إنصافٌ لشعب فلسطين أم إذعانٌ لإسرائيل!!

سماك العبوشي*
توطئة واستهلال:
أستهل مقالي هذا بذكر مثل عراقي شهير يقول باللهجة الدارجة و سأفسره لاحقا، و هذا نصه: ( اللي يشوف الموت يرضى بالصْخُونه)، و تفسيره كالتالي: الذي يرى الموت بأم عينيه فإنه سيرضى حتما بالحُمّى و يقنع بها ويتحمل تبعاتها!!
ذاك لعمري و باختصار شديد ما سعى إليه رجل الصفقات و العقارات ترامب – بالتنسيق التام مع النتن ياهو- من خلال طرحه لصفقة تهجير أبناء غزة لإقامة مشروعه الاستثماري (ريفيرا الشرق الأوسط)!!، ليكون بذلك كمن يلقي الكرة في ملعب العرب من أجل إشغال قادة أنظمتهم بتداعيات هذه الخطة، و ينسوا بالتالي أصل و جذور قضية فلسطين التي مضى عليها عقود طويلة !!
هذا لعمري أولا.
أما ثانيا، فلكي يهملوا و يضعوا جانبا شرعية مقاومة شعب فلسطين للاحتلال !!
أما ثالثة الاثافي… فلكي ينهمكوا بمناقشة كيفية الرد و مجابهة خطة ترامب اللعينة من جانب، و من جانب آخر البحث و التدارس في كيفية (التحايل!!) على الكيان اللقيط و إقناعه على التنازل و (التكرم!!) بقبول فكرة منح الفلسطينيين جزءً صغيرا من أرضهم التاريخية المغتصبة ليقيموا عليها دولتهم التي طال انتظارها منذ مؤتمر أوسلو على أقل تقدير!!
هكذا ببساطة شديدة تنقلب الأولويات عند قادة أنظمتنا العربية لتتغير وجهة بوصلتهم و تنحرف من قضية إنصاف شعب فلسطين الذي واجه الاضطهاد و التنكيل و القهر و التهجير و اغتصاب الحقوق طيلة عقود خلت، و بالتالي تغافل هذه الأنظمة العربية و النكوص عن دعمهم للمقاومة الفلسطينية من أجل استرداد حقوق شعبهم السليبة، لتصبح أولوية قادة الأنظمة العربية الآن تتمثل بكيفية إجهاض خطة ترامب الخاصة بتهجير الفلسطينيين من غزة العزة، ليسجل ذلك لهم إنجازا تاريخيا و فتحا عظيما، و لتبدأ جوقات المطبلين و العازفين و المرجفين بعزف سيمفونيات الانتصار الكبير الذي تحقق على أيدي قادة أنظمتهم العربية من خلال اجهاض خطة التهجير والترحيل!!
فهل فهمتم الآن مغزى المثل العراقي الذي نوهت عنه في مستهل مقالي!!؟
لقد حبسنا أنفاسنا نحن العربَ طيلة الأيام التي سبقت انعقاد القمة العربية الطارئة و (العاجلة) في القاهرة، حيث تقاذفتنا التسريبات الإعلامية و تكهنات المحللين السياسيين عما تحتويه الخطة المصرية المقترحة و التي ستقدم لقمة العرب (الطارئة!!) لمجابهة خطة ترامب، و ما سيصدر من قرارات عربية تعالج الطارئ من مُلمّات خطيرة في مستقبل قضية فلسطين و المتمثلة بتداعيات العدوان الإسرائيلي المستمر على قطاع غزة طيلة خمسة عشر شهرا متواصلة مارست فيه قوات الاحتلال الصهيوني بمنتهى الحرية والأريحية عمليات الإبادة الجماعية هناك، كما وقامت بتدمير ممنهج للحياة الإنسانية حتى وصل نسبة التدمير بما لا يقل عن 80% من مبانيها و مؤسساتها و منشآتها، و ما يزيد المشهد العربي قتامة و بؤسا ما واجهه الشعب الفلسطيني الأعزل من الخذلان العربي لهم طيلة أشهر العدوان الوحشي لجيش الاحتلال، إلا اللهم من اجتماع قمتين عربيتين كانا كالجبلين اللذين تمخضا فولدا فأرين، و كم كبير من بيانات الشجب و الاستنكار و التنديد!!
