مستقبل الأردن والإستحقاقات القادمة : صفقة القرن
د. لبيب قمحاوي
إن محصلة ما جرى في الأسبوعين الماضيين واضحة . فالأردن قد إجتاز إمتحان حق التعبير الدستوري بنجاح والشعب نَجَحَ والملك نَجَحَ والأمن نَجَحَ والنقابات المهنية ومؤسسات المجتمع المدني نَجَحت ، أما الحكومة فقد سقطت ، ومجلس النواب سقط ومفهوم الحكومة الخفية سقط ، والأحزاب بألوانها المختلفة سقطت ، والأمور أصبحت أكثر وضوحاً من أي وقت مضى في مسار يؤشر على مُستقبلٍ أفضل فيما لو تَوَلـَّدَ عن كل ما جرى عقد اجتماعي جديد يعيد تعريف العلاقة بين أطراف المعادلة الوطنية ضمن إطار الشرعية الدستورية الحقيقية .
من الصعب على الدولة العميقة بعد عقود من الهيمنة المطلقة التسليم بحتمية التغيير النابع من إرادة الجماهير الأردنية والخارج عن إرادة الدولة العميقة نفسها أو موافقتها أو تخطيطها . والأكثر صعوبة هو الإعتقاد الساذج بأن الشعب سوف يَقـْبَل بإعادته إلى موقعه السابق على هامش الأحداث بعد أن إكتشف مكامن قُوَّتِهِ ، والأهم من ذلك ، قدرته على ممارسة تلك القوة والسيطرة عليها حتىّ في غياب قيادة جماهيرية أو حزبية ، معتمداً فقط على إحساسه العفوي ووطنيته الصادقة . وبالرغم من كل ذلك ، ما زال هنالك بعض المتنفذين أو المستفيدين من الوضع السائد والمؤيدين لبقاء الأمور كما كانت دون أي إصلاح ، وهم بالتالي الحريصون على الإقلال من قيمة وأهميـة ما حصـل ، بهدف التأكيد على أن الوضع السائد السابق سيبقى ويستمر وأن ما جرى مؤخراً هو غيمة صيفٍ عابرة . إن هؤلاء لا يمثلوا الولاء والإخلاص للوطن بقدر ما يمثلون الفكر المتزمت المتحجر أو الفساد السياسي والمالي أو الجهل أو مصالحهم الخاصة أو خلطة من هذا وذاك لأنهم ، على ما يبدو ، غير قادرين على استيعاب الحقيقة البسيطة بأن الأمم التي لا تتغير لا تتقدم .
إن هذا الحديث لا يتعلق بالسياسة أو بأخذ مواقف مع هذا أو ضد ذاك ، ولكن الحديث هو في جوهره عن الدولة الأردنية ومصلحتها ومستقبلها واستقرارها الإقتصادي والمالي وبالتالي السياسي والأمني . فالحديث عن الإصلاح والمشاركة ومكافحة الفساد ووضع حَدٍ لـَه ليس حديثاً كيدياً أو مكرراً أو مُضَخماً كما يحلو للبعض ممن نصَّبوا أنفسهم حماة للنظام أن يَدَّعوا ، ولكنه حديث حقيقي وواقعي ومُخْلِص ومطلوب قولاً وفعلاً ، وهو يصب في المصلحة العامة مباشرةً دون إنحياز مع أحد أو ضد أحد .
هنالك الآن فزعة دولية وفزعة عربية بَعْضُها بـِنـَفَسٍ دولي للدفاع عن إستقرار الأردن والذي بدى واضحاً أنه يمر بمنعطف خطر نتيجة لأسباب إقتصادية حقيقية جعلت من الأردني مواطناً فقيراً وغير آمن على مستقبل أبنائه . وربما شعرت بعض الدول العربية بخطأ حصارها المالي للأردن وخطر ذلك على استقراره وبالتالي على استقرار المنطقة ومستقبل المخططات المرسومة لها والهادفة إلى إعادة رسم دول المنطقة ، بالإضافة إلى المخطط الهادف لتصفيه القضية الفلسطينية والذي تعمل عليه العديد من الدول في الإقليم وفي العالم من خلال ما يسمى “صفقة القرن” والتي تتطلب نسبة عالية من الاستقرار في فلسطين والأردن . وهذا الإستقرار يُعتبر شرطاً أساسياً لنجاح وتمرير ما يدعى “بصفقة القرن” مهما كان معناها كونها حتى الآن عنواناً لمجموعة أفكار ما زالت تُتَداول بين كافة الأطراف ، وإن كان الهدف النهائي لها ثابت وهو إغلاق ملف القضية الفلسطينية وليس حل القضية الفلسطينية حلاً عادلاً يعطي الفلسطينيين حقوقهم . وهكذا يصبح من المستحيل فصل ما جرى في الأردن وللأردن وما تبعه من فزعةٍ عربية خليجيةٍ عن المخططات السياسية للمنطقة وما سيجري لها تحت شعار “صفقة القرن” .
