مذبحة دير ياسين
د. غازي حسين
ـ تأسس الكيان الصهيوني على جماجم الفلسطينيين وأراضيهم وأملاكهم.
وقام على الإرهاب والإبادة والعنصرية والاستعمار الاستيطاني وتهجير اليهود إليها وترحيل الفلسطينيين منها.
ـ جرائم اليهود في قرية دير ياسين فاقت جرائم النازيين في قرية ليتشا التشيكية.
في التاسع من نيسان عام 1948 قام الإرهابيون اليهود من عصابتي الأرغون وشتيرن وبموافقة عصابة الهاغاناه بإبادة قرية دير ياسين الواقعة على مقربة من القدس الغربية، وذلك بقتل جميع سكانها البالغ عددهم إبان المعركة 279 معظمهم من الأطفال والنساء والشيوخ والرجال المدنيين وإحراق الجرحى في منازلهم.
وترجع أهمية دير ياسين الاستراتيجية إلى موقعها الاستراتيجي الذي تتمتع فيه ويقع على مرتفع يشرف على القدس الغربية والطريق الذي يربطها بتل أبيب والبحر الأبيض المتوسط وإجبار الشعب الفلسطيني على:إما الابادة أو الترحيل.
أدت المذبحة الرهيبة إلى تحقيق المخطط اليهودي بترحيل الشعب الفلسطيني من مدنه وقراه إلى المناطق الجبلية وإلى خارج فلسطين لاحلال المهاجرين اليهود محلهم، وأصبحت رمزاً لـ الترانسفير ونشوء مشكلة اللاجئين التي خططت لها الحركة الصهيونية منذ المؤتمر الصهيوني الثاني والعشرون الذي انعقد في ذيوريخ عام 1937.
استغلت العصابات اليهودية الإرهابية المسلحة المذبحة وأعلنت عنها لتحقيق التطهير العرقي والاستعمار الاستيطاني لأن اليهود هم الذين أعلنوا عنها مما دفع بالمؤرخ الإسرائيلي بيني موريس إلى القول:
ـ «المفارقة أن مذابح أفظع من دير ياسين حدثت ولكن لا يتذكرها أحد(1)».
وكانت قرية دير ياسين هي القرية العربية الوحيدة في فلسطين التي وقعت صلحاً مع مستعمرة جفعات شاؤول، بالرغم من معارضة الهيئة العربية العليا ومفتي فلسطين الحاج أمين الحسيني.
وكانت القوات البريطانية لا تزال تحكم فلسطين خلال ارتكاب المجزرة وعلى بعد عدة كيلو مترات من موقعها.
ولم تكن مذبحة دير ياسين أول مذبحة ارتكبها اليهود بحق العرب، كما لم تكن أول قرية عربية تطرد سكانها منها أو تبيدهم، فلقد سبقها عشرات المذابح في أقضية يافا واللد والرملة وحيفا وصفد التي لا تقل عنها وحشية وهمجية، ويلفت القرى العربية المدمرة إبان وبعد حرب 1948 التي أشعلتها إسرائيل حوالي (500) قرية، وزعت أملاكها وأراضيها ومزارعها وبيارات البرتقال فيها على المستعمرين اليهود وأقيمت على أنقاضها المستعمرات اليهودية.
ولكن دير ياسين حظيت بشهرة إعلامية لقربها من القدس، ولقيام الصليب الأحمر الدولي بتفقد موقع المذبحة قبل إخفاء معالمها، ولوجود المندوب السامي البريطاني على مسافة قصيرة منها، ولأن حكومة الانتداب البريطاني كانت لا تزال تسيطر على فلسطين ورفض الجيش البريطاني التدخل لانقاذ المدنيين ولنشوء الخلافات بين المنظمتين اليهوديتين الإرهابيتين وعصابة الهاغاناه، والتفاخر والتنافس اليهودي على ذبح العرب واحتلال أكبر مساحة من أراضي الدولة العربية التي عيَّن حدودها قرار الأمم المتحدة رقم 181.
كان الهدف الرئيسي من ارتكاب المجزرة نشر الذعر والخوف بين العرب والتأثير في معنوياتهم وترحيلهم من وطنهم، حيث كانت نقطة تحول في تهجير حوالي مليون فلسطيني من مدنهم وقراهم.