ربما كان من معطيات مقررات قمة القاهرة إحباط خطة ترامب بتهجير شعب فلسطين من غزة، و البدء بإعمار ما دمره جيش الاحتلال الإسرائيلي بمساندة و دعم مباشر من قبل الولايات المتحدة الأمريكية و على مختلف الصُعُد و الميادين!!، لكنني أخشى فيما أخشاه أن يكون ثمن مقررات قمة القاهرة سيكون تجريد شعب فلسطين من سلاح المقاومة و إلى الأبد، ليرضخ بالتالي لإملاءات و شروط الكيان الغاصب، و لتضيع و تطمس قضية فلسطين و إلى الأبد!!!!
فهل يُعدّ هذا بربكم انتصارا حقيقيا مشرفا للقضية الفلسطينية و لشعب فلسطين!!؟
و إذا كان الهدف من المقررات هو اسكات المقاومة و لجمها فتعسا إذن لإعمار يُجَرّد شعب فلسطين من وسيلة نيله لكرامته و استرداد حقه السليب المغتصب!!؟، فإبقاء جذوة المقاومة و دعمها لعمري أمر أقرته الأعراف الدولية لكل شعب واقع تحت الاحتلال و نيره حتى إنهاء الاحتلال و استرداد كامل الحقوق!!
المضحك في آمر هذه القمة العربية أنها جاءت لتبحث في معطيات و تداعيات (ما بعد!!) استمرار العدوان الإسرائيلي على غزة العزة و على امتداد 15 شهرا، حيث ارتكبت قوات الاحتلال المجازر المروعة التي طالت 48 ألفا و 181 شهيدا، في حين ارتفعت حصيلة المصابين إلى 111 ألفا و 638 مصابا، كما و دمرت معظم مباني و منشآت غزة، فالتأمت القمة بعد الهدنة و وقف إطلاق النار، و لم يكن لقمة العرب دور فاعل و مباشر في إيقاف العدوان على غزة!!
فكيف سنصدق أن من ظل طيلة 15 شهر يتفرج على إبادة جماعية و تدمير ممنهج لقطاع غزة قد هزته النخوة العربية و حركته المشاعر الإنسانية فأصبح الآن حريصا على مصير القضية الفلسطينية عموما و غزة على وجه التحديد!!
و في المقابل، و كي نكون منصفين، فإننا لا ننكر أن قرارات القمة العربية في القاهرة قد تضمنت رسائل إيجابية تتعلق برفض تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة و رفض التطهير العرقي، إلا أن القادة العرب قد تغافلوا تماما عن حقيقة أن الكيان اللقيط كان قد سبقهم باتخاذ خطوات تصعيدية ضد قطاع غزة و في تَحَدٍّ مُباشر لهم ولقرارات قمتهم، بهدف استِفزازهم و ابتِزازهم و إفراع قرارات قمتهم و إجهاضها لتبقى حبرا على ورق، و ذلك من خلال شن حرب تجويع و حرمان على القطاع بوقف دخول المُساعدات الإنسانيّة قبل انعِقاد القمة العربية بيومين فقط، و تحديدا عشية بدء شهر رمضان المُبارك، في تعمّدٍ مقصودٍ يُؤكّد مدى استهانة هذا العدو و داعمه الأمريكي بالأنظمة العربية، و لقد كان لزاما على قادة الأنظمة العربية رد إهانة حكومة النتن ياهو التي أقدمت عليها قبل أيام قلائل من عقد القمة الطارئة في القاهرة و ذلك بتضمين بيانهم الختامي توصيات مشددة تنص على كسر عربي جماعي للحصار عن قطاع غزة بوسائل واليات معينة و محددة، و بالتالي إدخال المساعدات الإنسانية لأبناء غزة وذلك تلقينا للنتن ياهو و حكومته اليمينية المتطرفة درسا قاسيا من جانب، و رد الاعتبار للقمة العربية من جانب آخر، هذا كما و أضيف جملة الحقائق الدامغة التالية:
أولا… إن البيان الختامي للقمة قد خلا تماما من ذكر الخطوات التي سيتبعها العرب للتصدي للإجراءات الإسرائيلية إذا ما استمر في خرق اتفاق تبادل الأسرى و وقف إطلاق النار في غزة و قام باستئناف الحرب على الغزيين مجددا!!.
