المحيط: فك الارتباط لمواجهة كورونا الصحي والاقتصادي (3-3)
د. عادل سمارة
ما بعد الكتاب:
أقصد هنا ما بعد صدور كتاب أمين “فك الارتباط”.
كتب عزام محجوب، 1990:
“…أعلنت عشرون من بين خمسين دولة أفريقية في وقت ما نيتها بدرجة أو بأخرى من الراديكالية، القطع مع الماضي الاستعماري والاستعماري الجديد وأن تتبنى مدخلا جذريا لتنمية اشتراكية مستقلة… في معظم، إن لم نقل جميع، هذه الحالات لعب الجيش دورا مهما في التبدل السياسي قيد النقاش… لكن لا هدف التحرر الاقتصادي من التبعية للنظام الرأسمالي العالمي قد أكمل التحرر السياسي ولا بناء مجتمع جديد في تضاد حاد مع العالم الرأسمالي يبدو قد تقدم بما يكفي للوصول إلى نقطة اللاعودة. … وعليه، فإن تطور المحيط تورط في إعادة هيكلة متواصلة، لصالح متطلبات وقيود رأس المال المهيمن. لقد أعيدت بنية المراكز restructured وتمت هيكلة adjustedالمحيط بناء على إعادة بنية المراكز. ولم يحصل العكس … الذين استسهلوا الهيكلة انتهوا إما بالوقوع في شرك المديونية بناء على وصفات البنك والصندوق، وهي حالة الأمم المصنعة حديثا، أو تحولوا بقصد أو بلا قصد إلى عالم رابع فك الارتباط حيث أُخرجوا من النظام… وهذا جعل إعادة الكمبردرة هي النظام السائد اليوم”[33].
يتقاطع هذا مع جزء من تحليل وولرشتين بوجود أو تبلور بلدان شبه مركزية شبه محيطية، ومع التحليل القائل بعالم رابع، خارج التاريخ.
ويندرج هذا الطرح في خانة انتصار رأس المال على العمل مع تأكيده بأن أشباه المراكز لم تنتقل إلى مراكز. ربما يؤكد هذا أزمة 1997 في كوريا الجنوبية حيث قامت مصارف المركز بـ “تكويش/نهب” ثروتها. وهذا ما جعل مهمة فك الارتباط أشد صعوبة مع اتساع الارتباط/الاندماج جغرافياً. وإذا كان الاندماج الذي أشار إليه محجوب هو إعادة اندماج أفريقيا، فإن إعادة اندماج أوروبا الشرقية هو الأكثر مفارقة وغرابة لأن المجموعة الثانية كانت قد عاشت درجة عالية من فك الارتباط، والتي لم تعشها المجموعة الأولى. والمُفزع أن إعادة الاندماج أخذت طابع الإذلال بتحويل معظم تلك البلدان إلى مخلب قط للإمبريالية أو مراكز تدريب لـ “الثورات” البرتقالية أو مستودعات تصدير لفراشات الليل وقوة العمل الرخيصة، ناهيك عن تحولها إلى سوق لمنتجات الغرب الرأسمالي.
يقول محجوب، أن فك الارتباط ليس هو القطيعة بل هو إخضاع/إلحاق العلاقات الخارجية لصالح منطق التنمية المحلية…إنه رفض الخضوع لقانون القيمة المعولم. (محجوب). إن توزيع الدخل هو أقل مساواة في المحيط منه في المركز وهذا يجعل المركز أكثر استقراراً[34].
وهذا القول الصحيح يفتح على تساؤلات هامة بمعنى أن التناقض الطبقي أشد في المحيط ومع ذلك الوعي الطبقي أعمق في المركز! فهل التناقض بحد ذاته لا يخلق وعياً طبقياً سياسياً؟ وبالتالي لا يخلق حالة ثورية؟ أم يخلق وعيا طبقياً انتهازيا مصلحيا في الغرب على مستوى مختلف الطبقات، اللهم إلا من رحمه وعيه الجذري.
