إثرَ كورونا: من دكتاتورية رأس المال إلى ديكتاتورية المنتجين
د. عادل سماره
أدى انتشار، أو نشر، وباء كورونا إلى تخندقات عديدة على صعيد العالم لعل أهمها بالمعنى الإنساني والتاريخي المقبل هو بين الراسمالية وإن كان مؤيديوها يصرون على تسميتها بالأنظمة الليبرالية الديمقراطية، وبين الاشتراكية التي تحاول بناء ديمقراطية اقتصادية اجتماعية وليس سياسية فقط، بينما يسميها خصومها بالأنظمة الشمولية والاستبدادية.
هذا مع أن الأنظمة الراسمالية الغربية هي رأسمالية تطبيقيا بمعنى أن التراكم من أجل التراكم والإنتاج من أجل الإنتاج، وفي النهاية الربح اللامحدود على ارضية الملكية الخاصة، في حين أن الدولتين الاشتراكيتين بالمعنى المقبول هما كوبا وكوريا الشمالية، أما الصين فلم تبرح كون اقتصادها مختلطاً، وإن كانت الدولة تمسك بالقطاعات الرئيسية في الاقتصاد، وأما الاتحاد الروسي فبقايا الاشتراكية موجودة فقط بحكم الاستمرار وليس التبني والقرار.
وبغض النظر عن المفاضلة الإعلامية أو الانتمائية أو المرتكزة على الإيديولوجيا، فإن أزمة كورونا كشفت ما هو فاصل أو حتى فالق ما بين النظامين تجاه حياة الإنسان، في البلد الواحد وفي العالم عامة.
يدفعنا التخندق إلى التساؤل:
أي الخيارين هو الأكثر إنسانية؟ وأي الطرفين هو أكثر مصداقية، وما هو المطلوب إنسانيا في التحليل الأخير.
لم يقتصر الأمر بين الطرفين على التخندق بل اتخذ تطور الاتهام المتبادل سواء على الصعيد الرسمي أو على صعيد تخابث الإعلام وخاصة التواصل الاجتماعي وهذا وضع المرء في متاهة واسعة لا يسعه متابعة سوى جزء ضئيل مما يُنشر ولكن ما يعصم المرء من الغرق تمكُّنه من وعي نظري واضح يتجه به إلى ما يجب ان يكون عليه العالم.
يقاتل أنصار الراسمالية بزعم انها دائما تنتصر في نهاية كل صراع مأخوذين بتفكير غيبي كأن الرأسمال إله الكون. وهذا يذكرنا بمسرح النظام الثابت عند شكسبير حيث تقوم الثورة و يعتكر الجو بالغبار فيَخال المرء بأن النظام الملكي قد سقط، ثم لا يلبث الغبار أن يتلاشى تدريجيا ليظهر من بعده بان العرش كما هو. ولا يختلف عن هذا تشخيص فوكوياما عن نهاية التاريخ والإنسان الأخير، رغم تخليه المهزوز عن أطروحته هذه.
ما ينقص هؤلاء هو العقل الديالكتيكي الذي يرى التناقض في الحياة هو محرك الصراع والتطور والتغيير وبأن درس التاريخ لا يتوقف عند إخفاق هنا أو هناك وبأن التغيير لا ياتي دون تضحيات وهزائم أيضا قبل أن تنتقل البشرية من مرحلة لأخرى.
ما يغيب أو يُغيَّب من قِبَل هؤلاء هو ملامسة ما هو إنساني حقاً في هذه التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية أو تلك، وهل التوحُّش في ايهما هو مبدأ أم أن خلل في فترة ما وعند منعطف ما؟
يبدو أن الصين الشعبية أخذت الغرب الراسمالي على حين غرَّة سواء بإعلانها عن وجود الوباء أو بمحاصرته بسرعة ملموسة الأمر الذي بُهت له الغرب وخاصة الرسمي قبل أن يلتقط أنفاسه النقيضة ويأخذ في صياغة أدوات الطعن ضد الصين. (شاهد الرابط التالي من سكاي نيوز في استراليا الدولة الاستيطانية المتوحشة كيف تكذب
كانت الفضيحة التي شملت الكثير من أنظمة الغرب الرأسمالي في عدم الإعلان عن وجود الوباء في هذا البلد أو ذاك إلى أن تفشَّى بشكل مقلق أو خطير. هل كان سبب الإخفاء هو مكابرة من اعتاد بأن يكون فوق أي خلل، أو لأن حياة الأفراد لا قيمة لها مما يؤكد أن التقديس هو للفردانية وليس للإنسان الفرد؟ أو لأن هناك إيديولوجيا طبقية تعلم بأن الوباء قلما يُطال عِلْية القوم، أو لأن الداروينية الجديدة هي الإيديولوجيا الحقيقية هناك، أو لمحاولة تهيئة العقل الشعبي بان هذا الوباء وُلد في الصين وبقي هناك، أو لأن التوقف عن العمل أخطر من تفشي الوباء؟.
