نكبة.. فنزحة.. فاقتتال.. فتشريد
هاني البرغوثي
نبض الوعي العربي
تورونتو /كندا
السماء صافية، و هبات النسيم تهب من فينة إلى أخرى، أخذت مفاتيح سيارتي وبدأت السياقة ثم ترجلت بعد فينة قرب منطقة تملؤها الأشجار والورود، وبدأت السير بخطى بطيئة أتذكر أوطاني، دخلت المنطقة الحرجية المشجرة وظننت نفسي أنني سأتنزه نزهة قصيرة بين الأشجار والورود بهذا المنتزه من منتزهات كندا المنتشرة في رحاب واسعة على أراضيها كي أنسى ما يؤلم صدري ويسمم ذهني لما يجري على أرضنا ووطننا العربي.
تمشيت قليلا ثم شعرت وبشغف في نفسي أن أجلس تحت شجرة أتفيأ بظلالها كما كان يفعل جدي حينما يأخذني معه عندما يذهب للعمل في حقول كان يمتلكها ومزارع زيتون، وتذكرت إحدى قصصه عندما رواها لي تحت شجرة زيتون، فجلست تحت الشجرة وبدأ شريط الذكريات يعصف بي، يومها كنت في عمر الطفولة وبعد نكسة حرب حزيران بأسابيع قليلة، أخذني جدي معه وقال لي يا حفيدي لقد كنت أعيش مثل هذه الأيام قبل عشرين سنة خلت، كنت أعيش هذه اللحظات بعد النكبة، حيث كنت أعمل في يافا وحينما حلت النكبة هاجرت من هذه المدينة الجميلة كما هاجر الكثيرون من اللاجئين من مدنهم وقراهم الجميلة التي احتلتها “إسرائيل”، في تلك الأيام كان الجميع يتوقع أن هذا مخطط للإحتلال البريطاني لفلسطين، وسيكون مرحلة انتقالية مؤقتة وأن حكامنا ياحبيبي لا يقدرون على مواجهة بريطانيا وأنها مجرد شهور أو أيام وستخرج “إسرائيل” و نعود الى مدننا و قرانا، و لم نعد، و ها هي حرب جديدة قد حلت بنا و خرج الكثير من ديارهم ، نزح من نزح خشية مذابح قد تحل بهم كما حلت بأهل النكبة مثل دير ياسين و كفر قاسم و غيرها من المجازر، لكن هذه المرة قلنا أن زعماءنا سوف يحررون لنا الأرض وما هي إلا أيام و سنعود، حيث سيحارب زعماؤنا المغتصب لأرضنا فهم زعماء تهب بهم الحمية و النخوة و دم الشباب و لن يرضوا لنا بالذل والمهانة، ها هي الأسابيع قد مرت يا بني ولم يحدث شيء وما اخشاه أن تكون هذه المرة كما سبقتها ، شعب يشرد وأرض تغتصب وقد حلت بنا النكبة من سنين مضت، والنزوح اليوم، أخشى يا ولدي من الآتي على أمتنا وشعوبنا …. و هل سيفيق حكامنا؟ أم أن أراض و بلادا و أوطانا عربية أخرى ستحتل؟ وإستيطان سيحل بأمة العرب والإسلام كافة.
“خوفي ياسيدي أشوف هجرة ثانية و ماراح أعرف وين باقي العمر بدي أقضيه”
هنا سالت دموعي وتذكرت كلام جدي رحمه الله فمن جعل هجرته أو نزوحه الى لبنان شردوا ثانية بعد حرب وإجتياح لبنان، بعد أن قتل من قتل في صبرا وشاتيلا ومجازر بني صهيون في لبنان، ثم تهجير من هاجر الى الكويت بعد حرب الخليج الأولى، وتلاها تهجير أبناء فلسطين المهاجرين الى العراق بعد الإحتلال الأمريكي للعراق وتهديد الفلسطينيين بالقتل إذا لم يخرجوا وهكذا دواليك.
سمعت صوتا أيقظني من شرودي، هممت بالعودة الى سيارتي وما أن بدأت أسير فيما ظننته منتزه فإذا بي أنا أسير في مقبرة وليس منتزه، قرأت السلام على من يرقدون في باطن الأرض، وسرت ومازلت أفكر بما يدور في فلسطين الآن من إقتتال داخلي وتصارع على السلطة والكرسي، من أجل صراع البقاء وكأن العدو الآن الكرسي وليس من تسببوا في جلب الكرسي الى وطننا وتشريد قومنا و أهلنا بداية بنكبة .. فنزحة .. فإقتتال .. الى تشريد أخر من الوطن العربي الى أصقاع الأرض. متى سنفيق من مستنقع النوم العميق الذي صنعته لنا الصهيونية و غزاة الغرب وعملاءهم من بني جلدتنا؟ هل سنعود الى فلسطين؟ هذا سؤال ولدى حكامنا الجواب وعلى القارئ العزيز أن يأمل العودة.