ما بعد تأمين محيط دمشق وريفها
د. إبراهيم علوش
مع حسم معركة الغوطة الشرقية، ودخول بقية مناطق القلمون الشرقي التي تسيطر عليها العصابات المسلحة حيز التسويات وتسليم الأسلحة وجلاء الإرهابيين، واقتراب ساعة حسم وضع مخيم اليرموك وأحياء الحجر الأسود والتضامن والقدم نهائياً، بات من الواضح أن أولوية تطهير الجيوب الإرهابية التكفيرية في محيط دمشق وريفها، التي كنا قد رجحناها قبل شهر تقريباً (في مادة “ما بعد الغوطة الشرقية شمالاً وجنوباً”)، هي التي تبنتها القيادة السورية في المرحلة الحالية نظراً لأهمية ذلك في تأمين العاصمة وحمايتها من التهديدات الإرهابية، وأهميته في عودة الحياة الطبيعية للبلاد، وفي التمهيد المريح لعودة بقية الأطراف المُسيطر عليها إرهابياً إلى واحة السيادة والأمان، ونظراً لأهمية تأمين العاصمة وريفها في نزع بعض أهم أوراق أعداء سورية على طاولة المفاوضات على مستوى صراع الإرادات مع الحلف الأمريكي-الصهيوني-الرجعي العربي والتركي.
وتزداد أهمية هذه النقطة بالذات عشية دعوة الاتحاد الاوروبي لانعقاد مؤتمر بروكسل الثاني حول سورية الذي يفترض أن يتناول، فيما يتناوله، “جمع مساعدات للسوريين داخل سورية وخارجها”، و”تثبيت مسار جنيف للحل السياسي”، كأن الاتحادَ الاوروبي مصرٌّ على الرقص في العتمة، في الوقت الذي تتعزز فيه سيادة الدولة السورية على أراضيها، وينحسر مشروع أعداء سورية إلى بعض الأطراف الحدودية، ما دام مصرّاً على “تجاهل” حقيقتين: أولاهما أن أي مشروع حل سياسي في سورية لا بد له من أن يمر من خرم إبرة الدولة السورية والتفاهم المباشر معها، وثانيهما أن التلويح بـ”جزرة المساعدات” الدولية، بعد تكسّر عصا العدوان الخارجي والإرهاب التكفيري، سيفشل أيضاً في دفع سورية للتنازل عن أي حق سيادي لها سبق أن دفعت مهجاً غاليةً ودماءً غزيرةً للحفاظ عليه.
وإذا كان النظام الأردوغاني وغيره سيحاولون المتاجرة بمعاناة اللاجئين السوريين للحصول على بعض المال، فإن المليارات الستة من اليوروات التي وعد بها مؤتمر بروكسل الأول قبل عامٍ لا تساوي قطرة دم سورية واحدة أو ذرة تراب اعتدت عليها دول العدوان الغربي على سورية بشكلٍ مباشر أو غير مباشر، ومطلب سورية الحالي من الدول الغربية، كما عبّرت عنه على لسان العديد من مسؤوليها خلال السنوات الفائتة، ليس “المساعدات”، بل وقف دعمها للإرهاب في سورية، ووقف العدوان الذي يسبب الدمار، قبل التلويح بمساعدات “إعادة الإعمار”.. العدوان الثلاثي الذي شاركت فيه بريطانيا وفرنسا نموذجٌ.
في الآن عينه، اشتعلت جبهة ريف حمص الشمالي وحماة الجنوبي الأسبوع الفائت على وقع محاولات العصابات الإرهابية اقتحام بعض القرى في ريف حماة الجنوبي الشرقي، مع العلم أن ثمة منطقة “خفض توتر” في المنطقة الممتدة من تلبيسة إلى الرستن إلى ريف حماة الجنوبي، وهو ما استدعى حملة مضادة من قبل الجيش العربي السوري والقوات الحليفة والرديفة، تبعتها هدنة ومفاوضات عبر مركز حميم، قام الإرهابيون بانتهاكها، وهو ما تبعه إلقاءُ مروحيات الجيش العربي السوري مناشيرَ في ريف حمص الشمالي وحماة الجنوبي تدعو المدنيين للابتعاد عن مواقع الإرهابيين، في دلالةٍ على اقتراب أجل عملية عسكرية كبرى في المنطقة التي يعدّ ما يسمى “النصرة” أكبر التنظيمات الإرهابية التي تسيطر على مواقع فيها، وقد نقلت مواقع تابعة للإرهابيين على الشبكة العنكبوتية أن ما يسمى “هيئة التفاوض لريفي حمص الشمالي وحماة الجنوبي” أرسلت رسائل لتركيا “تطالبها فيها بالتدخل”، والهدف من إيراد هذه النقطة تحديداً هو تسليط الضوء على الصلة بين الإرهابيين والنظام التركي في تلك المنطقة، ومن البديهي أن حمص، بموقعها الاستراتيجي في وسط سورية لا يمكن أن تُترك أجزاء منها بأيدي الإرهابيين ليهددوا المناطق المحيطة بهم، وليكونوا نقطة تسلل محتملة للتمدد التركي، ولذلك فإن حسم وضع تلك المنطقة، بالمصالحة والتسوية أو عسكرياً، ربما يكون الأولوية بعد مخيم اليرموك وجواره إذا لم يرفع إرهابيو الجنوب السوري عقيرتهم كما حاولوا أن يفعلوا خلال الأسابيع الفائتة في خضم معركة تحرير الغوطة الشرقية، إما إذا حاولت تركيا تحريك عصاباتها في إدلب وريف حلب، فإن استعادة ريف حمص الشمالي وحماة الجنوبي سيصبح أولوية فائقة، مع العلم أن المعارك الضارية بين ما يسمى “هيئة تحرير الشام” (النصرة) وما يسمى “جبهة تحرير سوريا” (الأكثر ارتباطاً بتركيا) في إدلب وريف حلب، والتي وصل عدد قتلاها إلى حوالي ألف إرهابي من الجانبين، ربما تؤجل فتح تركيا لجبهة جديدة عبر شمال سورية في الوقت الحالي.