أعطت عصابة الهاغاناه الضوء الأخضر لعصابتي الأرغون وشتيرن الإرهابيتين للهجوم على دير ياسين وإبادة جميع سكانها حتى الرضع منهم ومسحها من الوجود لأهميتها الاستراتيجية لاحتلال القدس الغربية.
وحددتا ساعة الصفر في الخامسة والربع من فجر التاسع من نيسان إلاَّ أن الإبادة بدأت في الساعة 4,30 فجراً، ويروي المؤرخ اليهودي ملشتاين أن جمهوراً يهودياً تجمّع في مستعمرة جفعات شاؤول، وإن نساء المستعمرة أخذن يملأن مخازن البنادق والمدافع الرشاشة لإرسالها إلى المعتدين اليهود في دير ياسين.
تصدى المدافعون العرب القلائل للمعتدين إلى أن نفذت الذخيرة لديهم وتدخلت قوات البالماخ التابعة لعصابة الهاغاناه وحسمت المعركة لمصلحة المعتدين من عصابتي الأرغون وشتيرن.
وكان محمود سمور، مختار قرية دير ياسين قد توجه فوراً عند بدء الاعتداء إلى القدس طلباً للمساعدة والإمدادات ليجد جميع الأهالي من مقاتلين ومدنيين يستعدون لاستقبال جثمان الشهيد البطل عبد القادر الحسيني عائدين من معركة استرداد القسطل في قرية عين كارم، ولم يهتموا إلى استغاثة أول الهاربات من جحيم دير ياسين، ولم تقم القوات البريطانية الموجودة في القدس في حماية المدنيين العرب من الإبادة بالحرق والقتل وتقطيع أوصالهم وهم أحياء.
وتحدثت زوجة محمد عيد أن أحد أهالي دير ياسين توجه إلى قرية عين كارم عندما نفذت ذخيرته، عارضاً ابنته للزواج في مقابل الذخيرة للوقوف أمام المعتدين والمجرمين والقتلة اليهود.
وحشية اليهود فاقت وحشية النازيين
روت نزيهة (عمرها وقتذاك 8 سنين) أن المهاجمين ألقوا قنبلة يدوية على منزلهم فهزته وحطمت زجاج شرفته وقالت: «أخذت أنا وأخي عمر نبكي من شدة الخوف، وأخذ اليهود يطرقون الباب بأعقاب البنادق ويقولون بالعربية (اقتحموا وإلا ننسف الدار عليكم)، وطلبت جدتي الأمان وإلاّ يقتلونا فقالوا (لا نقتلكم)، وفتحت جدتي الباب ودخل يهوديان مسلحان ومعهما فتاة مسلحة، فسحبوا جدي (الجريح) من السرير وأطلقوا عليه الرصاص ورأيته يترنح ويدور حول نفسه وتقدمت اليهودية منه وصارت تطلق الرصاص على رأسه حتى مزقته فارتعدنا أنا وجدتي من هول المنظر و وضعونا في قن الدجاج، وبعد فترة أخذتنا جدتنا إلى أقرب بيت من أقربائنا آل زهران، وقبل وصولنا بقليل فوجئنا بيهودي قابلنا وجهاً لوجه يطلق النار على جدتي فسقطت على الأرض وسقط أخي عمر عن ظهرها فارتميت بجانبهما، وبعد قليل تفحصت جدتي وجدتها تتضرج في بركة من الدماء وأخذت أبكي وأقلب أخي عمر وأناديه ولكنه قد مات أيضاً، ثم تقدمت من منزل عمتي بسمة ويا للهول ما رأيت، الجثث أكواماً أكواماً أمام كل باب منها: وكان باب دار عمتي محترقاً والدخان يتصاعد من الداخل ورأيت عمتي بسمة مطروحة على مدخل البيت ومن حولها جثث بناتها وابن عمتي فتحي (3 أعوام) وبينما كنت أنظر إليها سمعت أنيناً من الداخل وبكاء طفلة من ناحية أخرى(2)».