أما كان الأولى بالقمة أن تتخذ أولا خطوات عملية و جادة لإجبار الاحتلال على إنهاء العدوان على غزة و وقف القتال، كي يقرروا بعدها تنفيذ خطة لإعادة إعمارها!!.
ثانيا … لم يتطرق البيان الختامي الى خيارات العرب فيما لو رفضت واشنطن و تل أبيب نتائج قمة القاهرة؟
ثالثا … خلو البيان الختامي للقمة من أي توصية صريحة الى الأنظمة العربية التي تقيم علاقات دبلوماسية مع الكيان اللقيط بأن تمارس دورا فاعلا لزيادة فاعلية و جدية قراراتها من خلال التلويح بقطع العلاقات الدبلوماسية و سحب السفراء!!
رابعا… أكدت القمة العربية في بيانها الختامي أن ملف الأمن في غزة يجب أن يدار من المؤسسات الفلسطينية الشرعية، و أن إدارة غزة المؤقتة ستعمل تحت مظلة الحكومة الفلسطينية، و لقد تغافل قادة أنظمتنا العربية أمرين اثنين:
1- تقاعس قيادة السلطة الفلسطينية على تنفيذ ما صدر من قرارات هامة و مصيرية كانت قد اتخذتها الفصائل الفلسطينية باجتماعها الذي تم في بكين بتاريخ 22 يوليو 2024 و اتفقت فيه على “مقاومة و إفشال محاولات تهجير الفلسطينيين من أرضهم، و تأكيد عدم شرعية الاستيطان و التوسع الاستيطاني وفقاً لقرارات مجلس الأمن و الجمعية العامة للأمم المتحدة و رأي محكمة العدل الدولية”، و لقد كان حري بقيادة السلطة الفلسطينية الموقرة أن تسارع في أعقاب اجتماع بكين هذا بإنهاء الانقسام بالمشهد الفلسطيني الداخلي و تعزيز الوحدة الوطنية و بالتالي الإسراع بالدعوة لتشكيل حكومة وفاق وطني فلسطيني لتكون بذلك مهيأة تماما كي تكلف بإدارة ملف غزة إداريا و أمنيا!!
2- كلنا تابعنا عبر القنوات الفضائية بأسف و ألم شديدين اللامبالاة و عدم الاكتراث الذي أبدته قيادة السلطة الفلسطينية و وقوف قوات أمن السلطة الفلسطينية المدججة بالسلاح و العتاد موقف المتفرج غير المكترث لما يجري في مدن و قرى و مخيمات الضفة الغربية من قتل و اعتقالات و تهجير و تجريف للبنى التحتية على يد القوات الإسرائيلية و التي تزامنت انتهاكاتها لها مع العدوان على غزة و استمرت حتى لحظة انعقاد القمة العربية و صدور بيانها الختامي، فكيف يأمن هؤلاء القادة العرب على مصير و مستقبل غزة!!؟
خامسا … أكد البيان الختامي بأن الخيار الاستراتيجي للدول العربية هو تحقيق السلام العادل و الشامل الذي يلبي جميع حقوق الشعب الفلسطيني، و حقه في الحرية و الدولة المستقلة ذات السيادة على ترابه الوطني على أساس حل الدولتين، و كأننا نسينا ما جاء باتفاقيات أوسلو قبل ثلاثة عقود خلت و التي امتلأت بنودها بهكذا طروحات و ديباجات، و كيف تم الالتفاف من قبل الكيان اللقيط على بنود اتفاقيات أوسلو تلك و لم يتبق من فكرة حل الدولتين الا ذكرى أليمة في ظل اتساع قضم إسرائيلي لأراضي مدن و قرى الضفة الغربية و حول مدينة القدس التاريخية وانتشار الخلايا السرطانية للمستوطنات فيها، علاوة على انتهاكات و اقتحامات لمدن الضفة و قراها و مخيماتها، و تصريحات فجة وقحة لحكومة النتن ياهو بعدم اعترافهم بدولة فلسطينية كما بينا آنفا!!
