تبعية الأنظمة العربيّة واستكبار الاستعمار
زهير أندراوس
“مَنْ ظهر أولاً وَمَنْ أوجد مَنْ؟ العبد أمْ السيّد. هل السيّد مَنْ صنع العبد نتيجة لسلوكه العبوديّ أمْ العبد مَنْ صنع السيّد نتيجة لاستبداده؟”، هذا باختصارٍ شديدٍ لُبّ جدلية الفيلسوف الألمانيّ جورج هيغل، التي حاول سبر غورها في كتابه “ظواهرية الروح” الصادر عام 1807. والسؤال الذي يُستنبط ممّا ذُكر: هل ستبقى جدلية استسلام أوْ عبودية الأنظمة العربيّة قائمة أيضًا بلا نتيجة كما هي جدلية البيضة والدجاجة البيزنطيّة؟ وهل ستبقى العبودية والعرب رفاق درب وتاريخ طويل لا ينفصلان؟ سؤال لم تتّم الإجابة عليه حتى اللحظة، علمًا أنّه قد قيل إنّ عبوديتهم، أوْ تبعيتهم للغرب، جاءت من استبداد السيّد، وفي حالتنا الإمبرياليّة وموبقاتها، منذ أنْ تمّ غزو الوطن العربيّ ثقافيًا وبإرهاب الأسلحة الفتاكّة.
***
الثلاثيّ غيرُ المٌقدّس: الإمبرياليّة، الصهيونيّة والرجعيّة العربيّة، ما زال يعمل وبوتيرةٍ مُقلقةٍ وخطيرةٍ جدًا على الإمعان في تكريس وترسيخ دونيّة الإنسان العربيّ، كمُقدّمةٍ لكيّ وعيه واستدخال الهزيمة، مُقارنةً بفوقية الغربيّ-الأبيض، والإسرائيليّ الحضاريّ والمُثقّف والمُتقدّم والمُتطوّر، وها نحن عشية إحياء الذكرى السبعين لنكبة الشعب الفلسطينيّ، وهي أكبر جريمة ارتُكبت في التاريخ الحديث، حيثُ قامت قوى الاستكبار والاستعمار، مدعومةً من الحركة الصهيونيّة العنصريّة التوسّعية، وبتواطؤٍ مع الرجعيّة العربيّة، بتقديم فلسطين على طبقٍ من ذهبٍ للصهاينة، أيْ أنّ مَنْ لا يملك أعطى لمَنْ لا يستحّق، نحن عشية الذكرى وفلسطين تتلاشى. سنُحيي الذكرى بألمٍ وحسرةٍ شديدين، ليس فقط لأننّا نتذكّر التشريد والتهجير والاقتلاع من الأرض والمجازر التي ارتُكبت بحقّ أبناء شعبنا، بل أيضًا لأنّ قضية فلسطين، “قضية العرب الأولى”، باتت هامشيّةً وثانويّةً على الأجندة العربيّة والدوليّة وحتى العالميّة، ولا نُجافي الحقيقة إذا جزمنا بأنّ المُخطّط الشيطانيّ لتدمير سوريّة، الذي بموجبه تكالبت عليها أكثر من تسعين دولةٍ، كان هدفه المفصليّ وما زال وسيبقى الإجهاز على قضية فلسطين، بواسطة تفتيت هذا القُطر العربيّ، أيْ أنّ الطريق لسيطرة السيّد الإمبرياليّ على الـ”عبد” فلسطين، تمُرّ عبر بوابة شطب دمشق عن الخريطة.
***
ولكي نضع بعض النقاط على عددٍ من الحروف، يتحتّم علينا العودة قليلاً إلى الماضي: فها هو دافيد بن غوريون، مؤسس دولة الاحتلال، أكبر مثال على ذلك، فهو الذي أطلق مقولته الشهيرة والخبيثة: “عظمة إسرائيل ليس في قنبلتها النوويّة ولا ترسانتها العسكريّة، ولكن عظمة إسرائيل تكمن في انهيار ثلاث دول، مصر والعراق وسوريّة”، وبالتالي لا يُمكن بأيّ حالٍ من الأحوال، الفصل بين ما يجري هذه الأيام في سوريّة عن الماضي والتاريخ والأجندات الصهيونيّة والغربيّة الاستعماريّة معها. فاستهداف سوريّة لم يسقط يومًا في الاستراتيجيات الصهيونيّة منذ ما قبل زرع دولتها هنا على أرض فلسطين. سوريّة بقيت اليوم وحيدة في المعركة، بعد أنْ خانها العرب من المحيط إلى الخليج، وجيشها العربيّ العقائديّ يخوض معركةً شرسةً ضدّ القوى التي جاهرت بعدائها من جميع أصقاع العالم، فمصر، أكبر دولة عربيّة، تمّ إخراجها من محور الممانعة والمقاومة عام 1979 بعد التوقيع على اتفاق السلام مع إسرائيل، فيما قامت أمريكا وبريطانيا في العام 2003 بغزو العراق وحلّ جيشه وإعدام رئيسه، الشهيد صدّام حسين، بذريعة مُلفقةٍ وكاذبةٍ بأنّه يمتلك أسلحة غيرُ تقليديّةٍ.