مهما يكن السبب، فإن تفشي الوباء كشف عن الوجه الجوهري الرئيسي للرأسمالية طالما جرت تغطيته وهو أن كل شيء هو للربح وبأن أي استثمار هو في الأكثر ربحا وبأن الإنسان في علاقته بالإنسان هي علاقة ربح لا غير.
قد نختزل إيديولوجيا الربح في عنوانين عريضين هما :
- إنتاج السلع الأكثر استهلاكية للطبقات الشعبية والأكثر رفاه للطبقة البرجوازية المتمولة حتى الانتفاخ مما يعزز استهلاكها.
- وإنتاج السلاح سواء للعدوان أو ليشتريه من يعتدي أو من يُؤمر أن يعتدي كما هو دور أنظمة وقوى الدين السياسي في الوطن العربي ضد العراق، ليبيا، سوريا، اليمن …الخ
اللافت هنا أن الإنتاج لضمان صحة البشر لم يكن على أجندة الغرب، فليمت من يمت سواء لفقره المالي أو المناعي، ولذا لم يتم إنتاج أبسط أدوات الوقاية بل تم إنتاج علاجات لأمراض موجودة وخاصة التي جمهورها واسعاً. مثلاً، لا توجد كمامات، ولكن توجد أدوية للمرضى.
اتضح أن الأمر ليس هكذا في الصين رغم عدد سكانها الهائل. هل السبب هو أن صحة الإنسان تهم النظام إلى هذا الحد؟ أم الخوف من عدم القدرة على السيطرة على أي وباء لضخامة عدد السكان؟ ولكن، لو كان السبب هو الثاني، لما اختلف النظام عن الراسماليات الغربية.
يجادل اللبراليون بأن نجاح الصين كان بسبب سيطرة نظام شمولي استبدادي هناك، هذا ما ثرثر به كثيرون بدءأ من نوحام تشومسكي الذي لا يلبث أن يُثبت بأنه من أفضل من خدم الغرب والكيان الصهيوني حيث ينتقد الإدارات الأمريكية للحفاظ على الراسمالية والاستيطان، وشاركه في ذلك الطابور السادس الثقافي من العرب ومن بينهم عزمي بشاره ، ناهيك عن كثرة من الهُواة، حيث حذَّر بشارة من نسيان أن النظام في الصين شمولي واستبدادي. كان هم كل هؤلاء أن يحولوا دون إعجاب شعبي بالاشتراكية حتى وهي غير مكتملة في الصين ذلك لأن دورهم هو تكريس الوعي الملتبس (أنظر مقالتنا: تخطِّي الوعي الملتبس كرؤية لما بعد الوباء د. عادل سماره – في هذه الصفحة وفي كنعان و نبض الوعي العربي 27 ىذار 2020)
فأعظم خدمة لرأس المال هي تشويه الاشتراكية. أما نقد أمريكا في فيتنام أو العراق أو نقد الكيان ضد غزة، فكل هذه عوامل تطريب كما يقول المثل “يًحُك على الجرب”.
