الثقافة والمثقف.. فضاءات تجسد قيّم المجتمع و رقيّه!
عصام الياسري*
للثقافة العديد من الوظائف داخل المجتمع. وتؤكد الانشطة الثقافية كالأدب والفن والإعلام على أنها حاجة ضرورية، لا غنى عنها في عملية التطور الاجتماعي وفي نهضة المجتمعات في اتجاهات مختلفة. وتؤثر بشكل وآخر على التقدم والإبداع الفكري والتكنولوجي. وكما ويؤكد علم الاجتماع فأن للثقافة قدرة لفعل كبير في بنية المجتمع والحفاظ على قيمه وتراثه. ووفقا لعلم الأنثروبولوجيا، فإن الإنجازات الثقافية لا تظهر فقط من الاحتياجات الطبيعية للمجتمع ولكن أيضا من الاحتياجات التي تضعها منظومته الثقافية نفسها.
ولا تقتصر الإنجازات الثقافية على نظام معين، بل على تنظيم بيئة ملائمة لها بحيث يمكن للإنسان أن يوظفها إبداعيا وفقا لما يتناسب وبيئته. وهكذا يمكن بالتالي أن تساهم الثقافة في خلق هوية المجتمع وأيضا في مدى تأثيرها في العالم.
ويمكن للثقافة أن تتطور، بقدر كبير، في مجتمع حر بعيدا عن أي مصالح سياسية دعائية لأن السياسة لا توفر لها أفقها الفكري الإنساني، بل في الغالب تلوي عنقها، فالإبداع الثقافي، أكان في مجال الأدب، الموسيقى، السينما، المسرح أو حتى في مجال الفن التشكيلي والإعلام، لا يأخذ مكانته الهامة إلا في تطور المجتمع و مدى تأثيره وتفاعله مع بقية ثقافات العالم .
من هنا يمكن القول أن الثقافة، بشكل عام، هي ما يمنح المجتمع هويته المميزة من جهة وتعكس من جهة أخرى عاداته وطقوس ناسه التراثية والدينية المتنوعة والمتغيرة في سياقها الحضاري والتاريخي، كما تلعب دورا بارزا في التربية والمعرفة الثقافية ـ الاجتماعية وتقيم جسرا بين حضارة المجتمع وانفتاحه على ثقافات المجتمعات الأخرى في الوقت نفسه، بغض النظر عن العرق والانتماء والجنس. كما أنها تتأسس على مبدأ التعايش الإنساني الروحي بين المجتمعات المختلفة.
كتبت ذات مرة عن فيلم عراقي، فكتب لي أحد الأصدقاء قائلا:
قرأت مقالك وقد أعجبني إصرار الفنانين العراقيين على متابعة عملهم الفني رغم الظروف القاهرة وسيادة العنف واختفاء التسامح بين الأفكار والعقائد المختلفة.
لم يكن صعبا فهم مغزى ودلالات ما كان الصديق يريد الإشارة إليه: فهو كان يشير مجازا وبوضوح إلى مسألتين: أولا مسؤولية المثقف، ونحن نتحدث هنا أيضا عن “المثقف العربي”، الذي يعيش في ظل مشاعة القهر والعوز وفقدان المشهد القيمي والإبداعي في بلاده. وثانيا دور الثقافة “التكاملي” الذي لا يفصل بين العام والنخبة، وأهميتها من الناحية الرمزية ليس على رقي المجتمع فحسب، إنما الدفاع عن مكانة المثقف ومحاولته الكشف عن حقيقة ما يجري حوله. وهذا ما يفسر باختصار معنى الثقافة حقا.
أن للمثقف في مشواره كما للثقافة دورا تفاعلياً في تجسيد القيّم واحترام الحقيقة داخل المجتمع. يقودني هذا للحديث هنا عن المثقفين المبدعين في المنفى أو في المهجر بعيداً عن هيمنة الفكر السياسي على مشروعهم الثقافي، والسؤال هنا: لماذا مضت كل هذه العقود ولم تحاول أي جهة ثقافية إلا في حالات نادرة وليس بشكل منهجي مدروس أن تعنى بالمبدع العربي وتسعى لتكريمه؟..
المسؤولية في اعتقادي تقع في أدنى حدودها على النخبة التي تحتكم للثقافة سبيلا في حياتهم العامة، لأن توضع في صدارة ما يترتب في هذا الإتجاه من دور، وأقصد به “تكريم المبدع العربي” كأمر يجب أن يكتسب أهمية إستثنائية وليس منعطف غير مألوف، يكشف على الأقل عن مسيرة المثقف الأدبية وحضوره المتميّز في الأوساط الثقافية والتعريف بتجربته الابداعية الخلاقة، كمحاولة وجدانية، تثير الإهتمام بالثقافة والمثقف في محيط غير محيطه العربي، بحيث يكون التكريم تقليداً مميّزاً لا يتوقف عند حد زمني، إنما يصبح جزءاً من منهج يراد له أن يدوم ويستمر في المستقبل.