لكن أمين يرى أيضاً أن الطبقات الشعبية في المحيط متناقضة مع رأس المال، إلا أن تَفتُّت مصالحها كطبقات شعبية لا يجعل مهمة التصدي سهلة. ويرى أن ما يرتق الفجوة ليس البرجوازية الصغيرة كطبقة مشوشة، ولا الحزب الواحد الذي تولد عبر التحرير؛ بل هو وجود المثقفين الثوريين العضويين كتعبير عن مختلف الطبقات الاجتماعية. ولكن، لمزيد من المفارقة، فإن الطبقة العاملة في المركز مفككة أيضاً[35].
يقع أمين هنا في برزخ التناقض في الدور بين السلطة السياسية للحزب والقوة الثقافية للمثقف الثوري العضوي، وحتى المثقف المشتبك[36] ويفتح على ماهية القوة الثورية المطلوبة لفك الارتباط بل وللإشتراكية (انظر لاحقاً). هل هي الحزب القاعدي، القشرة الثقافية؟. فالمثقف المشتبك هو ميداني طبعاً، ولكنه ليس القوة الشعبية للتغيير. فكيف حين تتم مواجهته عبر الدور الإجهاضي الذي يقوم به الطابور السادس الثقافي؟.
دور الدولة:
في مرحلة ما، يكون فك الارتباط مشروعاً قومياً، وهذا مقبول في مرحلة بناء أمة (nation-Building) بارتكازه على :
1- إعطاء أولوية للتصنيع وإنتاج الأساسيات وتوزيع الموارد،
2- جعل الدولة المحرك الأساس للحياة الاقتصادية. لكن، رغم دور الدولة وامتلاكها القطاع العام إلا أنها إذا
1- بقيت منخرطة في تكنولوجيا أجنبية
2- وتطبق سياسة أسعار ومداخيل تعمل ضد نمو كفاءة القطاع الزراعي وتقلل من قيمة العمل في الأرض و
3- تعتمد سياسة تمويل التصنيع بالاعتماد على الاقتراض الأجنبي، فهي لن تنجز فك الارتباط بل التكيُّف وتبني الحل اللبرالي بتحرير التجارة، أي تدفق رأس المال والسلع وحراكهما المرن وليس حرية حراك العمل، أي حماية المركز وانفتاح المحيط، ورغم ذلك الحلم باللحاق بدل اعتماد سياسة خدمة مقتضيات الاقتصاد المحلي وهذا في الحالة الرسمية منوط بالدولة.
لقد رافق مفهوم فك الارتباط كثير من الخلط منذ التجربة السوفييتية وخاصة الخلط بين التنمية وفك الارتباط. على اعتبار أن التنمية تقود بالضرورة إلى فك الارتباط. فقد رأى المناشفة أن فك الارتباط يغدو مناسباً بحيث يأتي بعد استنزاف المجتمع لمنطق الرأسمالية فالانتقال إلى مرحلة أعلى من الحضارة[37].
والخلط نفسه في الاعتقاد بأن هدف النشاط الاقتصادي هو الاستغلال الكامل للمصادر البشرية والطبيعية، ولذا يعتبرون استخدام المجتمع لهما بمثابة فك ارتباط مع التخلف وعدم التنمية، مع أن هذا درجة أقل من التبعية وبالتالي لا تعني فك الارتباط.
والأمر نفسه في ما يخص الاعتماد على الذات كسياسة تقوم على تحكم البلد بـ
1- المصادر الطبيعية،
2- تحريك واستخدام الفوائض الاقتصادية الناتج عن استغلال المصادر الطبيعية و
3- قاعدة تكنولوجية. بينما فك الارتباط يعني: مصادرة رأس المال الأجنبي، تأميم الصناعات والأنشطة التجارية التي في يد الكمبرادور، وكسر روابط التبعية المالية والنقدية والتجارية.
