أوري أفنيري ورؤيته للقضية الفلسطينية
عميرة أيسر
إن أوري أفنيري يعتبر بأن هناك تياراً يسارياً واسعاً في إسرائيل ، ينادى بالاعتراف بحقوق الأمة الفلسطينية في الوجود، وبحق اللاجئين العرب في العودة إلى راضيهم، حيث يقول في هذا الصدد، إن قوة جديدة أو هعولام هزه، غير صهيونية، وضع زعماؤها على هامش المجتمع الإسرائيلي، طوال أعوام عديدة لكونهم نشروا أفكاراً مبتدعة كعودة اللاجئين العرب والتعاون مع القوميين العرب، وإزالة المنظمة الصهيونية، كتاب إسرائيل ص 138، فهذه هي طريقة وفكر أوفنيري عندما يكون موضوع حديثه السِّياسي يدور حول السَّلام، و مواقفه المعادية جملة وتفصيلاً، كما يؤكد في الكثير من المرات، للحركة الصهيونية، ولكن ما هي تصورات ورؤية أوفنيري لمجل الحل بالنسبة للقضية الفلسطينية، والحقوق المتربة عنها للشعب الفلسطيني حسب اعتقاده يا ترى؟
فهو من المفكرين اليهود الذين يرون بأن حقَّ العودة بالنسبة للاجئين الفلسطينيين عبارة عن حق ثابت وقطعي ولا يقبل بالتالي التجزئة، أو الانتقاص منه، فهو جزء لا يمكن إنكاره أو التفريط فيه من الهوية الفلسطينية ، ومن العناصر الرئيسية المشكلة للقومية الفلسطينية كما يراها، ولكن قبل أن يتطرق أوفنيري بالدراسة التحليل إلى هذه النقطة المفصلية والجدلية في علاقته بفكرة الحل لهذه المعضلة التاريخية، والإنسانية والإيديولوجية والفكرية، فإنه يعود بنا إلى مرحلة توصيفه لأسباب النزوح الجماعي للشعب الفلسطيني عام 1948م، وهو بذلك يحاول دحض الفكرة التي حاولت الحركة الصهيونية العالمية ترويجها عبر أذرعها الإعلامية ولوبيات نفوذها السِّياسي والمالي في بلدان الغرب، بأن العرب هم الذين آثروا المغادرة بملء إرادتهم أو بتشجيع من الزعماء العرب ، إذا يقول رداً على هذه الأكاذيب والافتراءات الصهيونية، بأنَّ السعي نحو إعادة تركيب مسلسل الأحداث لا يفيد شيئاً، ولكن تجدر الإشارة إلى أن المسؤولية المشتركة بعكس تأكيدات الطرفين، ولا شك في أن الزعماء الفلسطينيين شجعوا العرب، في المرحلة الأولى من حرب 1948م، على الهرب من تلك الأراضي التي احتلها الإسرائيليون، كما أنه لا شك بأنَّ الإسرائيليين في مرحلة لاحقة، دفعوا العرب بكل الوسائل للهرب، إنما النزوح العربي أمام التقدم الإسرائيلي، كان بصورة رئيسية نتيجة حتمية لطبيعة هذه الحرب، وللحقد المتبادل و بقدر ما كان نتيجة العمليات العسكرية، كتاب من الفكر الصهيوني ص 358.
و يضيف أوري أفنيري بأن النزوح كان حتمياً، كما كانت الحرب، للخروج من الحلقة المفرغة، إن المسؤولية تقع على الطرفين، أن الجبن وعدم المسؤولية واللامبالاة لا تقل ذنباً عن التهويل وعدم الإنسانية، والعنف، كتاب إسرائيل ص 177، فهو إذا استطاع أن يتحلى بالشجاعة الأدبية والأخلاقية في تحميله للحركة الصهيونية ولعصابات الإرهاب المرتبطة بها المسؤولية الأكبر في هذا التهجير القسري، والجماعي للسُّكان العرب عن أراضيهم في فلسطين المحتلة، وخاصة بعد مذبحة دير ياسين المروعة، ولكن قد لا يكون محقاً في تحميله للزعماء العرب جزءً من المسؤولية عن ذلك، لأن هؤلاء حتىَّ وإن فشلوا في حماية الشعب الفلسطيني، في التعرض للقتل والمجازر الجماعية على يد عصابات استر والهاغاناه وغيرهم، ولكن لم يجبروا أحداً منهم على مغادرة أرضه أو بيته، وإن كان أوفنيري يلوم السّكان الأصليين من العرب على خوفهم الطبيعي المبرر من التعرض للقتل على يد الصهاينة، فاعتراف أوفنيري بأن هؤلاء السكان الفلسطينيين قد هجروا من أراضيهم بالقوة، ولكن هذا لا يعني البتة حسب زعمه بأن على إسرائيل الاعتراف لهم بحق العودة إليها قطعاً، دون سواها من أراضي ما يطلق عليه بالدولة القومية لليهود، إذا يقول: بأننا نقترح الاعتراف بهذا الحق، وأن يتم تحقيقه بملء إرادة إسرائيل، ودون أي تدخل أو ضغط من قبل دولة ثالثة، ووفقاً للمبادئ التالية:
بأن تختار كل أسرة من (اللاجئين) وبكل حرية بين العودة إلى إسرائيل، وبين التعويضات المناسبة، إن حرية الاختيار تشكل شرطاً لتحقيق المشروع، والذي يختار التعويض ويتنازل عن حق العودة يتلقى تعويضات تتناسب مع فقدان أملاكه، ووسائل معيشته، وغير ذلك مما كان يتمتع به، يرجع الذين يختارون العودة إلى إسرائيل على عشر دفعات سنوية متساوية، من الفكر الصهيوني ص 358-359، فمشروع أوفنيري هذا الذي قدمه إلى صناع القرار في تل أبيب، ورآه أحد المخارج المهمة لإنهاء مشكلة حق اللاجئين العرب في العودة إلى أراضيهم التي طردوا منها بالقوة في فلسطين المحتلة، فهو حسب وجهة نظره حل موضوعي ومعقول، ويتسم بالعقلانية وإمكانية التطبيق الواقعي له، ولكن حرب الأيام الستة، بدلت هذه المعطيات تماماً فقد حصلت تغيرات جذرية تبدلت فيها المعطيات تماماً، كتاب إسرائيل ص 178، منها احتلال أراض جديدة، ومنها مناطق الضفة الغربية، وقطاع عزة، ونزوح حوالي 350 ألف نسمة إلى الضفة الشرقية، وبروز حركات المقاومة الفلسطينية و فصائلها المنظمة، و بروز فعالية الشخصية الفلسطينية، ولا يمكن بالتالي إطلاقاً طرح مسالة اللاجئين القدامى والجدد، إلا من خلال الإطار الجديد، يعني حقوق الشعب الفلسطيني، فأوفنيري له موقف مختلف عن أنصار اليمين في الاعتراف، ولو جزئياً بحقوق اللاجئين العرب في العودة إلى مناطقهم في إطار الحكم الصهيوني، على خلاف أنصار اليمين المتطرف داخل الكيان الغاصب، والذي يرفض أنصاره أي حديث عن عودة هؤلاء بأي شكل من الأشكال.
فأوفنيري يقر ويعترف مبدئياً بالشخصية الفلسطينية، وهو كان السَّباق إلى الاعتراف بوجود ظلم قد وقع على اللاجئين الذي هجروا من راضيهم قصراً وبالقوة في سنة 1948م، ويعتبرهم قد كانوا النواة التي شكلت المقاومة الفلسطينية في حرب 1967م، وبالتالي فإنهم قد فقدوا عطف العالم ورحمته أو لن يجدوا هذا الاهتمام العالمي بقضيتهم، التي كانت في إطار النضال السلمي، ولكن سرعان ما تحولت إلى حرب مسلحة غير قانونية، حسب زعمه طبعاً، فهو قد اعترف أيضاً منذ أزمة النكبة على وجود ما أسماه الأمة العربية الفلسطينية، والتي يؤكد من خلال موقفه منها على أنه يخالف موقف الكثير من زعماء وقادة الحركة الصهيونية، التي ينفون وجودها بالمطلق، بالرغم من أنهم كانوا من دعاة، وأنصار الدولة العربية الموحدة، وكانت الدعاية الصهيونية تحاول جاهدة تجسيدها كواقع على الأرض، قبل أن نفطن إليها الجماهير والأنظمة العربية القومية في تلك الفترة، إليها وتحتضنها، طبعاً ليس حباً في العرب أو رغبة في توحدهم في إطار وحدوي سياسي، واقتصادي ضمن نطاق جغرافي موسع، بل كانوا يرون بأن مساعدة الزعماء العرب على تجسيد تلك الدولة العربية الموحدة، سيكون بديلاً لهم ينسيهم في أرض فلسطين التاريخية. والتي رآها هؤلاء عبارة عن قطعة أرض ضئيلة يمكن اعتبارها تعويضاً من العرب عن الظلم التاريخي الذي حاق باليهود.
حيث يؤكد أوفنيري بأنه رغم معارضة المفكرين والكتاب الصهاينة لفكرة الدولة القومية العربية التي يدعو إليها جمال عبد الناصر، ولكنهم مع القومية العربية على الأقل، لأنه إذا كان العرب كلهم امة واحدة، فان القضية الفلسطينية لا تعود مطروحة على طاولة النقاش بالنسبة لهم، فموضوع عرب فلسطين، ولا سيما اللاجئين، فهم الاندماج في هذه الأمة الشاملة.
