أقلام الوطن
اشتعال معركة ادلب وصفقة القرن… الهزيمة أم الطوفان؟
سمير الفزاع
ورد لأول مرة مصطلح “صفقة القرن” لوصف صفقة أو اتفاقية “جيكور” 1974، والتي أسست لظهور أحد أخطر أدوات النهب والسيطرة والحروب الإقتصادية، البترودولار… وتتمحور هذه الاتفاقية على ربط النفط بكل عملياته التجارية والمالية بالدولار. وقع الاتفاقية مع أمريكا ولي عهد محمية آل سعود فهد، والذي اصبح لاحقاً ملكاً للمحمية، ومن اللافت جداً هنا مدى التشابه والترابط بين ما سعت “البنية” الصهيو-أمريكية عبر أدواتها “العربية” ممثلة بـ فهد –ولي العهد والملك- لتحقيقه حينها، وما تسعى لتحقيقه اليوم مع ولي العهد الحالي محمد بن سلمان… حيث “تشابهت” حقبتا “فهد” و”محمد بن سلمان” بعدة عناوين، أهمها:
1-الإنتقال الى مستوى جديد من التحالف العضوي مع واشنطن والغرب، وتسعير النفط بالدولار والصفقات الضخمة… أحد ابرز تجلياتها.
2-استخدام البترودولار في دعم وتمويل المشاريع الأمريكية والغربية، ومن أخطرها، تمويل وتسليح حركة “الجهاد الأمريكي-الإسلاموي” في افغانستان بوجه الحكومة الأفغانية ولاحقاً الاتحاد السوفيتي، عبر مكتب الدعم والتجهيز الذي كان يرأسه أمير منطقة الرياض، “الملك” الحالي سلمان بن عبد العزيز.
3-تسعير ودعم الحرب التي شنها الإخوان المسلمين على سورية بعد رفضها الإلتحاق بركب كامب ديفيد، ومحاولتها نسج وحدة اندماجية مع العراق.
4-تسهيل وتأييد إخراج مصر من معادلة الصراع العربي-الصهيوني، والحاقها تماماً بالركب الأمريكي.
5-دعم انقلاب صدام حسين على الوحدة مع سورية، وتمويل حربه على ايران.
6-طرح مبادرة “فهد للسلام” مع الكيان الصهيوني العام 1981، وكان من تداعياتها، خصوصاً بعد رفض سورية وحلفائها لها: الانزال الامريكي-الفرنسي في بيروت، وضرب المقاومة الفلسطينية هناك، وتوقيع “جميل” اتفاق 17 أيار 1983 مع الكيان الصهيوني، واستهداف الجيش العربي السوري في لبنان، والتهديد باجتياح سورية… ولم يختلف عبد الله بن عبد العزيز الذي طرح مبادرة باسمه العام 2002، في الانصياع “للشروط” اللازمة للانتقال من ولاية العهد الى الملك عن سابقيه. واليوم، تحاول واشنطن والكيان الصهيوني، وعبر ذات الأدوات والسيناريوهات –مع فارق التعقيد والدموية وحجم وعمق التخريب- لإنفاذ وتحقيق ذات الأهداف، عبر ولي العهد الأكثر تصهيناً، محمد بن سلمان.
على هامش الحرب الإرهابية الشرسة على سورية والعراق والمنطقة والمستمرة منذ العام 2011 تحت مسمى الربيع العربي، يأتي الإعلان الأمريكي عن صفقة القرن… التمهيد هو هو والعملاء هم هم، صفقات بمئات مليارات الدولارات من السعودية بإمضاء ولي العهد محمد بن سلمان، ومن خزائن بقيت المحميات النفطية لواشنطن والكيان الصهيوني، واعتداءات صهيو-امريكية في طول المنطقة وعرضها لكسر أو إنهاك –في الحد الأدنى- قوى ومواقع الرفض والمقاومة، ورجع صدى لقيادات “عربيّة” مخصيّة وعميلة تكفلت بـ”الترويج” لرغبات واشنطن وتل ابيب لتحقيق “سلام” ينهي الصراع… في تكرار لمشهد صفقة “جيكور”، ولكن يمكن الحديث عن بعض الاختلافات الجوهرية الكبرى في المشهد، والتي قد تقلبه رأساً على عقب للمرة الأولى منذ قرن على الأقل، وهذا بعضها:
1-جاءت اتفاقية “جيكور” عقب حرب تشرين التحريرية 1973 لاحتواء نتائجها، وأمركة العالم، ودولرة عصب طاقة البشرية –النفط- والتحكم به… بينما تطرح “صفقة القرن” اليوم في بيئة مقاومة شرسة لهجوم شامل تشنه الدوائر الصهيونية والأمريكية والرجعية العربية على المنطقة منذ عقد من الزمن تحت مسمى “الربيع العربي”، بالتزامن مع تراجع قيمة الدولار كعملة عالمية، وتقهقر قيمة النفط لصالح الغاز كمصدر للطاقة.