يبقى السؤال، كما سنرى أدناه هو: هل الدولة/السلطة ناقل موثوق لفك الارتباط والانتقال إلى الاشتراكية؟ هذا ما لم يحسمه أمين.
قضايا للنقاش:
يأخذك هذا المصطلح فوراً إلى سؤال حاسم: هل مضمون فك الارتباط مضمون طبقي؟ أم مضمون شعبوي وتحديداً قومي؟ أم هو في “ألما بين”؟
قد يخدم في التوضيح القول أن فك الارتباط جوهريا ليست وجهته فقط ضد السوق الرأسمالية العالمية، بل هو في جوهره ضد الطبقات التابعة للمركز، وإن كان الصراع معها ليس معلنا وليس نقطة البدء. ورغم أن اتخاذ قرار الفك هذا منوط بالسلطة/الدولة، إلا أنه يفترض ويتطلب ويقود إلى صراع طبقي مع الطبقات التي تنخرط مصالحها في النظام الرأسمالي العالمي. ومع ذلك يبقى السؤال مشروعا بمعنى: هل يبدأ فك الارتباط قومياً في مرحلة ما، وإن صح ذلك هل يبقى قوميا أم له تحولاته الطبقية؟
فك الارتباط، السيادة، وحكم الشركات
يبدأ فك الارتباط، حسب أمين، قوميا دولانياً مما يشترط وجود سلطة قومية وتنموية التوجه. وهذا أمر يزداد صعوبة في حقبة العولمة حيث يتم تجاوز السيادة، وخاصة في بلدان المحيط، لصالح “تحرير التجارة الدولية” الذي جوهره حراك رأس المال والمنتجات بحرية مخترقة حدود الدول دون حرية حراك قوة العمل. وحراك رأس المال والسلع يعني حراك الشركات محمية بقرار دولة/دول المركز.
وعليه، فإن تمييع السيادة الوطنية هو ذهاب في الاتجاه المضاد لفك الارتباط لأنه يتضمن وجود سلطات تابعة ومتخارجة مما ينفي نقطة انطلاق هذه الاستراتيجية.
إذا صح أن حقبة العولمة ابتدأت مع الثلث الأخير من القرن العشرين، وهي حقبة أتت مع، أو أتت بِـ تراجع دور الدولة أو اندغام دورها في دور الشركات، ولكن دون أن تفقد الدولة في المركز سيادتها عولمياً، أي أن فقدان السيادة أمر:
- يتناسب طردياً مع ضعف الدولة
- تبنّي السياسات الليبرالية الجديدة وخاصة الخصخصة
- تفكك الكتلة الاشتراكية
- توسع دوافع الاندماج/الإنخراط في السوق العالمية
- موجة القومية الثالثة.
نجد أن هذه التطورات قد خلقت مناخاً أشد مجافاة لفك الارتباط، لا سيما وأن الدولة وجيشها أصبحا بشكل خاص أداة رأس المال في سلسلة حروب جديدة ضد دول المحيط، وبأن الحرب الباردة قد تحولت إلى حرب ساخنة وخاصة ضد الجمهوريات العربية[38].
نصل من هذا إلى حالة من التناقض الحاد بين:
- الضرورة القصوى لبلدانٍ لفك الارتباط في هذه المرحلة يقابلها استشراس المركز في العدوان لتثبيت تغوُّل قوانين السوق لصالح مقتضيات المركز الرأسمالي، بل لصالح الشركات التي ينتشر إنتاج قِطَعها على صعيد معولم مما يجعل فك الارتباط عالي الكلفة وخاصة مع التطور التكنولوجي[39].
