تراثنا … وكيف نقرأه في زمن الهزيمة: مراجعة نقدية (الجزء الخامس والأخير)
نحو مشروع تنويري عربي: مقترحات
د. مسعد عربيد
طمح المشروع النهضوي العربي إلى صياغة مشروع متكامل شامل للمستقبل العربي، وأخذ، منذ بواكر تبلوره في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، أبعاداً وتجليات متعددة. وقد تمت محاولات جدّية في خدمة هذا المشروع خصوصاً في مجالات الفكر السياسي والقومي، ولكنه (المشروع) ما زال يعاني من القصور والإخفاق في جوانب كثيرة ما يستدعي مراجعة نقدية شاملة لكل جوانبه. ولعل اكبر أشكال قصور هذا المشروع، هو الإخفاق في خلق وتطوير الوعي الشعبي ووقايته من التدمير والتشوية، خاصة على أيدي قوى الدين السياسي كما هو حاصل الآن في المجتمعات العربية.
منذ عقود وأحزابنا وقوانا السياسية تخفق في تحقيق برامجها، وفي كثير من الأحيان في مشروعاتها الفكرية، ناهيك عن السياسية. وقد حان الوقت للتحلي بالجرأة والمصارحة بهذا القصور، وهي الخطوة الأولى الضرورية للانتقال إلى مراجعة تجاربنا وأسباب فشلها ومن ثَم تصحيحها. فلا حكمة في التمترس خلف الفشل، ولن يغفر لنا التاريخ ذلك.
إن أسوأ ما يحدث لنا الآن هو غياب مشروع تنويري من أجل بناء وعي شعبي. وفي حين تشهد مجتمعاتنا ما لا يحصى من التنظيمات والأحزاب والجمعيات التي تناصر مختلف القضايا ومن كل حدب وصوب، نجد أن هذا المشروع الذي يظل مهمةً مستعصية، ودونه الكثير من العقبات والمعيقات، ويبدو بعيد المنال وكأنه ضرب من الأحلام أو الخيال الذي نحلم به منذ عقود.
فمنذ هزيمة حزيران 1967، ومسار تاريخنا والتحديات التي نواجهها يعززان الاقتناع بأن المشروع التنويري ضروري ويشكّل المدخل العلمي والموضوعي لأي رؤية جديدة للمستقبل العربي. وثمة الكثير من الحديث عن الوعي العربي وما حلّ به من تجويف وتشويه وتزوير، وثمة كثيرون يطالبون بالعمل على تطويره واستنهاضه، غير أن الانفصام ما زال قائماً بين القول والفعل.
في الأولويات
“إذا فاتك القطار، فإن مشوار السير على الأقدام سيكون طويلاً”
(كاتب أميركي لم أعد أتذكر اسمه)
ثمة لهاث يومي وراء الحدث في الحياة والثقافة العربيتين، ولا غرابة فالأحداث في بلادنا متسارعة دون توقف، ولكننا في حمأة انشغالنا لا ننتبه إلى أن بناء الوعي الشعبي ضرورة لفهم هذه الأحداث وسياقها وتحليلها، ولكي تصبح شعوبنا وقادتها ونخبها قادرة على إدارة المرحلة ومعاركها وتعقيداتها. هذه هي الحلقة المفقودة في حياتنا السياسية والاجتماعية. ورغم وضوح هذه المعضلة (على الأقل من الناحية النظرية)، إلاّ أننا ما زلنا نفتقر إلى التطبيق الفعلي للإجابة على السؤال الأزلي: ما العمل؟
رب قائلٍ: إن هناك أولويات أخرى يفرضها الواقع العربي اليومي. وهذا صحيح، ولكن الأولويات الأخرى لن تحظ بالنجاح دون أولوية بناء الوعي والكتلة الشعبية الواعية، وستضاف بدورها إلى مسلسل الإخفاقات المتكررة التي عشناها في العقود الأخيرة.
