«القمة العربية» في الظهران والفجر السوري القادم لا محالة
د. إبراهيم علوش
تحية لجمهورية بوليفيا ورئيسها المناهض للإمبريالية إيفو موراليس على الموقف المشرف لبوليفيا في مساندة سورية ضد مشاريع القرارات الأمريكية-الصهيونية المعادية في مجلس الأمن، في وقتٍ اتخذت فيه بعض الدول المسماة «عربية» موقفاً مخجلاً إزاء تلك القرارات ذاتها وإزاء العدوان الثلاثي على سورية، في الأمم المتحدة، وفي القمة الرسمية العربية في الظهران في 15 نيسان الجاري. وقد تمخض البيان الختامي لهذه القمة عن قرارٍ مهترئ، يُسقِط أي مفهومٍ كحدٍّ أدنى للأمن القومي العربي، تحدث بضبابية عن «طموحات الشعب السوري الذي يئن تحت وطأة العدوان»، من دون تحديد ماهية ذلك العدوان الذي عُقدت القمة الرسمية العربية في الظهران على إيقاعه بتحريضٍ وتمويلٍ ودعمٍ رسمي خليجي، في تعبيرٍ عامٍ هلاميٍ، قابلٍ للتأويل حتى تلك النقطة في عدة اتجاهات، فيما يبدو أنه شكّل «صيغة ترضية» لبعض الدول العربية المناهضة للعدوان على سورية، لتعود الفقرة التي تلي ذلك مباشرة لـ «تدين بشدة استخدام النظام السوري للأسلحة الكيماوية المحرمة دولياً ضد الشعب السوري»، في تغافلٍ متعمدٍ لحقيقة ما جرى على الأرض، في الغوطة الشرقية وفي غيرها، وفي استباقٍ لنتائج التحقيقات التي دعت سورية وروسيا لإجرائها، وفي تبنٍ فاضحٍ للخطاب الغربي والصهيوني ضد سورية.
لم يكتفِ بيان قمة الظهران بذلك، بل راح «يطالب المجتمع الدولي بالوقوف ضد هذه الممارسات تحقيقاً للعدالة وتطبيقاً للقانون الدولي الإنساني»، وهو ما يقدّمُ فعلياً غطاءً رسمياً عربياً (يمثل الأنظمة لا الشعب العربي) للعدوان الثلاثي على سورية وتحريضاً على استمرار العدوان، حتى لو زعم البعض أن بيان القمة العربية في الظهران، المسماة زوراً «قمة القدس»، والقدس منها براء، تضمّن «شبه موقف» من العدوان الثلاثي على سورية!
إنه لمن العار، ولكن ليس من المفاجئ، أن تتخذ بعض الأنظمة العربية (المنفصلة عن الشعب العربي انتماءً وتوجهاً) مثل هذه المواقف المعيبة، ولكن من قدَّم غطاءً رسمياً عربياً للعدوان على العراق من قبلُ، وعلى ليبيا، وللعدوان الصهيوني على لبنان عام 1982، بعد رفض سورية والعراق وليبيا والجزائر والقوى والأحزاب الوطنية والقومية في فلسطين والوطن العربي مبادرة «سلام وتطبيع» مع العدو الصهيوني سميت وقتها «مبادرة الأمير فهد» لعام 1981، لتتم إعادة فرض تلك «المبادرة» عربياً بعد الاجتياح الصهيوني للبنان عام 82، في قمة فاس الثانية في 6 أيلول من ذلك العام، ليس من المستغرب قط أن يدعم العدوان الثلاثي على سورية عام 2018، فما يقوم به هؤلاء اليوم ليس إلا حلقة جديدة من سلسلة التواطؤ مع الأجندة الغربية والصهيونية في بلادنا.
وإنه لمن المعيب، ولكن ليس من المفاجئ، أن يؤكد بيان «القمة العربية» في الظهران على ما سماه «مبادرة السلام العربية» لعام 2002 بعدما أعلنت إدارة الرئيس الأمريكي ترامب اعترافها بالقدس «عاصمةً» للكيان الصهيوني وعزمها نقل سفارة الولايات المتحدة إليها ودوسها السافر حتى على حساسيات حلفائها في الأنظمة العربية، وإنه لمن المعيب أن يتم التأكيد على التمسك بما يسمى «مبادرة السلام العربية» في ظل القتل اليومي الذي يمارسه العدو الصهيوني على شعبنا في غزة وعموم فلسطين، وبعد 16 عاماً من رفض العدو تلك المبادرة التي جاءت آنذاك في سياق «إجهاض الانتفاضة الفلسطينية» سياسياً وفي سياق التمهيد لتدمير العراق واحتلاله، والتي مثّلت نسخة «مزيدة ومنقحة» من قرارات قمة فاس لعام 1982 (فهي لم تكن من بنات أفكار الصحفي الأمريكي توماس فريدمان كما زعم البعض)، مع العلم أن العدو الصهيوني رفض مقررات قمة فاس أيضاً قبلها بعشرين عاماً، لكن عندما «يطق عِرق الحياء»، يصبح الضرب في الميت حراماً.