فك الارتباط والتراخي والريع
صحيح أن تفكك كتلة الاشتراكية المحققة نقل الحرب الباردة إلى الساخنة ومنح رأس المال فرصة التوسع جفرافياً من جهة وطبقيا اجتماعيا اقتصاديا وإيديولوجيا من جهة ثانية. فقد راجت أقاويل نهاية الإيديولوجيا رغم تسوُّد إيديولوجيا السوق، الشكل الحقيقي للتوتاليتارية. ولكن تبعت ذلك أزمة اقتصادية عميقة وممتدة في المركز ومن ثم في العالم ككل منذ عام 2007. ولعل أهم مفاعيل هذه الأزمة هو تراخي قبضة الإمبريالية، لا سيما عجز الولايات المتحدة عن العدوان المباشر بعد خسائرها الاقتصادية والبشرية والمعنوية في العراق إثر احتلاله عام 2003 [40]، ولجوئها إلى أشكال جديدة من الحروب:
- حرب تحالف الثورة المضادة بإنابة إرهاب أنظمة وقوى الدين السياسي عن الإمبريالية والصهيونية.
- الحرب التجارية في عهد ترامب.
وهذه نتاج تحالف غير متوازٍ بين الرأسماليات الغربية في المركز والرأسماليات الكمبرادورية في المحيط وتحريكهما لقوى الإرهاب المعولم ضد الأمم من جهة، وتصيير العالم بمثابة قطاع رأسمالي عام معولم لصالح هذا التحالف الطبقي.
والمألوف عالمياً، أن غياب مركز مهيمن، يفسح المجال لدرجة من فك الارتباط أو الانطلاق، حال اليابان في عهد آل ميجي، كما قاد تراخي قبضة الإمبريالية ما بين الحربين الإمبرياليتين إلى نمو مقبول في المكسيك، تشيلي، البرازيل والأرجنتين. وتمكنت بعض البلدان من البدء بتصنيع وتحقيق درجة أولية من فك الارتباط بسبب علاقتها بالإتحاد السوفييتي كحال مصر الناصرية.
كل هذه التجارب تفتح على مسألةٍ أساس وهي أن التنمية بمعناها العام مشروطة بوجود قرار سياسي سيادي للدولة المعنية. وهو شرط سابق على توفر السيولة المالية من حيث الأهمية.
نجد الأمر معكوساً في بلدان الخليج المعتمدة على الريع، بمعنى غياب القرار السياسي السيادي في التنمية فما بالك بفك الارتباط، هذا على الرغم من توفر السيولة المالية/الفائض مما حال دون استثمار لحظة التراخي الإمبريالي هذه والتي ترافق معها صعود قطبيات أخرى قللت من فرص الغزو الإمبريالي بشكل عام.
بل ذهبت هذه الأنظمة إلى انخراط أكثر تبعية في النظام العالمي حيث وضعت مختلف مقدراتها في خدمة مقتضيات العدوان الإمبريالي وليس فقط مقتضيات الوضع الاقتصادي الداخلي لبلدان المركز. بكلام آخر، وضعت كل شيء في خدمة الثورة المضادة التي تعمل على صعيد معولم حيث تم تسخير الريع المتحصل لديها في خدمة منظمات الإرهاب المعولمة (القاعدة، داعش، النصرة ، خراسان، بوكو حرام…إلخ) بينما في السعودية مثلا تصل نسبة الفقر إلى أربعين بالمئة والبطالة 13 بالمئة.
وترافق مع هذا التورط لبلدان الخليج تأثيرها على بلدان العجز العربية مثل مصر والمغرب. فمنذ بداية حكم أنور السادات تبلور توجه النظام في مصر باتجاه الدين السياسي متحالفا مع قوى الدين السياسي ومع الرأسمالية الطفيلية والكمبرادورية، ما قوَّض الاستقلالية الاقتصادية والسياسية لمصر عبر الانفتاح الاقتصادي ووضع أوراق المنطقة في يد الإمبريالية الأمريكية والكيان الصهيوني. وامتدت هذه السياسة طوال فترة حكم حسني مبارك. ورغم انقلاب عبد الفتاح السيسي على نظام الدين السياسي لمحمد مرسي، إلا أنه حافظ تماما على مسيرة التبعية والقمع والتطبيع مع الكيان الصهيوني التي مارسها السادات، وراوح في التبعية السياسية بين أنظمة الريع، السعودية، والإمارات باتجاهاتها السلفية الوهابية.
