أقلام الوطن
أسرى حرية وليسوا أرقامًا للنسيان
جواد بولس
احتفلت فلسطين في السابع عشر من نيسان بيوم الأسير الفلسطيني وذلك ليس تعبيرًا عن وفاء “الشعب” لتضحيات أبنائه فحسب، بل كوقفة تستحضر “الثابت” في واقع يطغى عليه الالتباس، أحيانًا، وتعيد صياغة العلاقة “الطبيعية” معه . في هذا اليوم يؤكد الفلسطينيون على مكانة “الحركة الوطنية الفلسطينية الأسيرة” في السجون الاسرائيلية وعلى كونها ساحة الاشتباك اليومي الدائم مع أهم افرازات الاحتلال وممارساته القمعية، حيث يشهد صمود الأسرى، عبر العقود وحتى اليوم، على فشل مخطط اسرائيل بتركيع الفلسطيني ومسح/ مسخ ارادته الحرة وهوية المناضل جراء القائه وراء قضبان الأسر وزنازينه.
لفلسطين في نيسان موعد مع الحرية وظلها، الحنين ؛ وفيه تجدّد الأرض وعدها للغيم وتُطلق زنابقها بشائرَ خير وباقات أمل لتعلن أن لا خريف يدوم وأن اليباب مصيره إلى زوال.
يوم الأسير الفلسطيني هو أكبر من وقت وأرحب من غمد للوجع. إنه صرخة الأم وهي تستعيد حكمة المخاض وتحتضن بيديها “قاف” القمر ومن خواصرها يندلق الفجر ليكشف عن عري “ضمير العالم” وعن عجيزة من تبقى من عرب.
في هذا الأسبوع ينهمك العاملون في جمعية “نادي الأسير الفلسطيني” بإعداد التقارير عن جموع الأسيرات والأسرى، وبتحديث القوائم والبيانات؛ ويسلّطون الأضواء مجدّدًا على ما مرّ من أحداث بارزة بين “يومي أسير”، وعلى بعض الظواهر والمعطيات الهامة والمقلقة، كما يليق بالحدث وبفرسانه الواقفين على أنف الزمن.
لا يبقى شيء في فلسطين على حقيقته وفي مكانته ولا حتى “الحركة الأسيرة” رغم كونها تلك المعجزة التي صُبّت من دموع السماء وسُمّدت بلحاءات العزّة وبريق الحرية والتضحيات.
ما يجري في صفوف الحركة الأسيرة، اذا لم يُتدارك، ينذر بالكثير ؛ فعلى الرغم من كونها تداعيات محاصرة، حتى الآن، وظواهر موضعية، إلا أنها أثّرت على عدة مستويات وفي كثير من الميادين؛ ولقد بدأنا نلحظ، على سبيل المثال، أنّ اهتمام كثير من الاعلاميين بتفاصيل أوضاع الحركة الأسيرة وبحياة أفرادها آخذ بالانحسار، فمعظمهم يؤثرون التعاطي مع شؤون الأسرى وكأنّها مشاهد إحصائية يستعرضونها من خلال لوائح الأرقام وعوالمها، ويُعرضون عن تتبّع تفاصيلها العينية والفردية، ويتفادون سبر أبعادها الاخرى.
فنحن إزاء ظاهرة مقلقة تعكس تراجعًا في تقدير أهمية وجود الحركة الأسيرة الفلسطينية ودوريها التاريخي والحالي في النضال ضد الاحتلال، من جهة؛ ومن جهة اخرى تُغفل خطورة ممارساته القمعية وحقيقة كونها مخالفات قانونية واضحة تسبّبت وتسبّب الأضرار والمعاناة لمئات الآلاف الذين كانوا “هناك” ومروا على أصفادها.
لقد بلغ عدد الأسرى في سجون الاحتلال حسب التقارير المنشورة في مطلع نيسان، (6500) أسيرًا ، من بينهم (350) قاصرة وقاصرًا و (62) أسيرة منهن (21) أم، هذا علاوة على وجود (ستة) نواب من المجلس التشريعي الفلسطيني و(19) صحفياً .
كما وتبيّن التقارير، علاوة على تلك المعطيات، أنّ إسرائيل تحتجز اداريًا قرابة (500) معتقل إداري، وأعدادًا كبيرة من المرضى الذين عانوا ويعانون من سياسة اهمال طبية خطيرة خلّفت بينهم أعدادًا كبيرة؛ تعتبر حالاتهم مستعصية، وهم بمثابة مشاريع استشهاد مؤكدة. اكتفت معظم التقارير الصحفية، غالبًا، بالمرور والتأكيد على هذه الأرقام، وعلى الرغم من موجبات اعلام “التيك أواي” وطبيعته العصرية، وأهمية نشر الحقائق ولو بصورة تلغرافية، تبقى الحقيقة الكبرى غائبةً. فوراء تلك الأعداد يعيش أناس من لحم ومن دم، وقد مضى على اعتقال بعضهم أكثر من عقدين ونصف، ولجميعهم قصص تحاكي الخيال وتستبكي القصائد.
بعض الأسرى يعانون من أمراض خطيرة ومنها العضال؛ مثل حالة الاسير بسام السايح المصاب بسرطان الدم والعظام.
السايح من مواليد مدينة نابلس، (43) عامًا وموقوف منذ العام 2015 وهو لا يستطيع المشي على قدميه.
أما الاسير معتصم رداد، (34) عامًا من قرية صيدا في قضاء مدينة طولكرم، فيواجه مرضًا مزمنًا في أمعائه يسبب له نزيفًا حادًا وأوجاعًا في معدته ومضاعفات أخرى حوّلت حياته في السجن إلى جحيم مستديم، علمًا بأنه أمضى مدة (12) عامًا من محكومية قدرها (20) عامًا .
في عيادة سجن الرمله يقيم (18) أسيرا بشكل دائم، ستة منهم مقعدون لا يبرحون كراسيهم المتحركة؛ مثل الأسير ناهض الاقرع، الذي بُترت، على مراحل، كلتا رجليه؛ وبجانبه يتعذب زميله منصور موقدة، الذي يعيش بلا معدة طبيعية، ومعهما يتنقل الأسير خالد الشاويش على كرسيّه حاملًا أوجاعه التي تسببها شظايا الرصاص المزروعه في انحاء جسمه منذ اعتقاله في العام 2004.
معهم يعيش على كراسي الشقاء صالح صالح، وأشرف ابو الهدي ويوسف نواجعه.
لقد اعتادت المؤسسات الحقوقية التي تعنى بمتابعة قضايا الأسرى تقسيمهم إلى فئات ومجموعات بهدف اتاحة التخصص وتسهيل العمل وتنجيعه، فإلى جانب المرضى سنجد قدامى الأسرى والقاصرين والإداريين والمعزولين والأسيرات.
لكل فئة عالمها ومشاكلها وكلهم في الهمّ والعتمة سواء، ومن المستحيل ترتيب درجات شقائهم، فعزل الأسرى يُعدّ من أقسى صنوف التنكيل؛ وحرمانهم من لقاء عائلاته ينافس تلك البشاعة.
قد تكون حالة الاسير محمد الطوس شهادة على معنى الملاحم الفلسطينية في عصر الهزائم.
الطوس فلسطيني من مواليد قرية الجبعة في محافظة الخليل، يعدّ أحد أقدم الأسرى المعتقلين قبل معاهدة أوسلو، فلقد دخل الطوس في عامه الثالث والثلاثين، وكانت زيارات أبنائه وافراد عائلته له عيداً للّهفة وللأمل.
من حين لآخر تعمّد سجّانه امتحان صلابة قلبه وحَصانة وريده فكان يمنع زيارة أحبته لفترات طويلة بذرائع أمنية كاذبة وواهية. لكنه على الرغم من الأسى صمد وصمد، ولا زال كالمنارة شامخًا كالطود في حقول العزة.
لا يواجه الأسير الطوس هذا الحرمان وحده، “فأمن إسرائيل” يحرم عشرات الأسرى من زيارات أحبّتهم، ويجنّد في سبيل ذلك دهاءه وبطشه و”عدل” محاكمه.
أوجعتني في الماضي عشرات القصص وبينها لأسرى إداريين تحتجزهم إسرائيل لعدة سنوات بدون لوائح اتهام وبدون محاكمات، وقصص الأشبال والقاصرات، خاصة من لجأ منهم مؤخرًا إلى مقابض السكاكين كي يبقروا بطن القهر والذل ويطيروا على أجنحة أحلامهم نحو العدم.
فمن يتذكر اليوم اسم نورهان عواد؟ تلك الفتاة التي قررت وابنة عمها هديل أن تتركا مخيمهما، قلنديا، وتتجها نحو القدس كي تثأرا على قتل الجيش شقيق هديل.
فتاتان في خضرة السنابل وصلتا الى شارع يافا في القدس وهما مملوءتان بالقهر ، لكنهما لم تقويا على تنفيذ العملية، ففي صدريهما ينبض قلب عصفور باغتته رهبة اللحظة فكان رصاص “العدو” أسرع من خوفهما وأصوب.
ماتت هديل وأصيبت نورهان واعتقلت واتهمت بمحاولة طعن وأدينت وحكمت في المحكمة المركزية بالسجن الفعلي لمدة ثلاثة عشر عامًا ونصف سنة، سوف تمضيها وتخرج ولمّا تكمل عقدها الثالث بعد.
إنها ليست الوحيدة التي سارت على دروب الفَراش؛ ففي السجون عشرات الحالات الشبيهة وكلها قصص تستثير الغضب، خاصة اذا ما تذكرنا كيف يفلت كثيرون، قتلوا عربًا، من العقاب أو يُحكموا كمن دهسوا جاموسة، كما حصل مع الجندي القاتل “أزاريا” وغيره.
لن يحتمل المقام تعداد جميع المآسي، لأنّ القائمة طويلة ووراء كل اسم حكاية وسيرة وقلوب مكلومة ؛ لكنها الأيام تدور، فتذهب الفصول وتعود، ويبقى نيسان فلسطين مهد الربيع وموطن الزنابق الحمراء، وهي في بلادي سفيرة التراب لأهله وراية حريتها، التي لن تكفّ سواعد الأسرى عن دقّ أبوابها؛ فبعد كل مخاض ميلاد.