من الواضح أن الأردن الرسمي يرغب في البقاء ضمن المحور الأمريكي – السعودي ولكنه لا يستطيع تلبية الإلتزامات السياسية المترتبة على ذلك إلاّ إذا سبقه الفلسطينيون إلى الموافقة والقبول ، كما أنه لا يستطيع أن يهدد بترك ذلك المحور إلى محور آخر كوسيلة للضغط لأن الثمن قد يكون باهظاً . وما جرى مؤخراً في الأردن يثبت عدم قدرته على الحياة منفرداً وبمعزل عن دعم الآخرين له خصوصاً في ظل إستمرار الفساد الكبير وبالتالي حاجة الأردن المستمرة إلى أن يَستَظِلّ بقوى أخرى قادرة على توفير الدعم الاقتصادي والمالي والتغطية السياسية له . ولكن لكل شئ ثمنه ، والسؤال يتمحور الآن حول قدرة الأردن على دفع الثمن المطلوب .
يوجد الآن ما يكفي من مؤشرات على قرب طرح الأفكار الأمريكية – الاسرائيلية المتعلقة “بصفقة القرن” علناً على دول المنطقة وقد يكون ذلك خلال الأسابيع القليلة القادمة . وما رشح من معلومات حتى الآن عن “صفقة القرن” تدور حول أفكار أمريكية – إسرائيلية تم تحسينها وعرضها على بعض مستشاري رئيس السلطة الفلسطينية (محمود عباس) لدى اجتماعهم مع بعض مستشاري جارود كوشنر في عمان خلال الأسابيع القليلة الماضية . ومن الأفكار الخطيرة المطروحة :
1 – وضع ما يقارب مِنْ 60% من أراضي الضفة الغربية تحت سلطة الفلسطينيين (وليس سيادة الفلسطينيين) ضمن إطار حكم ذاتي متطور لا يقترب من مفهوم الدولة ذات السياده علماً بأنه قد يُعطى صفة الدولة . والتحسين هنا ليس في المضمون ولكن في نسبة الإنسحاب التي تم زيادتها من 40% إلى 60% .
2 – إستبدال مفهوم عدم الإنسحاب من مناطق في الغور ومناطق الحدود مع الأردن إلى مفهوم الانسحاب المرتبط بالإيجار (Lease) لمدة 99 عاماً . وهذا إلتفاف على المصطلحات وليس على واقع الأمور الذي سيُبقى تلك المناطق عملياً تحت الإحتلال .
3 – عاصمة الفلسطينيين في أبو ديس سوف تُعطي إسم القدس ، مع ربطها بالمسجد الأقصى حصراً وليس بالقدس الشرقية التي تبقى إسرائيلية وعاصمة لإسرائيل .
4 – الولاية على الأماكن المقدسة سوف تكون مشتركة بين الأردن والفلسطينيين .
5 – الدولة الفلسطينية المجردة من إمكانات الحياة والمحاصرة براً وبحراً وجواً ستكون في منطقة غزة مع بعض الامتدادات في سيناء تحت مسميات أو تسهيلات مختلفة .
الفلسطينيون ، على ما يبدو ، بعيدون عن القبول الطوعي بإستحقاقات “صفقة القرن” . فتنفيذ تلك الصفقة يتطلب هدوءاً كاملاً على الجبهة الفلسطينية مع سيطرة السلطة الفلسطينية على الوضع وكذلك الحال بالنسبة للأردن . ولكن التطورات الأخيرة في غزة وفي الأردن يجعل من متطلب الاستقرار اللازم لتمرير الصفقة أمراً مُستبعداً .
إن أولويات بعض الأنظمة العربية تحتم ضرورة الإعلان السريع عن حل القضية الفلسطينية من خلال “صفقة القرن” وتمكين تلك الدول بالتالي من تفعيل مبادرة السلام العربية زوراً من خلال الإعلان الكاذب عن حل القضية الفلسطينية وبالتالي تطبيع علاقاتهم مع إسرائيل تمهيداً للإعلان على تحالفهم الاستراتيجي معها ضد إيران والمضي في عملية التطبيع تلك إلى ما هو أكثر من ذلك بكثير مما قد يشكل الإنطلاقة نحو إعادة تشكيل المنطقة بأكملها وعلى حساب العرب .
الأردن لا يستطيع الإنفراد بأية حلول خارجة عن إطار الموافقة والقبول للشعب الفلسطيني . وضمانة الأردن الأساسية في هذا السياق هي الشعب الأردني الذي لن يقبل أن تصبح الأردن كبش فداء للآخرين حتى ولو كانوا عرباً . من المهم إذاً إعادة ترتيب البيت الأردني من الداخل حتى يتم تعزيز خياراته وحتى يتمكن من النجاة من هذا الوضع الخطير .
2018 / 06 / 12
lkamhawi@cessco.com.jo