فك الارتباط و الموجة القومية الثالثة
إذا كانت الموجة القومية الأولى في أوروبا القرن التاسع عشر على يد البرجوازية ارتكازاً على الثورة الصناعية، وإن حاولت المركزانية الأوروبية الزعم أن تلك الموجة هي عالمية وليست أوروبية حصراً، والموجة القومية الثانية هي في بلدان المحيط في منتصف القرن العشرين على يد حركات التحرر الوطني، والتي كما أشار محجوب كانت باتجاه فك الارتباط مع النظام الرأسمالي العالمي، فإن موجة القومية الثالثة كتصنيع إمبريالي في حقبة العولمة عبر تحالفها مع تابعتها الرأسمالية الكمبرادورية في المحيط، وبالتالي فهي توسيع جغرافي للتبعية وإضعاف للدولة القومية وتوسع لنظام السوق وخدمة لمقتضيات اقتصاد المراكز على حساب المحيط وبالطبع في تناقض معيق لفك الارتباط.
نلاحظ هنا جملة مفارقات، ففي حين تعجز الإمبريالية الأمريكية عن شن حروب عسكرية جديدة تشن حروبا بالإنابة وأخرى تجارية. وبدل أن تقوم أنظمة الريع بانتهاز فرصة تراجع القدرة العدوانية الأمريكية خاصة، فإنها تذهب باتجاه تقديم صناديقها السيادية لإنقاذ الاقتصاد الأمريكي ناهيك عن تصدّرها للحرب الإرهابية. وهذا يطرح السؤال الأهم: إن فك الارتباط يقتضي تقويض أنظمة سياسية بأكملها ويؤكد ضرورة الدولة /السلطة الوطنية والقرار السياسي السيادي.
بين النظرية والأداة:
تكمن مشكلة أمين في تردده في تحديد حاسم للأداة الثورية التي تلائم أطروحته الثورية. فالموقف النظري القطعي يقتضي أداة ثورية قطعية وحاسمة للتبلور البنيوي الطبقي والوعي الموقف.
وردت في إحدى أواخر أوراقه في ما يخص فك الارتباط صيغة المشروع السيادي الشعبي[41]: Sovereign Popular Project، إضافة إلى اعتماده الأمة بقوله:
“تبقى الدولة القومية (دولة الأمة) هي فقط إطار التنمية للنضال الحاسم والذي في النهاية يحوِّل العالم”
لذا أنهى ورقته بعدم تحديد أو تسمية الأداة القائدة حيث بقي مكتفياً بـ “المشروع السيادي الشعبي” دونما توضيح للقاعدة الطبقية و الأداة الحزبية الطبقية، وهو ما ناقشته في قراءتي لورقة أمين هذه[42] والمرتكزة على ما ورد في كتابي “أبعد من فك الارتباط[43]” و أطروحتي في بردايم التنمية بالحماية الشعبية.
صحيح أن المشروع السيادي الشعبي يحمل سمات اقتراب أمين من الماوية، ولكن تجربة الصين نفسها أثبتت أن التحالف، وهو ضروري عموما وخاصة في مشروع فك الارتباط بما هو تحول مجتمعي شامل، إلا أنه يشترط تجاوز إشكالية الحزب الماوي الذي تحول إلى ملجأ لأصحاب الطريق الرأسمالي “طرائقيو رأس المال (Capitalist Roaders) عبر اندغام الدولة/الحزب مما استدعى الثورة الثقافية داخل البلد والحزب نفسه مثلا شعار ما “استهدِفوا قيادة الحزب” Target the Headquarter. أضف إلى أن أمين لم يتخلص من ترسبات مدرسة التبعية (Dependency School) الدولانية أي دور الدولة/السلطة لتجسيد مشروعه حيث حكم/قيَّد نفسه بمسألة “الدولة القومية” كما أشرنا أعلاه أي لنقل سلطة الدولة، وهو ما أثبتته تجارب بلدان الاشتراكية المحققة التي تحولت فيها السلطة الحزبية إلى جهاز بيروقراطي (نخبة النومنكلاتورا) التي انتهت إلى قشرة معزولة عن الطبقة والمجتمع فكان تغييرها بمثابة عملية كشط سهلة بغض النظر عن مآلاتها كجزء من الانتصار المهزوم للثورة المضادة.
