبًا مساحة مدينة غزة نفسها، ويقتطع هذا التوسع جزءًا كبيرًا من أراضي قطاع غزة التي تبلغ مساحتها الإجمالية 360 كيلومترًا مربعًا.

وتظهر صور الأقمار الصناعية أن المحور يضمّ ثكنات عسكرية وغرف عمليات ومناطق تجمع للآليات ومعتقلات وغرف تحقيق، بالإضافة إلى مرافق سكنية ومقرات إقامة دائمة للقيادة والوحدات العسكرية التابعة لجيش الاحتلال.

كما تزود “إسرائيل” جنودها في هذا المحور بخطَّين من المياه والكهرباء، فضلًا عن برج خلوي للاتصالات، ما يسمح لجنودها باستخدام هواتفهم بكامل طاقتها، في المقابل تدمّر “إسرائيل” شبكات المياه والصرف الصحي والاتصالات في غزة.

ويخضع المحور لسيطرة لوائي احتياط يدعمان فرقتَي مشاة ومدرعات، اللتين تشاركان في دعم عمليات الحفر واسعة النطاق في المنطقة، لضمان عدم وجود أنفاق للمقاومة تحت الأرض.

ويحتوي محور نتساريم أيضًا على معبر 96، الذي تم افتتاحه في مارس/ آذار الماضي تحت مزاعم الأغراض الإنسانية في القطاع، ومع ذلك تم استخدامه مرات قليلة فقط لإدخال المساعدات الإنسانية، بينما أصبح يستخدم بشكل متزايد لأغراض عسكرية.

محور مفلاسيم 
يُضاف إلى محورَي نتساريم وفيلادلفيا محور جديد ملاصق لمناطق العمليات العسكرية الحالية في بيت لاهيا وبيت حانون، بدأت ملامحه في الظهور مؤخرًا، ضمن خطة لتقسيم المناطق الفلسطينية في شمال القطاع، حيث يسعى الاحتلال عبره إلى فصل مناطق جباليا وبيت لاهيا وبيت حانون عن مدينة غزة.

وفي 10 نوفمبر/ تشرين الثاني، نشر المحلل الجغرافي الإسرائيلي بين تسيون مالكاليس، صورة لخريطة غير رسمية تستند إلى تحديثات عسكرية إسرائيلية، تظهر المحور العسكري الجديد شمال القطاع.

جاءت تسمية محور مفلاسيم بناءً على اسم مستوطنة مفلاسيم الحدودية مع قطاع غزة، التي كانت واحدة من أولى المستوطنات التي دخلها المقاومون يوم السابع من أكتوبر، وكانت تحتوي على مقر الاستخبارات التابع للوحدة 8200 الإسرائيلية، التي تُعتبر من أبرز الوحدات الاستخباراتية في الجيش الإسرائيلي.

بدأ جيش الاحتلال في إنشاء هذا المحور في 5 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، مع بداية العملية العسكرية في منطقة الشمال، ورغم أنه لم يُعلن عنه رسميًا، إلا أن المحللين اعتبروا أن هذا المحور يمثل خطوة قادمة لا محالة ضمن خطة جيش الاحتلال، التي تهدف إلى إخلاء شمال قطاع غزة وتحويله إلى منطقة عسكرية إسرائيلية.

قبل السابع من أكتوبر، كان عدد سكان محافظات شمال قطاع غزة يقارب 400 ألف نسمة، ولكن مع بداية العملية العسكرية في الشمال انخفض هذا العدد إلى نحو الربع تقريبًا، وبعد أكثر من شهر من العمليات العسكرية، تشير التقديرات الإسرائيلية إلى أن عدد السكان المتبقي في بيت لاهيا يقدر بحوالي 1000 إلى 3000 نسمة، بينما لا يتجاوز عدد سكان جباليا 1000 نسمة فقط.

وبذلك، تكتمل صورة هذه المحاور الثلاثة التي قسمت قطاع غزة إلى جزر معزولة، حيث يعاني المدنيون العالقون من نقص في العلاج والموارد الأساسية، بينما يُحرم الأطفال من المساعدات الإنسانية، وهكذا يواصل الاحتلال الإسرائيلي تحويل قطاع غزة إلى سجون متعددة داخل سجن أكبر، ما يعيد تكريس وجوده على الأرض، في صورة جديدة من السيطرة العسكرية لم تُنهيها عمليات الانسحاب الإسرائيلية عام 2005، بل جرى إحيائها بشكل أكثر تعقيدًا ودموية.