***
والمُفارقة أنّه في الذكرى الـ15 لاحتلال العراق، عادت أمريكا، رأس الأفعى، بمُساعدةٍ من شريكتيها، فرنسا وبريطانيا، بشنّ عدوانٍ ثلاثيٍّ ضدّ سوريّة، فجر السبت الـ14 من نيسان (أبريل) الجاري، بزعمٍ أنّ النظام الحاكم في دمشق استخدم الأسلحة الكيميائيّة ضدّ شعبه. وغنيٌ عن القول إنّ هذه الدول الثلاثة، وهي مارقة وبلطجيّة بامتياز، لم تُبرز أدلّةً لتأكيد إدعاءاتها، والطامة الكبرى أنّه بعد حوالي 24 ساعة من العدوان البربريّ-الهمجيّ على بلاد الشام عقدت جامعة الدول العربيّة، التي لا تُسمن ولا تُغني عن جوعٍ، قمّتها في الظهران بالسعوديّة، ولم يجرؤ أيّ زعيمٍ عربيٍّ على التطرّق للعدوان، لا من قريبٍ ولا من بعيدٍ، وفي هذه العُجالة يحّق لنا أنْ نسأل وبالصوت العالي: هل الأنظمة العربيّة أيدّت العدوان؟ أمْ أنّها مُرتاحة جدًا، لأنّه بحسب جدلية هيغل، نحن أمام موقفين، موقف السيّد وموقف العبد، وفي حين أنّ السيّد قد خاطر حتى النهاية، فاستطاع أنْ يظفر باعتراف وعي الآخر به، نجد أنّ العبد قد رفض المخاطرة، وتخلّي عن رغبته، ومن ثمّ اقتصر ردّه على إشباع رغبه الآخر، وبذلك اعترف بالآخر دون أنْ يلقي منه أيّ اعترافٍ، بكلماتٍ أخرى لم يرفع العرب العلم الأبيض فقط، بل استسلموا قولاً وفعلاً.
***
بالإضافة إلى ذلك، نؤكّد على أنّ عدم اتخاذ موقفٍ هو موقف في قمّة الانتهازيّة، وبعيدًا عن الـ”تضامن العربيّ” الهلاميّ والخُرافيّ، نُشير إلى أنّ مَنْ لا يحترم نفسه، لا يملك أيّ حقٍ أخلاقيٍّ بمُطالبة الآخرين بحصافته ومهابته وتوقيره، وبالتالي: عندما ترى الأمم الأخرى هذه الـ”مسرحيّة الهزليّة” من إعداد وإنتاج الأنظمة العربيّة، كيف ستحترم أمّة الناطقين بالضاد؟ والأدهى من ذلك: لماذا ستُقيم للعرب وزنًا وهُمْ يطعنون بعضهم البعض سرًّا علانيّةً؟ وأكثر من ذلك: بريطانيا، أمّ الاستعمار، أجرت استفتاءً للانسحاب من الاتحاد الأوروبيّ، أمّا نحن، فقد قررنا طرد سوريّة، وهي عضو مؤسس وفاعل، من جامعة الدول العربيّة، وهي خطوةً غيرُ مُبررةٍ بتاتًا، إذا أخذنا بعين الاعتبار أنّ كيان الاحتلال يُقيم علاقاتٍ دبلوماسيّةٍ كاملةٍ وعلنيّةٍ مع مصر والأردن، مدعومةٍ باتفاقيتيْ سلام، أمّا عن العلاقات السريّة الإسرائيليّة مع الدول التي يُصّنفها مُعجم الصهاينة بـ”الدول العربيّة السُنيّة المُعتدلة”، فحدّث ولا حرج.
***
عوّلنا على الشعوب العربيّة، كنّا على أمل أنْ تنطلق المظاهرات المُندّدّة بالعدوان الثلاثيّ ضدّ سيادة دولةٍ عربيّةٍ في العواصم العربيّة لتوجيه رسالةٍ حادّة كالموس لأمريكا، التي قال عنها الشهيد جمال عبد الناصر: “إذا وجدتموها راضيةً عنّي فاعلموا أننّي على خطأ”، ولكن خيبة الأمل كانت بحجم التوقعّات: الشارع العربيّ بسواده الأعظم التزم الصمت المُطبق، ولم يرتقِ إلى مُستوى الحدث، وإذا اختزلنا بعض التظاهرات اليتيمة فيُمكننا القول إنّ الأنظمة والشعوب العربيّة باتا في نفس قارب التبعيّة المُطلقة للسيّد الـ”غربيّ الأبيض” والـ”صهيونيّ الراقيّ”، وإذا كان الوضع كذلك، كان حريًا بالقمّة العربيّة الأخيرة، التي لم تُصدر كعادتها بيانات الشجب والاستنكار والتعبير عن الامتعاض، اتخاذ قرارٍ بتأييد العدوان الثلاثيّ ضدّ سوريّة، ودقّ المسمار، ربمّا الأخير، في نعش هذه الأمّة و”قضيتها المركزيّة”، فلسطين.