تنبع أولوية هذا المشروع من أنه يتناول أحد الأسباب الرئيسية لحالة الإحباط التي يعيشها الشارع العربي: غياب القناعة لدى المواطن العربي بمسؤوليته (وقدرته أيضاً) المباشرة عن حمل أعباء المرحلة وخوض معركة المستقبل، وأنه لا بديل عن هذه المواجهة إن كان لنا أن نبقى كهوية وأمة وحضارة. وبدون الوعي لهذه المسألة الأساسية، لن يترسخ لدى شعوبنا الربط بين دوره وجهده وتحقيق أهدافنا في الاستقلال الحقيقي والتنمية والعيش الكريم. من هنا تنبع الصلة العضوية بين إنجاز هذه الأهداف وبين بناء الوعي الشعبي والمشروع التنويري العربي.
ورب قائل آخر: إنه مشروع كبير ومضني وسيكون مضيعة للوقت والجهد حيث لا تتوفر له شروط النجاح في الظروف الراهنة.
وردنا على هذه الحجة: إن لم يكن ممكناً في الوقت الراهن أو في ظل الظرف الراهن، أو إذا وقفت في وجهه عقبات ومعيقات، فإن هذا لا ينفي ضرورته، ولا يقلل من صعوده إلى قمة أولوياتنا. فمن الطبيعي أن يواجه هذا المشروع، كأي مشروع أو فكرة جديدة وخارجة عن المألوف، أن يواجه تحديات ومعيقات، ومتى شهد التاريخ خلاف ذلك؟
مشروعنا ومشروعهم
نقدم فيما يلي بعض المقترحات المتواضعة والمفتوحة للنقد والتطوير، مع إدراكنا بأنها تقتصر على البعد التنويري ولا ترق إلى معالجة شاملة لما توافقنا على تسميت “المشروع النهضوي العربي” بكافة أبعاده وجوانبه. ومقترحاتنا في الجوانب التنويرية ليست، بأي حال من الأحوال، اختزالاً أو بديلاً عن المشروع النهضوي العربي، بل هي جزءٌ ومكون أساسي منه.
لكننا، وإلى حين اكتمال ونضوج الظروف المواتية لنهوض شعبي شامل، نرى ملحاحية هذه المهمة انطلاقاً من أولية مسألة الوعي الشعبي في خلق كتلة شعبية واعية كقوة ثورية لمقاومة خطط الثورة المضادة ضد أوطاننا وشعوبنا.
مشروعنا هو ، ببساطة، تنويري تثقيفي شعبي، يدعو إلى تكوين “إطار لعمل جَمْعي” أشبه بحزب أو “تنظيم ثقافي” أو “جبهة ثقافية” عريضة تجمع اطرافاً عديدة تلتقي على أهداف مشتركة، ولا يحصر نفسه بمسألة التراث لوحده، وإن كان ذلك موضوع هذه الدراسة، بل تتناول بالقدر المتاح غيره من مسائل الوعي والثقافة والفكر.
أما مشروعهم، فيقف بالتضاد من مشروعنا لأنهم يعملون على تدمير الوعي الشعبي. فالمعركة، إذن، هي معركة وعي وأفكار ومفاهيم. غير أن جبهتهم تملك قدرات هائلة، سياسية ومالية وإعلامية ومهنية وغيرها. لذلك، فهي معركة لا يقدر عليها فرد أو مجموعة أفراد، بل تحتاج إلى تضامن وتكافل جهود جَمْعية منظمة وتوفير قدرات وإمكانيات كبيرة، وهو ما نرى أنه يشكّل المدخل المنطقي والموضوعي ل”العمل الجَمْعي”.
في “العمل الجَمْعي”
بالرغم من الأهمية البالغة للمساهمات الفردية للمثقف والإعلامي والمفكر – سواء الفكرية أو السياسية أو الثقافية والإعلامية – إلاّ أننا حيال مشروع معقد ومركب، يحتاج إلى جهود كبيرة وربما غير مسبوقة في تاريخنا المعاصر، ولا يكتمل بمجرد المساهمات الفردية المتناثرة هنا وهناك، وسيكون خطأً جسيماً ترك مثل هذه المهمة الكبيرة لمثل هذا المصير.