عقدة المحاور الإسرائيلية 
تشير عمليات التوسع الإسرائيلية التي ابتلعت حتى الآن نحو ثلث أراضي غزة وحولتها إلى شريط عازل ومناطق عسكرية مغلقة، إلى تحول كبير في الموقف الإسرائيلي، الذي كان يَتجنب احتلال أراضي القطاع، ما أدى إلى خلق فراغ سمح لحركة حماس على مدار العقدين الماضيين بإعادة تأكيد سيطرتها على أجزاء واسعة من غزة.

بناءً على ذلك، تشكّل المحاور العسكرية الإسرائيلية نقطة خلافية عميقة بين حماس و”إسرائيل”، في مساعي التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، فوفقًا لصحيفة “واشنطن بوست” الأمريكية، فإن السيطرة على هذين الطريقَين ستحدد بشكل حاسم شكل القطاع بعد الحرب، ومن سيكون له السيطرة واليد العليا في أي مفاوضات مستقبلية أو في أي صراع قادم.

أما بالنسبة إلى موقف “إسرائيل” من معبر فيلادلفيا، فإنه أصبح أحد أبرز النقاط التي تعوق المباحثات حول وقف الحرب في القطاع، ففي مايو/ أيار الماضي أعلن الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته جو بايدن، مشروع اتفاق بناءً على المقترح الإسرائيلي، لكن بنيامين نتنياهو عاد ليدرج شروطًا جديدة ضمن الصفقة، من بينها إبقاء قوات إسرائيلية في محور فيلادلفيا إذا تم التوصل إلى الاتفاق، ووصف ذلك بأنه “ضرورة” و”خط أحمر”، مؤكدًا أن تحقيق أهداف الحرب في غزة لا يمكن أن يتم دون السيطرة على هذا المحور، الذي وصفه بأنه “الأكسجين الذي تستفيد منه حركة حماس”.

تلاحقت الاتهامات لبنيامين نتنياهو من محيطه السياسي الضيق بعرقلة التوصل إلى اتفاق لوقف الحرب، وهو ما أثار غضب المؤسستَين العسكرية والأمنية في “إسرائيل”، ففي هذا السياق، يصرح اللواء الاحتياط إسحاق بريك بأن موقف نتنياهو من محور فيلادلفيا يعني “إخضاع مصير الدولة لحرب استنزاف لا نهاية لها”، ويُخاطر باندلاع حرب إقليمية.

يوافق بريك في هذا الرأي كل من الجنرالَين السابقَين جادي آيزنكوت وبيني غانتس، حيث يعتبران أن محور فيلادلفيا لا يُشكل تهديدًا وجوديًا على أمن “إسرائيل” كما يُدعي نتنياهو، وأنه لا يستحق التضحية بمستقبل الدولة من أجله.

وفيما يخص اتفاق فيلادلفيا، ذكرت تقارير صحفية عربية نقلًا عن مصادر مطلعة أن “إسرائيل” طلبت إلغاء اتفاق فيلادلفيا الذي وقعته مع مصر، بعد الانسحاب الأحادي الجانب من قطاع غزة عام 2005، لكن مصر تعتبر أن هذا المحور جزء من اتفاقية كامب ديفيد، وأنه يشكل جزءًا أساسيًا من أمنها القومي.

وبذلك، يبدو أن التوصل إلى اتفاق بين الجانبين أصبح بعيد المنال، فوفقًا للمعطيات الحالية، فإن انسحاب “إسرائيل” من قطاع غزة، من وجهة نظرها سيعيدها إلى الوضع الذي كان قائمًا قبل السابع من أكتوبر، ما يشكّل تهديدًا محتملًا لحركة حماس.

من جهة أخرى، تصرّ حماس على السيطرة الكاملة على القطاع، بما في ذلك الحدود مع مصر، وذلك للحفاظ على سلطتها في غزة وعدم فقدانها لصالح أي فصيل آخر أو جهة أخرى.

في ظل هذه العقدة المتعلقة بمحور فيلادلفيا، وتزايد الخلافات الإسرائيلية الداخلية، إضافة إلى تمسك المقاومة بانسحاب “إسرائيل” من هذا المحور، كشف البيت الأبيض عن تحضير مقترح اتفاق يتضمن بنودًا قد تشمل انسحاب قوات إسرائيلية من بعض المواقع المكتظة قرب الممر.

أما محور نتساريم فقد تحول إلى أحد الألغام التي وضعها بنيامين نتنياهو أمام الوسطاء، حيث تمسك بداية برفض قاطع للانسحاب منه، ما أغلق الطريق أمام مطلب حركة حماس بعودة النازحين إلى مناطقهم في شمال القطاع.