تقتضي قراءة النظرية والواقع توليد شيء ما جديد يشترط الكثير وخاصة:
- أن تتولد عن هذا التحالف حركة منظمة ميدانية فكرية مقاتلة
- وتوليدها شعبيا يعني خضوعها دائما للقرار الطبقي الشعبي الذي يحدد إطار عملها العام ويحاسبها ضمن دورات زمنية محددة، ويضيف أو يُسقط عضوية بعضها ضمن انتخابات شاملة كما ابتكرت تجربة كميونة باريس.
أختم بالقول إن مسألة الأداة الثورية، طبيعة هذه الأداة هي مسألة جدال لم يصل إلى بلورة معقولة ولو نسبياً. ولعل من أفضل من حاول حلها أو المساهمة فيها الفيلسوف الفرنسي آلان باديو الذي في كتابه (The Communist Hypothesis) وهو عبارة عن دراسة تناولت كميونة باريس، والثورة الثقافية وثورة 68 الطلابية/العمالية حيث رفض الحزبية على النمط الستاليني وتجاوز كذلك الحزب بمفهومه اللينيني، وحاول اعتماد موقف ما في تجاوز الحزب وضرب قلعة قيادته معتمدا على الشعب بما في المصطلح من عمومية. وبهذا ترك باديو الحصان بدون الفارس.
أكرر مجدداً أهمية الشرطين أعلاه:
- أن تتولد عن هذا التحالف حركة منظمة ميدانية فكرية مقاتلة
- وتوليدها شعبيا يعني خضوعها دائما للقرار الطبقي الشعبي الذي يحدد إطار عملها العام ويحاسبها ضمن دورات زمنية محددة، ويضيف أو يُسقط عضوية بعضها ضمن انتخابات شاملة (تجربة الكميونة).
وهو ما حاولته في كلٍّ من أطروحتي “التنمية بالحماية الشعبية” ولاحقا كتابي”Beyond Delinking” وقد أتمكن من المساهمة في هذه المسألة المفتوحة في كتابي القادم “هزائم منتصرة وانتصارات مهزومة”.
هنا نستدعي سمير أمين مجددا. لا بد من فك الارتباط مع السوق العالمية ورفض مقتضياتها لصالح مقتضيات التطور الذاتي لبلدان المحيط، سواء تجاه الغرب أو الشرق وكلتاهما رأسماليات وإن ببعض الاختلافات. هذا من جهة. ومن جهة ثانية، لا بد من التحول للتبادل مع الكتلة الجديدة المنافسة للغرب الرأسمالي ولكن بحمائية شعبية واضحة من نمط كميوني أو نمط الانتفاضة الفلسطينية لعام 1987 وبدون انخراط تابع. وهنا تحديداً يكون الانتقال من فك الارتباط إلى الاشتراكية هو التأكيد على دور العالم الثالث/ في الثورة في هذه المرحلة حيث تقويض النظام الرأسمالي العالمي من أطرافه وصولا إلى المركز. وهنا أيضاً يمكن للتناقض أن يكون مع روسيا والصين أيضاً سواء تفوقتا على الغرب الرأسمالي أم لا.
قد يُقال أن الصين وحتى روسيا الحاليتين ذاهبتان باتجاه تجاوز الرأسمالية إلى الاشتراكية، وهناك من يقول أنهما منذ الآن إمبرياليتان. هذا ما يحسمه:
- الصراع الاجتماعي الطبقي فيهما بمعنى: هل يتم الاكتفاء بالحلول محل المركز القائم، أي هزيمته بالانخراط، أم تتمكن القوى الثورية والطبقات الشعبية من الوصول للسلطة ومواصلة فك الارتباط وصولا إلى الاشتراكية.