الأنباء الروسية الواردة حول جنوب سورية تفيد بأن ائتلاف العصابات الإرهابية والتكفيرية المكناة باسماء مختلفة (لا تهم كثيراً) راح يعمل في خضم معركة الغوطة الشرقية على توسيع مناطق سيطرته في الجنوب السوري، وبدأ يتلقى مدداً من السلاح الثقيل عبر ممر بين فلسطين العربية المحتلة والأردن، وأنه بدأ بإيعاز أمريكي-صهيوني بالعمل على إنشاء “إقليم مستقل” أو “منطقة حكم ذاتي” في الجنوب السوري أسوة بمناطق “قسد” شرق سورية (ونتذكر ما يسمى “وثيقة حوران” هنا)، وأنه شكّل جيشاً من 12 ألف إرهابي لمهاجمة مواقع الجيش العربي السوري والقوات الحليفة والرديفة بذريعة “خرقها لوقف إطلاق النار في منطقة خفض التوتر”!
الأمر الذي لا شك فيه هو أن أي تحرك في الجنوب السوري من قِبَل العصابات الإرهابية لا يتم إلا بترتيب من المايسترو الصهيوني الذي يعاني من إحباطٍ وتوترٍ شديدين أولاً بسبب التقدم الكبير الذي تحققه الدولة السورية وحلفاؤها، لا سيما بعد معركة الغوطة الشرقية، وثانياً لأن “الضربة الغربية” التي اشتغل عليها وهوّل لها خلال معركة الغوطة الشرقية اصطدمت بالمعادلات الميدانية وجدار الوقائع العنيدة فتمخضت عن فأر عزز من انتصار الدولة السورية وموقفها، جاءت بعده دعوات أمريكية لدخول قوات عربية بديلاً عن القوات الأمريكية إلى سورية، وهو ما رفضته مصر، وثالثاً لأن العدو الصهيوني أثار وكر دبابير بتحرشه المباشر بإيران، وهو ما أوضح سماحة السيد حسن نصرالله أنه “خطأ كبير” لن يمر مرور الكرام.
مناطق العصابات المسلحة في درعا والقنيطرة إذاً ليست مجرد جزيرة طرفية أخرى يسيطر الإرهابيون التكفيريون عليها، ولا تنبع خطورتها من أي أسلحة ثقيلة أو 12 ألف إرهابي سبق أن واجهت وسحقت أكثر منهم في مواضع أخرى مثل الغوطة الشرقية والقلمون الشرقي وحلب ودير الزور وغيرها، إنما هي ساحة اشتباك محتملة مع العدو الصهيوني الذي لم يتورع عن التدخل مباشرة، في أكثر من مناسبة، لدعم الإرهابيين جنوب سورية… ومع تقلص مساحات الهيمنة الإرهابية في عموم سورية، ومع انكسار المشروع العام للطرف الأمريكي-الصهيوني في سورية، فإن ورقة درعا-القنيطرة تبقى الورقة الأخيرة بجعبة الكيان الصهيوني لتأجيل المحتوم، ومحاولة الاستمرار في إبقاء جذوة الصراع في سورية مشتعلة، فإذا قرر إرهابيو جنوب سورية جر مناطقهم إلى حربٍ لم يعرفوا مثلها من قبل، فإن الكرة ستكون في ملعبهم، وسيتحملون مع الكيان الصهيوني مسؤولية ما سيجري بعدها، والأمل بأهلنا في الجنوب السوري في أن يتحركوا للمطالبة بخروج العصابات الإرهابية من قراهم وأحيائهم، وفي أن يقطعوا الطريق على المؤامرات الصهيونية لتدميرها، وكما قال السيد الرئيس بشار الأسد في مقابلته في قناة “المنار” في صيف عام 2015: “إن الارهابيين هم الاداة الحقيقية فى العدوان الإسرائيلى على سورية وما يقومون به أخطر مما تقوم به /اسرائيل/ ولذلك اذا أردنا مواجهتها فعلينا أن نواجه أدواتها أولاً”. أما وقد راحت تتكسر هذه الأدوات، و”لم يبق في الميدان إلا حديدان”، فإمام الكيان الصهيوني خياران لا ثالث لهما: أن يهُزم مشروعه في سورية، أو أن يُهزم هو فيها إذا ما قرر المغامرة بالدخول مباشرة على الخط، وهو احتمالٌ واردٌ، لا بل قد يكون أفضل الاحتمالات، لأنه سيفتح آفاقاً تحررية كبيرة في المنطقة بأسرها.
صحيفة “تشرين”