إن عقوداً من استجداء الجامعة العربية «السلام» من العدو الصهيوني، لم يقابله ذلك العدو إلا المزيد من الغطرسة والاستهتار والاستيطان والتهويد والقتل والإجرام وإثارة الفتن في البلدان العربية، فجاء «ردّ معظم» النظام الرسمي العربي على كل هذا بالمزيد من التطبيع مع العدو الصهيوني، وبالشروط الصهيونية، متجاوزاً حتى شروطه التفريطية السخيفة لما يسميه «السلام» مع العدو الصهيوني، باتجاه عقد تحالف مع ذلك العدو ضد كل حالة مقاومة عربية، لا ضد إيران فحسب، وقبل ذلك ضد العراق وضد ليبيا، والآن ضد سورية، وقد تحولت «الجامعة العربية» بذلك إلى أداة ضد العروبة الحق، عروبة الشعب، عروبة المقاومة، وعروبة الأرض التي تفرط «الجامعة العربية» بها، وتدعو الغرب لقصفها أو تأسيس قواعدَ فيها.
إن إبقاء مقعد سورية في «الجامعة العربية» شاغراً لا يقلل بتاتاً من عروبة سورية، بل من يمس عروبة «الجامعة العربية» ذاتها، والعروبةُ هويةٌ وانتماءٌ ينبثق من وجودٍ اجتماعي-سياسي يضرب جذوره عميقاً في تاريخنا قبل الإسلام وبعده، أما «الجامعة العربية» فهي الإطار الرسمي الذي تم إنشاؤه لتكريس الكيانات القُطرية التي فصّلها الاستعمار على قياسه، ولذلك فإن القرار السياسي الصادر عن «الجامعة» يعكس ميزان القوى بين أقطاب السياسة الرسمية العربية ولا يعكس العروبة، وفي مثل هذه المرحلة الرثة، يعكس القرار الرسمي العربي هيمنة منظومة البترودولار الخليجية على القرار الرسمي العربي، لا مصلحة الأمة العربية أو مشاعر الشعب العربي الذي لا يمكن في المحصلة أن يؤيد العدوان الغربي والصهيوني على بلدان الوطن العربي.
لكن هذه المنظومة البترودولارية الخليجية التي لم تتمكن من الهيمنة على القرار الرسمي العربي إلا بعد معاهدة كامب ديفيد وانسحاب مصر من دورها العربي (والإفريقي والعالمي)، والعدوان الذي شاركت فيه تلك المنظومة مع الإمبريالية على العراق وليبيا، وتراجع المدّ القومي والتحرري في الشارع العربي الذي عملت تلك المنظومة على إطلاق حركات «الإسلام السياسي» لاحتوائه، والذي ما برح ينشر الإرهاب التكفيري من «العشرية السوداء» في الجزائر حتى سورية وسيناء اليوم، نقول إن تلك المنظومة البترودولارية باتت تعيش اليوم أزمةً رهيبةً وهي تراقب اختناق مشروعها في سورية، مؤخراً في الغوطة الشرقية، وارتطام عدوانها على اليمن بحائطٍ مسدود، وتراكم الخبرات والقدرات العسكرية لحزب الله، وانكشاف نهج التسوية مع العدو الصهيوني، واستمرار مقاومة الشعب العربي الفلسطيني للاحتلال الصهيوني في أصعب الظروف، ودخول دول البترودولار في أزمة اقتصادية مستعصية، ولاسيما، صمود سورية، بعد أكثر من سبع سنوات من العدوان عليها، وتمكنها من احتواء آفة الإرهاب التكفيري المدعومة غربياً وصهيونياً وخليجياً، واستعادتها الكثير من المناطق التي كانت تسيطر عليها العصابات الإرهابية، وأخيراً، وليس آخراً، فشل العدوان الثلاثي على سورية الذي دفعت منظومة البترودولار مالاً وفيراً من عائداتها المتناقصة لتمويله، كما قال سماحة السيد حسن نصرالله.
وها هو ميزان القوى في المنطقة والعالم في طور التغيّر، والدول الغربية والخليجية وتركيا والحركة الصهيونية التي لم تألُ جهداً في محاولة «إسقاط» الدولة السورية فشلت فشلاً ذريعاً، وقد باتت تدرك أنها لم تعد تتمكن من فرض إرادتها وهيمنتها على بلادنا طويلاً، فلا هي قادرة على القيام باحتلال عسكري مباشر، ولا أدواتها قادرة على تنفيذ المخطط الذي أعدته لسورية، بالرغم من التمويل والتسليح والدعم الاستخباري واللوجستي الذي لا ينضب، ولذلك فإنها تعمل فقط على «تأجيل المحتوم»، وهذا لا بد له من أن ينعكس على «الجامعة العربية» كتحصيل حاصل، مع أن تلك مجرد حصيلة ثانوية للتطورات العميقة التي باتت تشكِّل المشهد العام، فثمة فجرٌ جديدٌ ينبلج من الأفق العربي السوري، تتجلى فيه بطولةُ آلاف الشهداء، وبسالةُ جحافل المقاتلين، وتضحياتُ شعبٍ كاملٍ، وحكمةُ وشجاعةُ قيادةٍ سياسيةٍ وعسكريةٍ فذة خاضت المعركة بكل كفاءة في أصعب الظروف يتصدرها أسدٌ تلقي بشائر النصر بظله عبر حدود الدولة السورية في الإقليم والعالم، لكن ما برح أمامنا بضعُ معاركَ قبل بلوغ خط النهاية، وما تبقى أقل بكثير مما انقضى، لنخرج أكثر صلابةً وقوةً ومنعةً مع بزوغ الفجر العربي السوري الجديد.