وناديت وأجابني صوت يقول «أنا فاطمة»، سألتني من أنت؟ فقلت لها أنا نزيهة، فطلبت مني أن أدخل إلى البيت، وقلت لها: إنني لا أستطيع ذلك الآن بيتكم محروق، وطلبت منها أن تخرج هي فقالت: إن رأسها ينزف دماً ولا تستطيع الحركة، وعدت إلى عمتي، وأخذت أضع يدي على جبينها ورأسها وتلطخت يداي وشعري بدمها، واعتراني فزع هائل، ورجعت واستلقيت بجانب جدتي وأخي عمر (الأموات) ولشدة خوفي غفت عيناي، وكنت قد شاهدت طفلاً على درج أحد البيوت ودمه يسيل، وبعد فترة أفقت على وخزات على جسدي فلما فتحت عيناي رأيت يهودياً فوق رأسي يخزني بكعب بندقيته وأمرني أن أتبعه وسرت خلفه، ثم قلت إنني أريد أن أذهب عند أمي، فسألوني عن مكان أمي فأشرت إلى دار خالي القريبة منا، وأخذني أحدهم نحو الدار وأخذ يطرق الباب بكعب بندقيته، ولما سمعت امرأة خالي صفية ذلك أخذت تستعطف اليهودي ألا يقتلها فقال لها تكلمي معها، فلما ناديت سمعت صوتي وفتحت الباب وهي تحمل راية بيضاء ولما رأتني أمي أخذت تناديني وأنا أناديها وكلنا نبكي، وهنا أخرج اليهودي أمي نزهة وامرأة خالي صفية، وسار بنا إلى بيت قريب، كانوا قد بدأوا يجمعون النساء والأطفال فيه(3).
وروت الشاهدة زينب أنه اقترب من بيتها خمسة يهود تصحبهم فتاتان يحملون السلاح وأكياساً فيها قنابل يدوية ويطلبون منا أن نفتح الباب وإلا ألقوا قنبلة على المنزل، فرفضت وقالت في نفسها: «قنبلة تجهز علينا دفعة واحدة أفضل من أن نقتل بالرصاص كما فعلوا بعائلة زيدان»، وإذ بهم يقذفون البيت بقنبلة تحطم الباب والزجاج وتجرح كلاً من آمنة ومريم ثم يقتحمون المنزل ويمسك أحدهم بأخيها موسى فتستغيث وتستعطفه ألا يقتله وتفرض عليه مبلغ (200) جنيه (استرليني)، ولكنه يدفع بموسى إلى الشارع ويوقفه رافعاً يديه أمام حائط ويرديه.
وتتابع زينب شهادتها وتقول: بعدها أخذت أنحني على قدميه متوسلة حتى لا يقتل أطفالي فأخذنا جميعاً إلى حيث كانوا يجمعون النساء وتركنا هناك.
استخدمت المنظمتان الإرهابيتان ايتسل (الأرغون) بزعامة مناحيم بيغن، ويحي (شتيرن) بزعامة اسحق شامير الأسرى من الشيوخ والنساء والأطفال العرب للقيام بما يلي:
أولاً: ارغامهم على السير في مقدمة المقاتلين اليهود كدروع بشرية للاحتماء بهم من رصاص المواقعين.
ثانياً: ارغامهم تحت أزيز الرصاص على نقل جرحاهم وقتلاهم من الأمكنة الخطرة إلى مناطق أكثر أمناً.
ثالثاً: استعمالهم وسيلة للخداع كي يفتح الأهالي أبواب منازلهم لأسرهم أو قتلهم ونهب محتويات المنازل.
أما الجرحى والأسرى العرب فكان مصيرهم القتل إذ يعترف الضابط الطبيب يهوشواع غورود ونتشيك الذي رافق عصابة الأرغون في تدمير القرية وإبادة المدنيين فيها في شهادته الموجودة في أرشيف مؤسسة جابوتنسكي في تل أبيب: «بعد أن تكبدنا العديد من الإصابات فكرنا في الانسحاب من القرية و بالإجهاز على الذين كنا قد أسرناهم، وبالفعل أجهزنا عليهم وعلى الجرحى كذلك، وكذلك قررنا الإجهاز على الأسيرات اللواتي رفضن الانصياع لأوامرنا».
وتروي زينب سمور أنه عندما كانت مع شقيقتها في أحد مراكز التجمع للأسرى، سمعنا بكاء طفلة فطلبت شقيقتها من أحد الحراس السماح لها بأن تأتي بها، وكانت الطفلة في دار خالها وقالت للحارس: «أنا آخذها وأربيها»، وعندما وصلت إلى البيت رأت خالها وزوجته وزوجة ابنه وأطفال العائلة جميعاً قتلى يسبحون في بركة من الدماء، ووجدت طفلة رضيعة ممسكة بثدي أمها باكية، فما كان من الحارس إلاَّ أن صوّب رشاشة إلى الطفلة وقتلها.