2-صحيح بأن الوضع العربي وصل مستوى من التردي قل أن بلغه، ولكن دول وقوى الغزو والإستعمار تعيش ايضاً أسوأ حالاتها… واليكم بعض الدلائل التي تصدق هذه الخلاصة:
أ-الكيان الصهيوني، أداة الغزو و”التأديب” وفرض المشاريع الغربية، بات اليوم في خطر وجودي حقيقي، ومن أهم اسباب اطلاق صفقة ترامب: هو حماية هذا الكيان من التحلل أو الفناء.
ب-معظمنا يعرف “المقدسات الثلاثة” للسياسة الغربية والأمريكية في المنطقة: وجود وأمن الكيان الصهيوني، تدفق آمن وسلس للطاقة، والأنظمة الوظيفية الموكلة توفير “الحماية” للعنصرين السابقين. يدرك المتابعون حجم كابوس المأزق الوجودي الذي يعيشه الكيان الصهيوني، وأكثر من يتحدث عن هذا الكابوس هم من قادة وسياسي ومفكري الكيان انفسهم… وأما بخصوص التدفق الآمن والسلس للطاقة، فقد مثلت الضربات التي وجهها اليمنيون لمستودعات وخطوط ومعامل النفط ومقرات شركة “أرامكو” ضربة استراتيجية –بكل ما للكلمة من معنى- للنظام الدولي الاستبدادي بأسره، بل ونبهتهم إلى خطر محدق بات يقض مضاجعهم: أن محور المقاومة لا يهدد فقط أداتهم وربيبتهم الكيان الصهيوني، بل أصبح قادراً على تكرار البيئة التي رافقت حرب تشرين 1973 عندما توقف انتاج وتصدير النفط، وأن “مصادرتهم” لقرار المحميات النفطية بخصوص انتاج وتصدير وتسعير النفط منذ اتفاقية “جيكور” 1974 كما خطط “كيسنجر” لم يعد يجدي نفعاً، لأن القرار بتدفق الطاقة صار ملكاً لمحور المقاومة، نظريّاً وعملياً وبالتجربة الواقعية. هنا تحديداً، صار الشك مشروعاً بأهمية، بل وأكثر من ذلك، حول قيمة الأنظمة الوظيفية التي نشأت واستمرت لحماية هذين الثابتين في السياسة الغربية: الكيان الصهيوني والنفط.
ج-في كل نقطة وصل إليها الغزو “الحديث” تحت مسمى “الربيع العربي”، نشأت قوى شعبية مقاومة، وجدت نفسها حليفة طبيعية لدول وقوى محور المقاومة… وآثار هذا المعطى ما زالت في مقدماتها، وأحبتنا في اليمن خير دليل على هذا الانتقال المبارك.
من بديهيات تاريخنا المعاصر، أن سوريّة كانت دائما ًرأس الحربة في رفض مشاريع تسوية الصراع العربي-الصهيوني، لذلك نالت النصيب الأوفر من الهمجية والقسوة والتخريب والتشوية والتضليل… الذي رافق موجة ربيع الدم الصهيو-امريكي، ولم يكن هذا السياق عبثاً. مقاومة سورية لحرب مستمرة منذ عقد من الزمن تقريباً، يُظهر مدى فرادة وقيمة هذا الهدف، وحجم “الإستثمارات” المالية والسياسية والبشرية والعسكرية والأمنية والإعلامية… يُبرهن بما لا يدع مجالاً للشك على محوريّة سورية في عين أعدائها كما حلفائها. من هنا، يمكن أن ندرك القيمة الإستراتيجية الفائقة لما تقوم به أدوات الغزو الإرهابي، والدول والكيانات الإقليمية الوظيفية التي توفر الدعم والتجهيز والملاذ لهذه الأدوات… من جهة، وحجم الوجع وفداحة الهزيمة والرعب الحقيقي من تداعيات الخسارة الذي تعانيه تلك الدول والكيانات الإقليمية الوظيفية ومشغلوها الدوليون، من جهة ثانية… وهذا تحديداً ما نراه في معركة تحرير ادلب وأرياف حلب، وهنا بالذات يمكن العثور على خلفيات “السعار الأردوغاني”.