وإذا كان العرب لا يشكلون أمة واحدة، وإذا اعترفنا بأنهم موزعون إلى بلدان مختلفة، سوريا، تونس، والجزائر فهنا يطرح سؤال ملح: من هم عرب الضفة الغربية، لنهر الأردن؟ ولا سيما المليون لاجئ أو أكثر، من الفكر الصهيوني المعاصر ص354، فهو يعترف بكل قوة بوجود الشعب الفلسطيني، في نطاق الأمة العربية الواحدة، وفي تقديمه لتحليل واقعي لكيفية عيش الشعب الفلسطيني و ذلك في إطار الأمة الفلسطينية، إذ يقول: لقد خسرت الأمة الفلسطينية، حرب التقسيم سنة 1948م، بينما ربحت كل الأطراف الأخرى شيئاً، فإسرائيل استقلالها وأراض تتعدى حدودها المعينة من قبل الأمم المتحدة، مصر، قطاع عزة، مملكة الأردن، الضفة الغربية للأردن، كان الخاسر الوحيد عرب فلسطين، خسروا استقلالهم، أو بالأحرى استقلالاً موعوداً، إذا لم يتمتعوا بالاستقلال يوماً، وشخصيتهم القومية، ولكن ما من أمة اندثرت في عصرنا هذا بعد هزيمة عسكرية، حتىَّ ولو حققت الاستقلال السِّياسي من الفكر الصهيوني المعاصر 354-355 ويتساءل أفنيري( ما سبب الموقف السلبي من إسرائيل) ومصدره الرئيسي عدم الرغبة في الخوض في مشكلة اللاجئين، لأن الاعتراف بالشخصية الفلسطينية خلال المحادثات يقود إلى حل مشكلة اللاجئين، بشكل عادل ومرض، المرجع السَّابق ص 355.
فهو كان قبل حرب 1967م، يعترف بأن هناك أمة فلسطينية موجودة بل، وكان يعترف بسيادتها،وذلك قبل إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية، وحركة فتح ومختلف فصائل العمل الوطني المسلح في فلسطين المحتلة، حيث يقول: في هذا الإطار، فإننا لا نعارض وجود أمة فلسطينية، رغم أن شخصيتها لا يتبرز في إطار ذي سيادة، بل على العكس، إننا نرى أنه من الأسهل الوصول إلى السَّلام، مع هذه الأمة المقهورة والمغلوبة، والتي بإمكاننا أن نساعدها، من أن تتوصل إلى السَّلام، مع دول لا تتوق إليها بشكل ملح، إننا نوضح فكرتنا، بأننا نعترف بوجود أمة فلسطينية عربية، ونأمل في أن تتحرر من الوصاية والمصالح الأجنبية، (الأردنية والسورية والمصرية)، وتبرز في السَّاحة السِّياسية بشخصيتها المستقلة والصالحة للحوار، إن مقترحاتنا للسَّلام تتوجه أول الأمر إلى هذه الأمة أكثر مما تتوجه إلى العالم العربي، من الفكر الصهيوني المعاصر ص 355، فهو يرى أيضاً بأن العلاقة الرابطة بين الشعب الفلسطيني والأمة العربية، غامضة وغير فهو من ناحية الصلة القومية، ويرى بأن فكرة الوحدة ملازمة للحركة القومية العربية، إسرائيل ص 160.
فالمفكر الصهيوني اليساري أوري أفنيري يحاول دائماً التفريق بين الأمة الفلسطينية، والأمة العربية، والتي تعتبر جسماً هلامياً غريباً عن القضية الفلسطينية، فالشعب الفلسطيني الذي يشكل نواة الأمة الفلسطينية حسب راية، بالرغم من تعاطفه مع قضيته الإنسانية، واعترافه بحقوقه الذاتية والمعنوية وحتى المادية، ولكنه كالعادة يبقى متردداً ولا يوضح لنا بشكل مفصل وحيادي، ماهي هذه الحقوق؟ وكيفية تحصيلها من أيدي حكومته التي لا تعترف إلاَّ بمنطق القوة وتحاول السيطرة على كامل فلسطين بالقوة وترفض حقوق اللاجئين، أو حتىَّ مجرد الاعتراف بحق هؤلاء في إقامة دولة لهم على حدود سنة 1967م كما تنص على ذلك اتفاقيات الأمم المتحدة، فأوفنيري هنا يعتبر طوبوياً وغير واقعي في تحليله، أو حتى رؤيته للأمة الفلسطينية، التي لطالما كانت وستبقى تاريخياً جزء لا يتجزأ من الأمة العربية الواحدة، ذات الرسالة الخالدة وإلى الأبد.
*كاتب جزائري