وفي تطور لاحق، سرّبت صحيفة “يديعوت أحرونوت” خبرًا مفاده أن نتنياهو اقترح حفر خنادق تقطع محور نتساريم من الشمال إلى الجنوب لمنع مرور المركبات، ووفقًا لهذا المقترح سيُجبر السكان الذين يرغبون في العودة إلى الشمال على السير على الأقدام، وهو ما يعكس الإصرار الإسرائيلي على التحكم الكامل في الحركة داخل القطاع.

وبينما تتعثر جلسات المباحثات في بحث ما يُسمّى “التفاصيل التقنية”، والتي تشمل قضايا مثل نتساريم وفيلادلفيا، تحولت المحاور الإسرائيلية إلى هدف دائم لفصائل المقاومة، فجنود الاحتلال الإسرائيلي يُقتلون قنصًا، بينما قذائف الهاون تواصل التساقط على مواقع التمركز التي أقامها الجيش الإسرائيلي على امتداد نتساريم.

ولذلك، وصف الكاتب الإسرائيلي تسافي بارئيل محور فيلادلفيا بـ”طريق نتنياهو المعبّد بجثث الأسرى”، ما يعبّر عن فداحة الثمن البشري الذي دفعته “إسرائيل” في سبيل الحفاظ على هذا المحور، وما دفع العديد من الأصوات داخل “إسرائيل” إلى وصف بقاء الجيش في هذه المنطقة بأنه “خطأ استراتيجي” قد يُكلفهم حياة المزيد من الجنود، خاصة مع الهجمات المتوقعة من الشمال والجنوب على نتساريم.

احتلال زاحف.. ماذا ينتظر القطاع؟
رغم أن استخدام القوة المفرطة غير المتكافئة واستهداف البنية التحتية والمراكز الطبية والمدنية يصنّفان ضمن جرائم الحرب بموجب القانون الدولي، فإن “إسرائيل” تواصل سعيها لفرض واقع جغرافي جديد في قطاع غزة بالدم والنار، من خلال عمليات عسكرية مكثفة تدمّر المنازل والمرافق الحيوية، في ظل الصمت الدولي الذي يُعتبر آثمًا تجاه هذا التغيير الجغرافي والأمني، والذي يبدو أنه لا يلقى الغضب أو الشجب بالقدر الكافي مقارنة بالصراعات الأخرى حول العالم.

وتسعى “إسرائيل” من خلال خططها العسكرية لتوسيع المحاور العسكرية وتقسيم القطاع إلى أجزاء معزولة، أو ما يُعرف بـ”خطة الجنرالات”، إلى إعادة تشكيل الخريطة الجغرافية للقطاع بما يخدم مصالحها الاستراتيجية، وبما يتسق مع دعوات متزايدة من اليمين المتطرف الإسرائيلي لضمّ القطاع إلى “إسرائيل” بشكل رسمي، وإفراغه من سكانه الأصليين، في محاولة لإعادة المستوطنات اليهودية إلى غزة مرة أخرى.

قبل أيام قليلة، وصل وزير الإسكان الإسرائيلي يتسحاق غولدكنوبف إلى حدود غزة برفقة مجموعة من المستوطنين غير الشرعيين، في خطوة واضحة لاستكشاف المستوطنات الإسرائيلية الجديدة في غزة، وشملت الزيارة جولة في مناطق محاذية للقطاع، وخاصة عند مدخل محور نتساريم الذي يقسم شمال ووسط غزة.

وخلال الزيارة، طالب غولدكنوبف بتوسيع الاستيطان اليهودي في القطاع، مشيرًا إلى أن هذه الخطوة تأتي كـ”انتقام” من هجمات السابع من أكتوبر، وردًّا على مذكرة الاعتقال التي أصدرتها المحكمة الجنائية الدولية ضد بنيامين نتنياهو ويوآف غالانت، وزير الدفاع الإسرائيلي السابق.

كما نشر الوزير الإسرائيلي اليميني المتطرف صورًا له مع دانييلا فايس، رئيسة حركة “ناحالا” الاستيطانية، التي تُلقب بـ”أم المستوطنين”، وفي إحدى الصور كان غولدكنوبف ينظر من خلال منظار إلى المنطقة المحاذية للقطاع، بينما كانت فايس تعرض خريطة للمواقع الاستيطانية المحتملة في غزة، والتي كان مكتوبًا عليها باللغة الإنجليزية “خريطة النواة الاستيطانية في غزة”.

وكانت عرّابة حركة الاستيطان الصهيونية، فايس، التي تقود الجهود لإعادة الاستيطان في شمال غزة، قد دخلت القطاع المحاصر بمساعدة جنود إسرائيليين لمسح المواقع المحتملة للمستوطنات اليهودية، وصرّحت أنها تنوي الاستفادة من الوجود العسكري في غزة لتوطين اليهود هناك تدريجيًا.