ولعل فوز الفنان التشكيلي العراقي المبدع منصور البكري بالجائزة الأولى في معرض رسوم الكاريكاتير الدولي الأول الذي أقيم في 21 تموز ـ يوليو 2017 في مدينة “أغادير” بالمغرب، إسترعى إنتباه “منتدى بغداد للثقافة والفنون ـ برلين” للقيام بأول نشاط تكريم عبر عنه رئيس المنتدى بالقول: الفنان منصور البكري أسير عشقه وشغفه غير المحدود بفن الكاريكاتير، فن الرسوم الساخرة في مجال النقد الاجتماعي والسياسي، شارك في عديد من المعارض العربية والدولية ـ تحية لمنصور البكري ولفنه وروحه العراقية المبدعة، وهو يفتح نوافذ البهجة ويرفع علم وطنه العراق وسط سماء صافية ومليئة بالجمال والأمل.. قد أثر إستمراره الإبداعي لأن يحظى بإهتمام بالغ بين الأوساط الثقافية العربية والألمانية.
ففي 3 آذار 2018 أحيا المنتدى وسط جمهور من المثقفين والإعلاميين العرب والألمان حفل تكريم لمُبدعَين عربيين: الإعلامي الفلسطيني الأستاذ “أحمد قاسم عفاني” والطبيب والكاتب السوداني “حامد فضل الله”. تقديراً لدورهم في الحياة الثقافية والإعلامية والإجتماعية، ومد جسور الحوار بين الحضارة العربية والألمانية، ونقل، انطلاقا من تراث حضارتنا العربية العريقة إلى مجتمعات أخرى ما تزخر به من إرث ثقافي يجمع بين الاحتواء وفهم التراث الذي يشكل مقومات تاريخنا العربي، الذي أخال عليه الوعي وتحتمي وراءه طاقات تفجر قرائح الإبداع في نطاق له خلفية فكرية ودوافع موضوعية واضحة.. تكريما لائقا ومميزاً، نبش في وقائع قد تكون اندثرت ليعوضَها ويعيد صياغتِها من جديد. وجعلنا نعيش جمال لحظة الإبحار في عوالم الثقافة ونكتشف مُبدعَين كما لو ان معرفتنا بهما جديدة.
وفي إطار الإمكانيات التقنية والمادية المتوفرة لديه، سيسعى المنتدى سنوياً تحت شعار “مبدعون بيننا” منح “شهادة تكريم” لمبدع أو أكثر، في تشكيلة تدوينية ـ فنية تحمل دلالات رمزية تعبر عن رؤية قيمية حقيقية لمسيرة المبدع في المشهد الثقافي.. والجدير بالذكر أن المنتدى قد بادر في عام 2017 في تشكيل لجنة من الوسط الثقافي تأخذ على عاتقها ليس فقط التحضير لتكريم نخبة من الشخصيات الثقافية والأدبية والفنية والاجتماعية على الساحة ألألمانية إنما ايضا في كل ما يميز مثل هذا التكريم من اصول وقواعد وتقاليد تناسب شكل ومضمون طريقة التكريم ودافعه في تسليط الضوء على مسيرة وإنتاج الجانب الابداعي المُمَيَّز لكل واحد من الشخصيات المقترحة والدور الذي لعبته وتلعبه في مجال الثقافة والفكر والفن والأدب.
دعم مشروع التكريم ماديا ومعنويا وفنيا العديد من المبدعين ومحبي الثقافة. كما شارك نخبة من الكتاب العرب في مجالات الفكر والثقافة والفنون وعلم الاجتماع، من داخل ألمانيا وخارجها في إثراء مدونة “شهادة التكريم” بكتاباتهم المتنوعة الهوامش والمضامين والذكريات والوقائع والأزمنة.. من الأردن ـ الكاتب د. م. سـفـيـان الــتــل، الإمارات العربية المتحدة الأستاذ محمد دياب الموسى، من السودان الأساتذة: د. أحمد إبراهيم أبوشوك، د. حيدر إبراهيم علي، د. خالد محمد فرح، د. هجو علي هجو، من ألمانيا الأستاذة: د. توفيق كنعان، د. كاظم حبيب، الكاتب محمد شاويش، أحمد شوقى عزالدين، نبيل يعقوب.. توقفوا عند كل شخصية على حدة، يحكون عنها، ونسمع منها عن تجربتها الابداعية الخلاقة، نوثقها ونُعرِف بها وننشرها ليطلع عليها القريب والبعيد.
وعلى قدر أهمية “التكريم” وتنوع مساراته الفنية وسبيل غاياته وما له من رمزية، فإنه يواجه أيضا بشكل وآخر بعض الصعوبات مثل: عامل الزمن والوضع المادي أو إلتزام مَن تم اختياره للمشاركة في “مدونة التكريم” التي تجمع بين الوثائق والصور والكتابة حول كل شخصية وما يميزها إبداعياً وإنتقائياً.. إنما يبقى هاجسه، أي المنتدى: أن يوقظ الذاكرة وينتصر لسطوة الثقافة، يرسم لوحة في خاصرة زمن لم يفقد بهجة ألوانه بعد.. يحيكُ كخيط عنكبوت رؤيا في عيون عذراء ليلة الأسفار.
*كاتب عراقي