وحسماً للجدل حول عنوان هذا المشروع وتسميته، دعونا نسميه: المشروع التنويري والتثقيفي الشعبي، ولنا أن نطور هذه التسمية وفق مقتضيات العمل ومتطلبات نموه ومستقبله.
اقتراحنا يتمثل بتشكيل إطار عمل جَمْعي يتبنى المهمة المركزية والملحة في هذه المرحلة والمتمثلة في:
– بناء مشروع تنويري تثقيفي شعبي وحالة ثقافية جديدة
– تكون سماته الأساسية أنه قومي عروبي، اشتراكي، علماني
– وهذا يتطلب حاملاً اجتماعياً وسياسياً، أي أداة قادرة على حمل المشروع تنفيذه.
وللمزيد من النقاش، فإن هذا المشروع يتطلب من أجل نجاحه أن تتوفر فيه عدة شروط أساسية أهمها:
1) أن يكون جهداً جَمْعياً منظماً تتكاتف فيه وضمن خطته فعاليات ثقافية وفكرية وإعلامية، ناهيك عن أنه يشمل قوى سياسية واجتماعية/طبقية مهمتها أن ترشد المشروع وتوجهه وتضمن الحفاظ على مسيرته والتزامه بأهدافه وبرامجه في خدمة الطبقات الشعبية والفقيرة.
ما نقصده بوضوح هو تشكيل إطار عمل جمعي منظم، سَمِّه ما شئت: تنظيماً، حركة، حزباً، جمعيةً، جبهة، مؤسسةً. فليست التسمية هي المهمة، ولا ينبغي أن تكون موضع خلاف إذا ما تم التوافق على الأسس والأهداف، وإذا ما توفرت في هذا الإطار الشروط الكفيلة بنجاحه.
2) أن يقوم هذا الجهد على نظرية ثورية وجذرية ورؤية شاملة ومتكاملة، طويلة المدى لا تتوخى الإنجازات العاجلة. فالعمل التثقيفي لا يقطف ثماراً سريعة ولا يحقق أهدافه بين ليلة وضحاها. والمطلوب هو أن ننتبه إلى ما هو أبعد من اللحظة السياسية الراهنة ومن الاستجابات التكتيكية الآنية للحدث اليومي.
3) صياغة برنامج (برامج) نضالي عملي تطبيقي للمهام اليومية على مستوى الجماهير وعامة الشعب، كي يتم تأصيل فكرة ورؤية وأهداف المشروع في وعي الشعب وكي يصبح العمل على تنفيذ البرنامج جزءً من الحياة اليومية للمواطن ونضالاته الميدانية.
4) مراعاة “تخصص” هذا المشروع من حيث مهمته وبرامجه أي الالتزام بالعمل التنويري والجهود التثقيفية الشعبية، لا رغبة في الانعزال عن النضال السياسي والاجتماعي، ولا رفضاً لهما أو التقليل من أهميتهما ودورهما، (فلا عزل بين القضايا والنضالات السياسية والاجتماعية والثقافية)، بل إن القصد هو الحفاظ على تنفيذ المهمة التخصصية – التنويرية التثقيفية – لهذا المشروع والتي من أجلها تم تأسيسه.
5) من أهم أهداف ومهام هذا البرنامج التنويري:
أ) تثقيف الناس ومحو الأمية الوطنية والسياسية والتراثية والثقافية والفكرية. ولعل نقطة الإنطلاق تكون في أن يبدأ المواطن بفهم الواقع فهماً مادياً، أي الواقع كما هو، وتحليله والارتباط به والتعامل معه مباشرة. هذه الفكرة توصلنا إلى فكرة الثورة والتغيير: تغيير الواقع. ودون هذا الفهم سيظل التغيير مشروعاً خيالياً ومستحيلاً ولن نستطيع أن نقطع المسافة بين الماضي والمستقبل. أمّا إذا بنينا الوعي على هذا الفهم الجذري، فسوف تتفتق أفكارنا عن آليات وأدوات التغيير، وهكذا تتجسد الفكرة في وجود آليات تحقيقها وإنجازها في الواقع المادي. وليس من المغالاة القول إن الضخ الإعلامي والسياسي الدائر حولنا، لن يودي إلى فهم مادي ملموس للواقع، بل إلى الكثير من الأوهام وحشو الأدمغة بالمعلومات المجردة والجوفاء.