وتروي والدة محمود سمور أنها بعد أن اقتيدت كي تسير أمام المهاجمين لدخول البيوت وأعيدت إلى المكان المخصص للأسيرات، أبصرت على الطريق جريحاً من أهالي القرية تتدفق الدماء منه فحاولت التوقف لإسعافه وإذ بضربة شديدة على ظهرها من حارسها تعقبها ضربات، ثم يأمرها بمتابعة السير.
وتروي زوجة موسى عطية أنها عندما أخرجت من منزلها شاهدت جثة زوجها عند الباب، فحاولت النظر إليه وإذ بحارسها يلطمها ويسألها عن هوية القتيل فتنكر معرفتها به.
وتروي فاطمة (أم صفية) أنه عندما أسروا الشيخ يوسف حميدة (70 عاماً) جذبوه من لحيته وشتموه قبل إعدامه.
وتعرضت الأسيرات جميعاً لسلب كل ما عليهن ولديهن من الحلي والأساور والخواتم والنقود وأغطية الرأس المزينة بالعملات الذهبية والفضية.
وروى الطفل فهمي زيدان الناجي الوحيد من عائلته قائلاً: «أمر اليهود أفراد أسرتي جميعاً بأن يقفوا وقد أداروا وجوههم إلى الحائط، ثم راحوا يطلقون علينا النار، أصبت في جنبي، واستطاع بعض الأطفال النجاة لأننا اختبأنا وراء أهلنا، فرق الرصاص رأس أختي قدرية البالغة أربع سنوات من العمر، كما مزق وجه أختي سمية (8 سنوات)، وصدر أخي محمد (7 سنوات)، وقتل الآخرون الذين أوقفوا إلى الحائط: أبي وأمي وجدي وجدتي وأعمامي وعماتي وعدد من أولادهم(4)».
وتروي حليمة عيد وتقول: رأيت رجلاً يطلق الرصاص فأصاب عنق زوجة أخي خالدية، التي كانت موشكة على الوضع ثم شق بطنها بسكين لحام، ولما حاولت إحدى النساء إخراج الطفل من أحشاء الحامل الميتة، قتلوها أيضاً واسمها عائشة رضوان.
وتحدث الرجل الثاني في قوات عصابة الأرغون التي هاجمت دير ياسين يهودا لابيدوت وقال:
«غيرنا التكتيك وقبل دخولنا أي مبنى كنا نلقي فيه قنبلة يدوية أو تنسفه، وهذا سبب وقوع خسائر جسيمة في الأرواح من الرجال والنساء والأطفال».
وحددت مجزرة دير ياسين سمات حرب عام 1948 التي أشعلها اليهود «فإما أن ترحل أو تموت».
المحرقة اليهودية في دير ياسين
قرر قادة العصابات اليهودية الإرهابية التخلص من جثث المدنيين العرب بعد خروج ممثل الصليب الأحمر الدولي عصر الأحد 11 نيسان عن طريق حرقها.
ويروي موشي برزيلاي، ضابط الاستخبارات في عصابة ليحي (شتيرن) محاولة حرق الجثث ويقول:
«صببنا ثلاثة أوعية نفط على ثلاثين جثة في الشارع الرئيسي، وبعد نصف ساعة أدركنا أن هذا مستحيل، فيصدر يهوشواع زتلر (قائد ليحي في القدس) أمراً بنقل الجثث المحترقة قليلاً من الشارع الرئيسي إلى ما وراء جدار، وجررنا سوياً إحدى الجثث وانفصلت يد عن الجسم وبقيت وتقيأت».
ويروي شاهد عيان من عصابة ليحي اسمه شمعون مونيتا: «اعتقدنا أن الجثث ستشتعل ولكن لا يمكن إحراق جثث في الهواء الطلق، ولقد بنى النازيون من أجل ذلك موقداً يشتعل بدرجة حرارة عالية جداً».