- ومدى ثورية تجارب فك الارتباط في المحيط.
[33] Samir Amin, Preface in: Azam Mahjoub, Adjustment or Delinking: The African Experience, Studies in African Political Economy, Zed Books, 1990
[34] يرتد هذا الاستقرار إلى حد كبير إلى تحويل الفائض من المحيط إلى المركز، أي رشوة الطبقات الشعبية في المركز، وقبولها تلك الرشوة على حساب الأمم الأخرى، وهذا يفتح على وجوب نقد انتهازية إطراء المجتمع المدني الذي يقبل بأن يقوم أبناؤه بنهب الأمم الأخرى كي يعيش بشكل مرفه!
[35] عادل سمارة، وباء العولمة
[36] المشتبك
[37] ص. 106، من محجوب
[38] أثناء غزو الكويت والعراق، بعد أن حرر العراق الكويت، أرسلت شركات السلاح الأمريكية خبراء ليشهدوا على الأرض على فعالية السلاح الأمريكي. أما من حيث المشاركة في العدوان، فقد شاركت ثلاث وثلاثون دولة بين مشاركة فعلية ورمزية، بينما دفعت اليابان ، التي لا ينص دستورها على إرسال جيشها خارج البلاد، 18 مليار دولار فرضتها عليها الولايات المتحدة لتغطية نفقات العدوان.
[39] في ما يخص تشريك قطع الصناعات وخاصة المتطورة، كتب أركادي سافيتسكي مقالاً في موقع «Strategic-culture» بعنوان: «إنّه الاقتصاد أيها الأحمق يفصل فيه القرارات الأمريكية للضغط على صناعات روسية، تهدف الولايات المتحدة من ذلك إلى إعاقة تطوير صناعة الطائرات الروسية التي باتت تجذب العالم وخاصة «MC-21» الفريدة من نوعها في العالم. فالمواد المنتجة روسياً تجعل من الطائرة أخف وزناً وأرخص ثمناً، ولهذا قد يشكل حظر الألياف الكربونية والأغلفة مشكلة لإنهاء المشروع وتطويره، ووزارة الخارجية الأمريكية تعرف ذلك تماماً ولهذا ضربت هنا.
والمحرّك يشكّل مشكلة هو الآخر، فهو الأوّل الذي يبنى في روسيا 100% منذ انهيار الاتحاد السوفييتي والذي سيستبدل المحرّك الذي تستخدمه طائرات «MC-21» حتّى الآن من إنتاج شركة «Pratt & Whitney» الأمريكية. وتكمن نقطة الضعف الروسية في هذا السياق إلكترونيات الطيران «Avionics» المتخلفة. فرغم أنّ التطوير قائم ولكنّه لا يزال ضعيفاً، ولاتزال روسيا تعتمد هنا على الشركات الأمريكية والبريطانية والفرنسية العملاقة. أما مدينة نيوم السعودية المعولمة فتشكل نموذجاً لتشريكٍ لا يمكن فكه، بغض النظر عن تطورات المشروع بعد أزمة تقطيع أوصال الصحفي السعودي خاشقجي.
[40] يعود بقاء سيطرة الولايات المتحدة على العراق بعد السحب المزعوم لجيشها إلى خيانة ائتلاف الطبقة الطائفية الحاكمة في العراق وليس إلى قدرة الولايات المتحدة على البقاء، كما يعود إلى تصنيعها للإرهاب.
[41] “The Sovereign Popular Project; The Alternative to Liberal Globalization in Labor and Society” Published in the Journal of Labor and Society (Volume 20, Issue 1 March 2017 Pages 7–22, URL: http://onlinelibrary.wiley.com/doi/10.1111/wusa.12276/full
[43] Beyond De-linking: Development by Popular Projection vs. Development by State, 2005
الجزء الأول