ورقة الحصار ومحاصرة مسيرة العودة
كل الأطراف المشاركة في حصار غزة المديد، اعداءً، وأشقاءً، وأوسلويين، ومعهم الغرب المعادي للفلسطينيين ولقضيتهم وأمتهم، يريدون الآن لعب ورقة هذا الحصار لإحباط مسيرة العودة. للحصار هدف بالنسبة للمشاركين في فرضه وهم لن يرفعوه دونما تحقيقه. إنه اسقاط البندقية الفلسطينية المقاومة. ولعب ورقته لا يعني رفعه، بل المساومة على “تخفيفه”، وتخفيفه يعنون به الحؤول دون إيصال الأوضاع المعيشية المريعة بسبب منه انهياراً يلوح هي الآن على تخومه.
في الأيام الأخيرة نُمي عن وساطة مصرية تنوب عن أوروبية وتنقل عنها استعدادها التكفُّل بدفع رواتب موظَّفي غزة التي قطعتها السلطة، والعمل على “تحسين احوالها الحياتية”، مقابل إيقاف مسيرة العودة، ووقف اطلاق النار ضد المحتلين لمدة لا تقل عن خمسة أعوام.
الانهيار في قاموس من هم خلف هذه الوساطة، يعني الانفجار، وهو إن حدث فسيكون في وجه المحتلين، وأول ما ستصيب تداعياته غير المحدودة أمنهم، يليه الأشقاء المتوسطين، ذلك لخطر انعكاساته على أمنهم القلق في سيناء المحاذية لغزة، أما منعة فلا يعني سوى تجميده لا رفعه ولا التخلي عن الهدف من فرضه أصلاً.
لسنا في حاجة لأن نضرب في الودع لمعرفة السر في هذه النخوة الإنسانية الأوروبية المفاجئة، إذ لا يخفى أن محركها الأساس طلب مصدره الاحتلال، هذا الذي وجد نفسه حيال مأزقين معاً هما، انهيار الأوضاع في غزة فخطر الانفجار الذي يخشى عواقبه، وتعاظم مسيرة العودة وصولاً لاقتحام الحدود الاحتلالية وما سيليه من تداعيات قد تتعداه إلى كافة الأطراف المشاركة في الحصار.
بالتوازي مع التحرُّك “التخفيفي” الأوروبي كانت واحدة أخرى رديفة له متسقة معه، وهي تعيين وزير الحرب ليبرمان مبعوثاً خاصاً له للعالم العربي هو الجنرال أريك حاييم المسؤول الموسادي سابقاً، ومهمته المعلنة “التعاطي مع الأزمة الإنسانية في قطاع غزة، والجهود لتجميع الدعم المالي العربي” لحل مشكلة الماء والكهرباء فيه…فماذا عن السلطة؟
قبل الوساطة ونقل الرسائل بين الأوروبيين وحماس، زار وفد المخابرات المصرية رام الله متوسطاً أيضاً، لكنما من أجل إعادة الحياة لما تدعى “المصالحة”، وتلقى رداً اعلنه لاحقاً رئيس السلطة بنفسه، قال: لقد “أبلغت الوفد المصري بأنه إما أن نستلم كل شيء، بمعنى أن تتمكّن حكومتنا من استلام كل الملفات بإدارة غزة من الألف إلى الياء، بما يشمل الوزارات والدوائر والأمن والسلاح وغيرها من القضايا، وعند ذلك نتحمَّل المسؤولية كاملةً، وإلا…لن نكون مسؤولين عما يجري هناك”!
استلام كل شيء لا يعني “مصالحة”، ولا “حكومة توافق”، ولا “وحدة وطنية”، وإنما سحب ما هو في الضفة على القطاع، وأوله “التنسيق الأمني”، وسحب سلاح المقاومة، وبالتالي تحقيق ما لم يحققه الحصار…في قمة جامعة الدول العربية الأخيرة اكمل بهجومه على حماس الاجهاز على ما تبقَّى من أوهام تصالحية، ولاحقاً رفض وساطتين عربيتين واحدة كويتية والثانية لبنانية لتأجيل انعقاد بقايا “المجلس الوطني”، الذي تقاطعه ثلاث من كبريات الفصائل، وعدد ممن بقي حياً من أعضائه.
للسلطة في غزة من الموظَّفين سبعين الفاً أمروا بعيد “الانقسام” بالاعتكاف في بيوتهم تحت طائلة قطع راتب من يداوم، وإذ لا يُعترف بخمسة وأربعين ألفاً آخرين عينتهم حكومة حماس تعويضاً لهم، كوفىء المعترف بهم بحسم 30% من رواتبهم قبل عام، وأحيلت اعداد منهم على التقاعد المبكّر، ومؤخراً أُوقفت رواتبهم، باستثناء 42 شخصاً قياديين في حزب السلطة، مع توصيتهم بأن يحولوا دون أية مظاهرة “فتحاوية” غزيّة ضد السيد الرئيس…تتصرف السلطة وكأنما تسعى للقطيعة مع غزة والانفصال عنها، بينما تواصل استلام ضرائب معابرها، التي يجبيها الاحتلال ويحوّلها لرام الله، وهي إذ تقدَّر بأكثر من 150 مليون دولار شهريا، فوحدها كافية لحل مشكلة هؤلاء الموظفين!
يتحمل الغزيين ما لا يتحمله البشر، لكن غزة المعروفة بصمودها، بتاريخها النضالي، بتضحياتها الأسطورية، وثلاث حروب عدوانية خلال عقد واحد فشلت ثلاثتها في قل ارادتها المقاومة، فهي وعملاً بمقولة تموت الحرة ولا تأكل بثدييها، ليست في وارد اسقاط بندقيتها. ورغم أن مسيرة العودة لا تكتمل بدون مشاركة الضفة وسائر فلسطين والشتات، وأيضاً جماهير الأمة العربية، إلا أنها إلى تصاعد منظَّم، ففي كل جمعة تقدَّم مخيَّماتها أكثر باتجاه السياج الحدودي مع المحتلين، حيث باتت الآن تبعد عنه أقل من 400 متر، وفي شمالي القطاع 150 متراً، وتتم الاستعدادات لاجتيازة إلى المحتل في العام 1948 في الخامس عشر من شهرنا المقترب، حلول ذكرى النكبة.
…وإذ شهدت جمعة المسيرة ما قبل الأخيرة ابتكار حرائق الكاوتشوك لحجب الرؤية عن القتلة من قنَّاصي الاحتلال، فالأخيرة شهدت اختراع الفتية لسلاح الطائرات الورقية الساحبة في ذيلها قطعة قماش مبتلة بالسولار ومتقدة تحملها الرياح لتحلّق فوق رؤوس جند الاحتلال ليتم افلاتها فوق الهدف حيث تسقط فتلتهب الأعشاب الجافة وتشتعل الحرائق وتأتي على مزارع المستعمرات…لو كانت السلطة جادة في رفض “صفقة القرن” لتبنَّت المسيرة في غزة عوضاً عن محاصرتها في الضفة!