ب) المقاومة الإعلامية والثقافية ومحاربة الأفكار والتيارات الغيبية والمتخلفة والرجعية المتفشية في مجتمعاتنا، وتعرية الدين السياسي وقواه ووسائله في توظيف الدين لخدمة المصالح السياسية والطبقية لقوة الدين السياسي من أنظمة حاكمة ومنظمات وتيارات دينية وطائفية وإرهابية.
ج) خلق المؤسسات الفكرية والبحثية للعمل على تحقيق هذه الأهداف والتركيز على الجهود التي تكشف حقائق تاريخنا وتضيء الجوانب الحضارية والتقدمية والإنسانية في تراثنا، ما يفضي إلى توعية الناس به وفهمه واحترامه وصولاً إلى احيائه والاستفادة منه.
د) دعوة كل من يتفق مع فكرة هذا المشروع، مبادئه وأهدافه، إلى التواصل لتعزيز العمل المشترك والنقاش حول وسائل تنفيذه وتطويره. ولعله بمقدورنا أن نشرع بدايةً ببناء موقع إلكتروني لتحقيق هذه المهمة.
ه) استخدام التلفاز والمذياع ووسائل التواصل الاجتماعي وغيرها لما لها من دور كبير في تنفيذ هذه البرامج.
و) تعزيز الاحترام والثقة بالذات وبالمجتمع والوطن وتعميق الحس الوطني والقومي وحب الوطن والوفاء له، وهو ما يشترط الالتحام بنضالات الناس ومصالحها.
6) كل هذا لا يتسنى دون قيادة كفؤة وقادرة على إدارة المشروع إدارة تنفيذية فعّالة وتطبيق برامجه. ولكنه يتطلب أيضاً وبالتوازي قيادة سياسية – اجتماعية قادرة على قيادة التنظم والجماهير وأن تكون أداة فعّالة في توجيه المشروع وإرشاده اجتماعياً (طبقياً) وسياسياً والسير به قدماً وبخطوات ثابتة.
7) أن يكون هذا الإطار (التنظيم/الحركة/الحزب)، قيادة وكوادر، متماسكاً وصامداً في مواجهة القوى الظلامية والرجعية في مجتمعاتنا، وخصوصاً قوى الدين السياسي. وأن يكون واعياً لاحتمالات الملاحقة والقمع من قِبَل الأنظمة الحاكمة وسلطاتها وأدواتها الطبقية – الاجتماعية – السياسية، إذ لا شك أن هذه القوى ستقف ضد هذا المشروع وستحاربه لأنه يتحدى مصالحها وسياساتها وأيديولوجيتها.
8) غني عن القول إن إشكاليات الوعي ومعضلاته لا تقتصر على واقعنا وشعوبنا العربية، بل هي إشكالية معولمة تواجه معارك فكرية وثقافية وإعلامية وسياسية مع رأس المال العالمي وأدواته الفتّاكة على المستويات المحلية والإقليمية والدولية. ومن هنا، يكتسب مشروعنا أبعاداً أممية تستدعي عملاً ورؤية أممية شاملة أيضاً.
***
بهذا، نكون قد أرسينا الأرضية الصلبة للنضال اليومي والعملي، ينتظم من خلالها العمل على توعية الجماهير وكسب كتلة شعبية عريضة مؤيدة لهذا المشروع ولهذا الإطار (التنظيم/الحركة/الحزب) لأنها ترى فيه مشروعها ومصلحتها. وبالمدلول العملي، فإن هذا يعني ببساطة النزول إلى الشارع والعمل بين الناس في المدن والأرياف، في المدارس والمصانع وكافة الأوساط الاجتماعية. وكي لا نترك الحديث فضفاضاً وعرضة للتفسير والتأويل، فإن المقصود هنا هو كسب كافة أبناء الشعب أصحاب المصلحة في التغيير، وأولئك الذين يعملون وينتجون من أجل تأمين قوتهم وعيشهم، والعمل على توعيتهم واستقطابهم وتجنيدهم في خدمة المشروع. وفي هذا ننطلق من تحديد واضح لموقع ودور هذه الطبقات في المشروع التنويري وفي النضال في المستويين: الوطني والطبقي- الاجتماعي، المتمثلين في محو الاستغلال والظلم الطبقي، وفي تحرير الوطن من التبعية للقوى الرأسمالية الغربية والسيطرة على ثرواتنا مقدراتنا وإنجاز التنمية.
في الخلاصة، فإن بناء هذا التنظيم والتفاف الشعب حول رؤيته وبرنامجه ومشروعه سيشكل ضمانة للعبور إلى مرحلة متقدمة في النضال، وسيكون المدخل الموضوعي والعملي لإزالة الانفصام المزمن منذ عقود في الحالة العربية: الانفصام بين القول والفعل، بين النظرية والممارسة، وبين الوعي والتطبيق العملي.
المشروع ودور المثقف
من أجل تجليس دور المثقف في سياق مشروعنا، لا بدّ بدايةً من التأكيد على بعض المفاهيم الأساسية في تشكّل وعي المثقف، ما ينعكس بالضرورة على موقفه ودوره الثقافي والاجتماعي والسياسي.
■ لا تنشأ الثقافة في فضاء نظري منعزل ومجرد، بل تنشأ وتنمو مرتبطة بحركة الطبقات في المجتمع والصراعات الاجتماعية (الطبقية) والسياسية والاقتصادية، فتكون نتاجاً لأوضاع تشكيلة اجتماعية – اقتصادية في سياقٍ تاريخيٍ معين. ومن خلال هذا الواقع الاجتماعي المادي وتناقضاته وصراعاته (الطبقية والسياسية والاقتصادية)، يتشكّل وعي المثقف[1].
■ هذه العوامل هي التي تحدد ما يعتمل في المجتمع من تناقضات وموقف المثقف ودوره في الصراعات الطبقية في المجتمع ومصالحها ضمن أيديولوجيا معينة. وفي الحالة العربية، حيث لا خيار للشعوب إلاّ المواجهة على كل الجبهات، لا خيار للمثقف من تحديد موقفه والذي قد يتطلب انتقال المثقف إلى مواقف أكثر خطورةً وكلفةً وأشد تعرضاً للملاحقة والتضييق.
■ في آتون الصراع الطبقي وحراكه، يسهم المثقف في:
(1) بناء وعيه أولاً؛
(2) وفي خلق وتغذية الوعي الثوري المتنامي داخل الطبقات الشعبية في المجتمع، ثانياً.
■ خلاصة القول، أن مهمة المثقف الملحة في الراهن العربي هي:
(1) محاربة الأفكار والمفاهيم الغيبية؛
(2) خلق وعي شعبي وثقافة شعبية جديدة بالشروط التالية:
أ) أن تكون هذه الثقافة تقدمية وثورية ملتصقة بالشروط المادية القائمة في المجتمع وتعبر عن مصالح الطبقات الشعبية في المرحلة التاريخية الراهنة؛
ب) وأن يتمحور مركزها حول الصراع الوطني – القومي والطبقي؛
ج) أما هدفها فهو العمل على تثقيف المواطن وتجنيد طاقات الجماهير واستعادة دور الشارع العربي في الأحداث المتسارعة في بلادنا وفي صناعة المستقبل.
د) بعبارة أخرى، تكون مهمة المثقف أن يقدم رؤيه مرتكزة على هوية وطنية – قومية تراثية أصيلة مُوطَّنة، تنبع من واقعنا وتعبر عنه، وأن تكون هذه الرؤية قادرة على الحياة والكفاح والصمود ضد هجمة الثورة المضادة، وفي مواجهة تحدياتنا الراهنة من خلال توعية الشارع العربي واستنهاضه وتجنيد قواه.
في هذا المسألة المفصلية تتجلى جسامة الضرر الذي يتسبب به تغييب الوظيفة التنويرية التثقيفية للثقافة والمثقف. (وليس لنا بعد ذلك، أن نستغرب أو نتساءل كيف هبط مشروع التوعية الوطنية والقومية!).
أما انزلاق المثقف في ادعاء التنقيب في التراث، لكشف حقيقة وقائعه وأحداثه والتركيز على سلبياته المتخلفة والرجعية دون إنارة جوانبه الثورية، فليس سوى دفن الرؤوس في الرمال وإمعاناً في تدمير الوعي الشعبي واحترام الشعب لذاته وثقته بنفسه. فالمطلوب من مفكرينا ومثقفينا أن يدرسوا ويبحثوا في التجارب الإيجابية والناحجة في تاريخنا مستندين إلى منهج علمي أمين، وأن يقدموا لنا قيماً ومفاهيماً تلائم سياقنا الاجتماعي والتاريخي الراهن.
خاتمة
في لحظة الانكسار ومناخ الهزيمة التي نعيشها تتجلى سلامة الرؤية وصوابية الدرب. فهناك، كما أوضحنا، أسباب كثيرة تلح علينا بضرورة المشروع التنويري العربي، كي نتمكن من الإنطلاق نحو مكافحة عقود من الهزيمة ومن الثقافة المهزومة التي أضاعت جهودنا لسنوات طويلة ولم ترشدنا إلى بصيص أمل في نهاية هذا النفق المظلم، وكي نتخلص من الانفصام بين القول والفعل، وبين الشعار اللفظي والتطبيق العملي، الذي أعاق أي إنجاز ملموس على الأرض وحال دون تحقيق الأهداف الوطنية والسياسية والاجتماعية الجذربة.
صحيح أن أعداء الوطن قد أجهزوا على محاولات وتجارب عديدة خلال القرنين الماضيين، ولكن حلم العروبة باقٍ وله من المناعة ما هو أكبر. وفي نظرة بعيدة المدى تتبصر التاريخ وتجاربه، بوسعنا أن نقول، إن الشعوب تعاني ولكنها قادرة على الصبر والمقاومة والبقاء والنصر. هذه هي قاعدة التاريخ. مصير الشعوب هو النصر، ولكن هذا النصر، وإن طال انتظاره، لن يتحقق إلاّ بالنفس الطويل والتأهب المستمر. وهو نصر محتوم حتى وإن بدا أن المنتصرين الآن هم أعداء الشعب، لأنهم منتصرون مؤقتون بحكم التاريخ.
لا تستند هذه الخاتمة إلى فائض من التفاؤل أو الحماسة أو الرومانسية في قراءة المستقبل، بل إلى خبرات الشعوب وتجاربها. فشعوبنا تمتلك من مقومات الصمود والمقاومة والنهوض ما يمكنها من الانتصار والمضي قدماً على طريق التحرر والتقدم والتنمية.
[1] كي نكون دقيقين في نقاشنا، لا بد من التوضيح أن حديثنا هنا يدور حول المثقف العضوي، ولسنا بصدد الحديث عن المثقف بالمعنى الفضفاض كالمتعلم أو الأكاديمي أو مَنْ منح نفسه هذا اللقب، وهم كُثر في فضائنا الإعلامي والثقافي في الوطن العربي. وبالمثقف العضوي نقصد: (1) الثوري الملتزم بالطبقات الشعبية المستَغَلة ومصالحها، ونقيضه أي (2) المثقف العضوي الرجعي واليميني الذي يقف على النقيض من الثوري.
الجزء الأول
الجزء الثاني
الجزء الثالث