تضاف إلى ذلك تصريحات وزير المالية الإسرائيلي الداعم للاستيطان في الضفة الغربية، بتسلئيل سموتريتش، لكن عينه هذه المرة كانت على قطاع غزة، إذ شارك بمهرجان لدعم الاستيطان بالقطاع، وصرّح بضرورة احتلاله وتقليص عدد سكانه إلى النصف، وزعم في مناسبة أخرى أن “السيطرة المدنية على القطاع هي الوسيلة الوحيدة لهدم السلطة المدنية لحركة حماس”، ويبدو أنه يخبئ مكائد استيطانية مع تولي ترامب الرئاسة.

تحت غطاء “تحضير العودة”، وعلى بُعد مئات الأمتار من حدود غزة، يقود وزير الأمن القومي الإسرائيلي اليميني المتطرف إيتمار بن غفير حملة عنصرية تهدف إلى تهجير الفلسطينيين وإعادة احتلال القطاع، بدعم من نواب الليكود وأحزاب ومنظمات يمنية متطرفة مؤيدة للاستيطان، وفي تصريحات له، قال بن غفير: “لدينا فرصة تاريخية لإعادة الردع واحتلال قطاع غزة وتشجيع الهجرة الطوعية لأعداء إسرائيل”.

وفي سياق جهود احتلال واستيطان غزة المتصاعدة علنًا، كشف تحقيق لموقع “دروب سايت نيوز” أن المستوطنين الإسرائيليين يتعاقدون بالفعل مع شركات خاصة للقيام بأعمال هدم المنازل في بيت لاهيا، لتضاف إلى عمليات الهدم واسعة النطاق التي يقوم بها جيش الاحتلال في شمال القطاع حيث يواجه السكان المجاعة والقصف المكثف، وأكدت إحدى الشركات أنها تستأجر أشخاصًا للعمل في بيت لاهيا بشمال غزة، ما يسمح للعمال المدنيين بالدخول إلى غزة إلى جانب جيش الاحتلال الإسرائيلي.

هذه هي المرة الأولى التي يتم فيها توثيق عمل شركة خاصة في شمال القطاع، وهي شركة “ليبي” المتخصصة في بناء البؤر الاستيطانية، ولها باع طويل في بناء المستوطنات في جميع أنحاء الضفة الغربية المحتلة، وهي مملوكة لمجموعة من المستوطنين الذين لديهم تاريخ حافل في مهاجمة المجتمعات الفلسطينية، ففي عام 2012 أُمر مدير الشركة هاريل ليبي، إلى جانب 11 مستوطنًا آخرين، بمغادرة الضفة الغربية بعد أن هاجموا الفلسطينيين.

عسكريًا، يبدو أن “إسرائيل” تخطّط للبقاء طويلًا في القطاع، حيث وسَّع جيش الاحتلال خلال الأشهر الأخيرة تواجده عبر تحصين القواعد العسكرية التي أنشأها، وهدم المباني الفلسطينية بالتزامن مع استمرار عملياته العسكرية في الشمال لفصله عن غزة وإخلائه من سكانه، وهو ما يؤكده قادة إسرائيليون تعهّدوا بالحفاظ على السيطرة الأمنية في غزة حتى بعد الحرب، وفقًا لصحيفة “نيويورك تايمز“.

ووفق تقارير حقوقية، فإن الطريقة التي يدير بها جيش الاحتلال الأعمال العدائية في شمال غزة، بما في ذلك الهجمات على الملاجئ والحصار وغير ذلك من القيود المفروضة على دخول وتوزيع المساعدات والهجمات على النازحين، تشير إلى أن تصرفات “إسرائيل” تهدف إلى إفراغ تامّ لمنطقة شمال محور مفلاسيم من سكانها المدنيين الفلسطينيين بالموت أو التهجير القسري، وجعلها منطقة عسكرية معزولة لتحييد أي عمليات مستقبلية يمكن أن تستهدف المناطق التي هاجمتها المقاومة في السابع من أكتوبر.

تخفي مثل هذه التحركات وراءها سيناريوهات قاتمة بدأت بهجوم بري وجوي وبحري سوَّى القطاع بالأرض، ولم تنتهِ عند السيطرة على المنطقة ومنع مواطنيها من العودة إليها، وهي تغريبة اختبرها الفلسطينيون سابقًا ومرارًا، وقد يختبرونها مجددًا مع وقوف غزة على أعتاب مرحلة انتقالية معقدة قد تؤدي إلى تشكيل غزة جديدة تمامًا على مختلف الأصعدة الإدارية والسياسية والجغرافية.

المصدر/ نون بوست

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *