في ركائز الاحتلال وهشاشته
عبد اللطيف مهنا
كانت الصهيونية غير اليهودية، بمعنى الأوروبية، سابقة على الصهيونية اليهودية بكثير. هو أمر لم يكن بغير المعروف وسبق أن كُتب فيه غير القليل، ويمكن الإشارة هنا، على سبيل المثال، لكتاب قيّم للدكتورة ريجينا الشريف تُرجم وصدر منذ أربعة عقود وحمل هذا العنوان. كما وتجدر الإشارة إلى أن مقولة “شعب بدون أرض يعود إلى ارض بلا شعب”، التضليلية المسوّغة والمروّجة للمشروع الصهيوني في بدء انطلاقه، والتي تنسب إلى إسرائيل زنغفيل، قد سبقه إليها اللورد شفتسبيري 1884 في مذكَّراته، ووردت على هذا الوجه، “ارض بدون شعب لشعب بدون أرض”.
لقد كانت بالأساس فكرة أوروبية مسيحية خالصة، جذورها تعود لمارتن لوثر والإصلاح البروتستانتي المؤمن بالمئة عام السعيدة، هذه التي تلي عودة السيد المسيح، والتي لا تكون دون قيام دولة يهودية في الديار المقدسة، تلقفها نابليون، وظلت تترد في الأوساط الاستعمارية البريطانية منذ جمهورية كرومل، إلى أن تم انضاجها كايدولوجيا سياسية تزاوجً بين الأسطورة التاريخية والأطماع الاستعمارية، والبريطانية بالأساس، الساعية لإقامة “الدولة المانعة” شرقي السويس، لتأمين طريق الهند، ولفصل مشارق الأمة العربية عن مغاربها، إلى جانب رغبة أوروبا في الخلاص من يهودها، أو حل ما اطلقت عليه “المسألة اليهودية”.
…والمعروف أن هذه الفكرة كانت قد جوبهت في البدايات برفض يهودي، إلى أن تلقفها مكتملةً هيرتسل، ومن ثم كان مؤتمر بازل المؤسس للمشروع الصهيوني، وحيث كانت اوغندا من بين أماكن أخرى إلى جانب فلسطين قد طرحت لإقامة الكيان المنشود الذي يسعى إليه المشروع، حسمت الأخيرة كمكان لإقامتها، ومن ثم جُنِّد الحاخامين لنبش اساطيرهم وخرافاتهم وفتاويهم لإعطائه بعداً دينياً وتاريخياً مزعوماً.
مشكلة المشروع الصهيوني أنه، ومنذ أن بدء البريطانيون، الذين احتلوا جنوب بلاد الشام ابان الحرب العالمية الأولى، وفرضوا انتدابهم على فلسطين، وبدأوا في تنفيذ وعد بلفور من حينه، قد اصطدموا بشعب عميق الجذور وبلاد عامرة بأهلها ومدنها الأعرق والأقدم تاريخياً وحضارياً من عاصمتهم لندن. وعندما انهوا انتدابهم بعد الحرب العالمية الثانية، بعد أن هيئوا كل الظروف لإقامة الكيان الغاصب ونكبة فلسطين، ومضى الآن سبعون عاماً على قيامة ونكبتها، مورس خلالها كافة أوجه التغييب والإبادة المعنوية والمادية للوجود الفلسطيني في الوطن الفلسطيني المغتصب، بقي هذا الشعب مرابطاً وصامداً متمسكاً بترابه الوطني ومقاوماً ومضحياً لأجل تحريرة كاملاً والعودة لكامله، وهاهم المحتلون الآن يصرخون مولولين لتعاظم ما يعدونه الخطر الديموغرافي الفلسطيني.
وإذا كان الكيان الذي أُقيم على أساس هذا المشروع الاستعماري الإستيطاني الإحلالي يرتكز وجوده أصلاً على ابعاد ثلاثة، البعد الديني الإسطوري، والأمني، وقبلهما وبعدها الدور الوظيفي في خدمة المشروع الإستعماري الغربي في بلاد العرب، فإن إي اهتزاز لواحد من هذه الأبعاد ينذر بنهاية هذا الكيان، ويفضح هشاشته، ويطرح مسألة وجوده قيد البحث، مهما بلغت قوته، وهنا سر الفوبيا الوجودية المستحكمة فيه.
لقد تكفَّل متعهّدو اختلاق الكيان بكل أسباب القوة وحماية الاستمرارية لثكنتهم المتقدمة المدججة بكل ما ملكت ايمانهم من وسائل الفتك المتطورة، واندرجت هي كمشروع في سياق مشروعهم الأكبر وقامت بدورها في التخادم معه، ومع الوقت، وتحديداً مابعد النكبة الثانية العام 1967، ومذبحة الإرادة السياسية العربية الرسمية بعيد اتفاقية كامب ديفيد، بدأ هذا الكيان يحس بفائض قوة ففائض عدوانية، رافقهما لطبيعته، نحوَّاً مضطرداً نحو الفجور التطرُّفي والغلو الفاشي، وصولاً إلى مشهده النتنياهوي الراهن، والذي لا يشي بغير اعراض مرض هذه الفوبيا التي لن تفارقه.
مصطلحا التطرّفُ والاعتدال لا يصلحان توصيفاً في حالة من مثل حالة هذا العدو، الأنسب هو توصيفها بالتوسعية المتوحّشة والموتورة الحاقدة، لانسجامها مع ادراكها القاتل لكون وجودها برمته نقيض كلّي للآخر المقابل، والذي هو هنا صاحب الأرض المتشبث بها، والتي هم غزاة غرباء عنها وطارئون عليها راحلون عنها طال الأمد أم قصر…إنه ما يفسّر قناعة هذه الثكنة بأنه طالما هي قوية فهي آمنة، قوية بدعم المشروع الغربي المعادي للأمة العربية تاريخياً وبلا حدود، وتكفُّله اللامحدود بحمايتها باعتبارها امتداداً عضوياً له، ولدورها ووظيفتها في سياقة…وإن بدأ يشوبها القلق لبدء تراجع يشوب دورها يتناسب بالضرورة مع تراجع هذا المشروع، اضف إليه، بلوغها حدود القدرة على التوسّع والقوة الضامنة لأي انتصار بات منعدماً في العقدين الأخيرين…وكذا، قناعتها بأن الضعف والفرقة والتشرذم في الوطن العربي، وتعهُّد حالات الانحدار وتغذية الفتن ورعاية الجنوح التسووي والتطبيعي التصفوي فيه، هي الوجه الآخر لقوتها.
…عندما قرر الأميركان الانسحاب من العراق دون مغادرته تعالت الأصوات في الكيان الاحتلالي لقد غادروا المنطقة وتركونا، وبعد فشل ثلاثي عدوان الضربة في الأمس بصمود وانتصار سورية بعد مقارعتها لحرب كونية ضروس امتدت لسبع سنوات، سمعنا ذات الأصوات المولولة، لقد فشلوا، لقد تركونا…ناهيك عن مدى الذعر المعبر عن نفسه بدمويتهم في مواجهة مسيرة العودة، لأنها تذكّرهم بأنهم في أرض ليست لهم، وأهلها لا زالوا فيها ويستشهدون من أجل دحرهم و كنسهم منها.