قد تلجأ تركيا اردوغان الى مواجهة الجيش العربي السوري بعمليات عسكرية محدودة، أقل من الحرب وأكبر من المناوشات التي تجري بين الفينة والأخرى. يراد لهذه المواجهة -إن ظلت في حدودها المضبوطة- تحقيق عدة أهداف منها: حملة بالدم والبروبوغندا لتبييض صفحته امام جمهوره والجماعات الارهابية وسادته في تحالف العدوان، ومحاولة تحسين موقعه وشروطه في “تسوية” سياسية قد تطرح لانهاء الحرب على سورية ومنع انفجار المنطقة، واحراز بعض النقاط في قضية شمال-شرق الفرات، واستجرار قدراً معقولا من الدعم السياسي-الاقتصادي الغربي… والأهم، حجز موقع في أخطر المشاريع المطروحة على المنطقة حاليّاً، صفقة القرن، بصرف الانظار عنها والتعمية والتمويه عليها… وسيُعمد سريعاً الى تقريب متدرج لتركيا وشعبها الى الكيان الصهيوني ما سمح الوضع التركي الداخلي بذلك لتحقيق هدف مزدوج، طمأنة الكيان الصهيوني بتوسيع رقعة تحالفاته العلنية، وتطمين اردوغان ونظامه على مستقبلهما السياسي، وسودان “الثورة” نموذجاً حيّاً على ذلك… في مشهد يمكن استشرافه كما يلي:
أ-سيتم التعويض عن الموقع الذي خسرته تركيا اردوغان في “الربيع العربي”، ولمدّ خشبه خلاص تنقذ اردوغان وتركيا من الانفجار الداخلي شبه المحتم بفعل هزيمة وتداعي المشروع… ستدمج تركيا اردوغان في صفقة القرن على نحو تدريجي ولكن بخطى ثابتة واضحة المعالم… ومنها:
1-سيلعب اردوغان دور ضابط الايقاع في غزة عبر الشراكة التي ينسجها مع تيار التسوية وتحت مقولة “هدنة طويلة الأمد” بالاستناد الى “تطويع” شيطاني تآمري لتجارب تاريخية مثل صلح الحديبية.
2-سيحجز اردوغان مقعده في صفقة القرن من خلال الاتفاقية التي وقعها مع حكومة السراج قبل اسابيع، فخريطة هذه الاتفاقية ستتيح له انشاء منفذ بحري يخدم قطاع غزة وربما الضفة تحت اشراف تركي-صهيوني-امريكي في قبرص المحتلة “قبرص التركية”.
3-اشراف تركيا على معظم شرق المتوسط حسب هذه الاتفاقية، والتي كانت سبباً اساسيّاً في تغيير موقف موسكو من اردوغان واشعال معركة تحرير ادلب والريف الحلبي… سيمنح تركيا دور المهيمن على عُقد الطاقة بين معسكرين متناحرين روسيا وحلفائها وامريكا وحلفائها.
ب-سيحاول اردوغان التلويح باستعادة الدور التتفكيكي والتدميري الذي لعبته المؤسسات الأمنية والدينية والاقتصادية والسياسية التركية في جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق قبيل وبعد سقوطه… وربما كانت تصريحاته خلال زيارته الأخيرة الى اوكرانيا خير شاهد على ذلك.
ب-سيبرز عنصر الرابط التركماني أكثر وأكثر في سياسيات تركيا اردوغان على حساب العلاقات الإسلاموية، نجد هذا في تصريحاته حول القرم الروسية ومصراته الليبية مثلاً، حيث هناك اقليات تركمانية.
ختاماً، أردوغان، يستنجد بواشنطن والنيتو ولا مجيب، وأمله الوحيد للبقاء موجود في يد من تمنى اسقاطه يوماً، بشار حافظ الأسد وحلفائه. واشنطن ترامب، ترتعش شرق الفرات، وتتفاوض سراً على شروط الانسحاب من العراق قبل أن تنطلق المقاومة العراقيّة مع انطلاق الانتخابات الأمريكية، وإن كان هناك من يراهن على بقاء الإحتلال الأمريكي. الأنظمة الوظيفية والكيان الصهيوني، لا مخرج لهم –كما يعتقدون- إلا ببناء تحالف عسكري-اقتصادي لمواجهة هذا الطوفان الذي سيطالهم حتماً، والعنوان المضلل، صفقة القرن.
انطلاقاً من هذا التقديم، تعتبر معركة ادلب مؤشراً موثوقاً لمستقبل المنطقة، وخصوصاً بالنسبة لأطراف “غزوة الربيع العربي”. إما القبول بتسوية مرحلية مذلة تُفقدهم الكثير من حضورهم ونفوذهم، والتسليم بهزيمة مشروعهم… أو البدء بالتمهيد السريع لحرب يذهبوا اليها مضطرين لحماية ما تبقى من وجود ونفوذ. هذا هو المستقبل المنظور للمنطقة، فأعدوا العدة لما هو آت.