ويصف دورون حسداي، أحد قادة الجدناع (فصائل مسلحة للشبيبة اليهودية) الهولوكوست اليهودي في دير ياسين قائلاً: «على امتداد عشرات الأمتار كانت شعل من النيران تتوقف وفيها جثث لا تزال رائحة اللحم المشعوط تطاردني حتى الآن، ويتصل بشورون شيف (برئيسه) شلنيئيل ويقول له: «محرقة (هولوكوست) إنهم يحرقون بشراً»».
وأكد أرئيل في شهادته أن القتلى كانوا في معظمهم من الشيوخ والنساء والأطفال، وأنه كلف قادة متقدمين في السن نسبياً من رجاله مهمة الدفن: «عملنا طوال ليلة 12 ـ 13 نيسان وكان من الصعب إخراج الجثث من منزلين فحصلنا على موافقة على نسف المنزلين مع الجثث ونفذنا ذلك في صباح الثلاثاء 13 نيسان، ودفنا في قبر جماعي نحو (70) جثة ونسفنا مجموعتين من الجثث كل واحدة منها نحو 20 جثة».
الإرهابيون يعترفون بإبادة دير ياسين
عقدت المنظمتان الإرهابيتان الأرغون وشتيرن عند الساعة الثامنة من مساء يوم المذبحة مؤتمراً صحفياً في مستعمر جفعات شاؤول تحدث فيه مردخاي رعنان وقال:
«يسوؤني أن أعلمكم إننا قمنا بحملة تأديبية على قرية دير ياسين العربية القريبة من هنا، لما كان شبابها يقومون به من تحرش واستفزاز بالأهلين اليهود فأبدناهم عن بكرة أبيهم ودمرنا قريتهم ليكونوا عبرة لغيرهم، ويسرنا أن نعلمكم أننا نعترف بتقتيل عدد من النساء والأطفال تعرضوا لنيران بنادقنا ومدفعيتنا الرشاشة(5)».
وأكد المؤرخ الإسرائيلي ملشتاين أن مردخاي رعنان أجاب على أسئلة الصحفيين خلال المؤتمر الصحفي حول عدد القتلى بقوله إن عدد القتلى العرب (245)، وأن محطة الإذاعة البريطانية أعلنت في الليلة نفسها هذا الرقم قائلة إن معظمهم من الأطفال والنساء.
وأعلن السفاح مناحيم بيغن، رئيس عصابة الأرغون الإرهابية في ليلة المذبحة قائلاً: «إن احتلال دير ياسين إنجاز رائع»، وأوعز توجيه رسالة إلى القادة الذين نفذوا المجزرة الجماعية وأبادوا القرية العربية عن بكرة أبيها جاء فيها ما يلي:
«تقبلوا تهانينا على هذا النصر المدهش، انقلوا إلى الجميع أفراداً وقادة أننا نصافحهم فخورين بروحهم القتالية الغازية التي صنعت التاريخ في أرض إسرائيل وإلى النصر كما في دير ياسين كذلك في غيرها سنقتحم ونبيد العدو، ربنا، ربنا لقد اخترتنا للفتح(6)».
وجاء في البيان الذي أصدرته منظمة إتسل الإرهابية في 9 نيسان 1948 «إن قرية دير ياسين قد احتلت بأكملها، وهي الآن في إيدينا، وتم حتى الآن إحصاء (240) قتيلاً عربياً، بعد أن دارت المعارك من بيت إلى آخر، كما وقع في أيدينا أسرى بحرب».
وكتبت هاداسا أفيغدوري وهي من أفراد قوة البالماح التي ساهمت في الهجوم على دير ياسين في يومياتها تقول إن موشي ديان جاء عند المساء إلى المعسكر الموجودة فيه «وانتظرتُ حتى أسمع من أحد القادة كلمة تعبّر عن الاشمئزاز أو الغضب أو الأسف عما حصل في دير ياسين أو تدعو إلى التقيد ببعض المبادئ الأخلاقية، انتظرت أن يعبر ديات عن هذه المشاعر أو على الأقل أن يحدد ما يجوز عمله أثناء القتال وما لا يجوز ولكن لم يتكلم أحد من القادة في هذه الأمور(7)».
ارتكب الإرهابيون اليهود مذبحة دير ياسين إبان وجود حكومة الانتداب البريطاني في فلسطين وكان يقر المندوب السامي البريطاني في القدس لا يبعد إلاّ عدة كيلو مترات عن مسرح المذبحة.