سادسا … الغريب في الأمر أن البيان الختامي للقمة لم يتطرق الى تحميل العدو الإسرائيلي مسؤولية التدمير الذي حدث في غزة، كما و لم يتطرق الى ما تمارسه حكومة النتن ياهو من تلاعب بمصير قرار وقف القتال و كسر الهدنة و التلويح المستمر للعودة من جديد للقتال، و حديثه عن إنهاء المقاومة و تجريد حماس من سلاحها بالكامل!!
سابعا … إن أي حديث عن رفض التهجير للشعب الفلسطيني دون تبني و احتضان المقاومة الفلسطينية – صمام الأمان لهذا الرفض- سيبقى بلا جدوى!!
ثامنا … كما و أن أي حديث عن قوات دولية تتواجد في غزة و الضفة الغربية كما ورد في البيان الختامي لا يمكن القبول به، حيث أنها ستكون بديلا عن الاحتلال، و لنا عبرة بمجزرة سربرنيتسا التي وقعت في البوسنة و الهرسك عام 1995 و راح ضحيتها أكثر من 8300 مسلم، الذين قتلوا على أيدي عناصر من جيش صرب البوسنة أمام أنظار القوات الدولية ( وتحديدا الكتيبة الهولندية المسماة الخفافيش الهولندية) التي لم تحرك ساكنا لإنقاذهم، بل و سلمت أيضاً أكثر من 350 من البوشناق المسلمين، الذين لجأوا إلى قاعدة الأمم المتحدة، إلى القوات الصربية، التي قتلتهم في وقت لاحق!!
لقد اعتادت جماهيرنا العربية أن تخرج قممنا العربية سابقا ببيانات الشجب و التنديد و الاستنكار، و يبدو لنا بأن مشروع بيان القمة هذه المرة قد فاق توقعاتنا و تجاوز مرحلة الشجب و الاستنكار، و لا أدري، فلعل أنظمتنا العربية قد استشعرت أخيرا بالخطر الإسرائيلي الجدي القادم على حدودها و أمنها، و ذلك في أعقاب ما صدر من تصريحات للنتن ياهو و عصابته و تلميحاتهم المستمرة التي كشفت حقيقة اطماعهم الرامية لضمّ الضفة الغربية و تهجير أبناء الضفة و غزة، و صدور قرار في الكنيست يعلن رفضهم إقامة “دولة فلسطينية” على أرض فلسطين التاريخية، إضافة الى الوقاحة التي اتصف بها النتن ياهو حين دعا ولي العهد السعودي محمد بن سلمان لتخصيص قطعة أرض في بلاد الحرمين الشريفين لإقامة دولة فلسطينية فيها، و دعواته المتكررة بتشجيع من ترامب و مؤازرته لمصر و الأردن استضافة الفلسطينيين على أراضيهم، وصولا إلى فرض وقائع احتلالية جديدة في سوريا ولبنان!!.
ختاما …
أقول لأبناء غزة العزة و الكرامة و الرباط ما جاء في محكم آياته تعالى من سورة التوبة، الآية 111:
“إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ ۚ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ۚ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ“.
وإنه لجهاد … نصر أو استشهاد.
بغداد في 6/3/2025