لم يكن للنظام الصيني أن يحاصر الوباء ويتجاوزه، حتى الآن على الأقل، لولا أن هناك ضبطأً للمجتمع يسمح للنظام بمراقبة واسعة ورؤية شاملة للبلد. وهذا يدفع للسؤال:
ايهما أفضل إنسانياً ضبط الوضع الاجتماعي خدمة للوضع الصحي أم التكتم على وجود الوباء كي يقوم بالقضاء على الجيل المتقدم في العمر؟ أيهما أفضل الحرص على كل الأجيال أم الحرص على الجيل الذي يعمل ويُنتج لرأس المال قيمة زائدة عبر إنتاج سلع مربحة؟
أيهما أفضل نظام يعتني مسبقا بصحة كل المجتمع ولديه فائض لإسعاف أمم أخرى أم انظمة تخفي وجود الوباء، وتتحوصل على نفسها باسم القومية بينما هي تقوم بالتفريق بين جيل وجيل و طبقة وطبقة في البلد نفسه؟
ايهما الأفضل نظام يُعلن أنه نظام الحزب الواحد الذي يعمل ليخدم كل الشعب بما يعتور ذلك من أخطاء، أي حزب اشتراكي هو خدمة الإنسان، وفي هذا الطريق يخطىء ويقمع لكنه يبرر ذلك بأنه يحاول إسعاد كل البشر ويحمي أرواح الناس جميعاً، وبين نظام يُطلق حريات سياسية شكلية ولكنه شمولي إقتصاديا، شمولية إيديولوجيا السوق واستبداد النخبة المكونة من واحد في المئة من المجتمع وتحوز على حصة من الثروة تفوق حصة تسعين بالمئة من كامل ثروة البلد. نظام ليبرالي طالما لا مساس برأس المال وطالما لا مطالب بأجور أعلى فكيف مثلا بالتأميم، نظام أنت فيه مواطن طالما أنت مضمخ بعمى الهيمنة حيث لا داع لعصا السيطرة، وحين تعصي، يكون مصيرك في الحد الأدنى كمصير أصحاب السترات الصفراء في فرنسا. نظام يعيش ليس على إنتاج عمال بلاده فقط بل ثروات الأمم الأخرى بالغزو و التبادل اللامتكافىء.
مراقبة المجتمع:
كرَّر ناقدوا الصين الشعبية وروسيا وكوبا بأن الصين تراقب كل مواطن أيَّاً كان وأينما كان. ولكن من الطريف أن نعرف أن المخابرات في الولايات المتحدة تراقب كل العالم: أنظر
Monopoly-Finance Capital, the Military-Industrial Complex, and the Digital Age
by John Bellamy Foster and Robert W. McChesney
2014, Volume 66, Issue 03 (July-August) / Surveillance Capitalism.
بل إن النخبة المالكة الحاكمة في الولايات المتحدة تخطط للتحكم المطلق بكل فرد عبر وضع شريحة في جسمه تحوي كل شيء عنه وتحركه كيفما أرادت.
وبغض النظر إن كان هذا الرابط مفبركا أم لا، يكفي الرابط التالي عن إعفاء جنرال أمريكي من الخدمة لأنه أصر على تعميم خبر إصابة مئة من بين خمسة آلاف هم طاقم المدمرة التي يقودها. فإذا كانت حياة النخبة العسكرية المخصصة للعدوان لا تهم السلطة هناك، فهل من قيمة لأرواح رعايا أمم أخرى؟
في خنادق الآخرين:
في خضم هذا الصراع بين معسكرين تتضح مدى هامشية الوضع العربي وتبعية كثير من المثقفين العرب لصالح الغرب الرأسمالي إذ يتغزلون ب “ديمقراطيته” واضعين هذه المسألة،على ما فيها من عيوب وتبرير لاستغلال محلي ومعولم وخاصة ضد الوطن العربي ، على أنها أهم من حروب الاستيطان و الإخضاع والإبادة من هذه الأنظمة ضد العرب خاصة!
ومع أن الفارق بين المعسكرين واضح، إلا أن ما يجب الشغل عليه هو تطوير معسكر الاشتراكية إلى هدفه الأسمى وهذا يوجب أن نتخندق في خندق ضد رأس المال.
ليست طريق الإنسانية في رأس المال والملكية الخاصة بما هي قائمة على استغلال في البلد ونهب من الخارج، في الموقعين اضطهاد وحرب، اضطهاد طبقي وحرب في الخارج وبلا توقف.
هل المقصود أن تقود العالم و/أو البلد ديكتاتورية البروليتاريا و الطبقات الشعبية؟ نعم ولِمَ لا؟ ديكتاتورية الأكثرية العاملة المنتجة لها وللجميع. على أن تكون هذه الأكثرية قد أنتجت من أحشائها حزبها السياسي المعبر عن حقوقها ومصلحة الجميع، حزبها الذي يأتمر من برلمانها الذاتي الذي يضع للحزب مساره ويراقبه. في هذه الحال نحن أمام ديمقراطية الديكتاتورية الممثلة للأكثرية المنتجة والتي تصل السلطة إن تجاوزت الوعي الملتبس. وحينها فقط، أي حين تجاوز التباس الوعي لا يعود صندوق الانتخابات خطيراً. وإذا كان لا بد من الطريق الإنتخابي، فيجب أن يسبقه النضال لتحقيق مقاعد برلمانية لكل طبقة بحجمها وموقعها في الإنتاج ذكورا وإناثا، وإذا رُفض هذا فهي الثورة الاجتماعية الطبقية لا محالة.