وكعادة اليهود في الكذب، وبصفتهم أساتذة كبار في الكذب والتضليل، وزَّعت عصابة شتيرن والأرغون في (10) نيسان بياناً جاء فيه «إن وحدات الأرغون وشتيرن هاجمت دير ياسين واحتلتها، وأن تجمعات كثيفة من المسلحين العرب كانت قد تمركزت في القرية وباشرت إزعاج المناطق اليهودية في القدس، وأنه وردت معلومات عن وصول إمدادات من الجنود العراقيين والسوريين إلى دير ياسين بهدف الهجوم على هذه المناطق اليهودية، وأنه بعد إجلاء النساء والأطفال عن القرية باشر الجنود نسف المعامل على العشرات من رجال العدو الذين قضوا تحت أنقاضها، وأن مكبراً للصوت ناشد النساء والأطفال مغادرة القرية فوراً واللجوء إلى التلال المجاورة، وأن الكثير من الأطفال والنساء أنقذوا نتيجة ذلك(8)»,
وكان القاصي والداني يعلم علم اليقين بأنه لم تتمركز قوات عسكرية سورية وعراقية في دير ياسين على الإطلاق، ولم تصلها نجدات عربية، ولم تهدد القرية في يوم من الأيام المستعمرات اليهودية القريبة منها، بل وقعت مع مستعمرة جفعات شاؤول معاهدة “عدم اعتداء” خلافاً لموقف الهيئة العربية العليا في القدس، وذبحوا جميع الأطفال والنساء والشيوخ والرجال عن بكرة أبيهم.
وبلغ الكذب اليهودي جواً زعمت فيه وجود قوات عسكرية سورية وعراقية في القرية، وأن القرية تهدد المستعمرات اليهودية وأنها أنقذت أطفال ونساء القرية، وذلك خلافاً للواقع والحقيقة لأن القرية وقعت معاهدة صداقة وعدم اعتداء ولأن معظم ضحايا المذبحة كانوا من الأطفال والنساء.
وظهر كذب بن غوريون بجلاء عندما أعلن أن قواته لم تشترك في المذبحة وأدانها، حيث أثبتت الوثائق مشاركة قوات البالماخ التابعة لعصابة الهاغاناه الإرهابية فيها، وعلمها المسبق بها، فكتب أرييه يتسحاقي في يديعوت احرونوت الصادرة في 14/4/1972 وتتهم عصابة الهاغاناة التابعة إلى بن غوريون ويدافع عن عصابة بيغن الإرهابية ويقول:
«إن معركة دير ياسين كانت إلى حد كبير معركة تقليدية لاحتلال قرية عربية عام 1948، ولقد نفذت عشرات العمليات من هذا النوع بأيدي جنود الهاغاناه و البالماخ في الأشهر الأولى من حرب الاستقلال».
ودافعت عصابة الهاغاناه الإرهابية عن نفسها في بيان صدر في 12 نيسان رداً على بيانات عصابتي شتيرن والأرغون وورد فيه «أن دير ياسين لم تشترك في الاعتداء على الأحياء اليهودية في القدس، وأن الهجوم على دير ياسين لم يكن جزءاً من مخطط الدفاع عن القدس ولا قيمة عسكرية له، وإن ما قامتا به كان لمجرد التباهي لأغراض الدعاية(9)».
وردَّت العصابتان الإرهابيتان شتيرن والأرغون على بيان الهاغاناه في بيانين بتاريخ 12 و14 نيسان أكدتا فيهما إن الهدف من احتلال دير ياسين هو من أجل تحرير القدس، وأن قائد الهاغاناه في القدس دافيد شلتيئيل قد أكد أن احتلال دير ياسين كان من ضمن خطة الهاغاناه، وأن احتلال دير ياسين أوقع الرعب في القرى المجاورة فتساقطت أمام هجمات الهاغاناه وأدت إلى موجة هروب العرب الهائلة خوفاً من الذبح كما حصل في دير ياسين.
أعلن مائير باعيل أحد الإرهابيين المحاربين اليهود الذين اشتركوا في المذبحة في يديعوت احرونوت الصادرة بتاريخ 4/4/1972 ووصفته الجريدة بأنه شاهد العيان الوحيد من خارج صفوف عصابتي شتيرن والأرغون الذي شارك في ارتكاب المذبحة، وسجّل ما شاهده وسمعه وجاء في تقريره ما يلي:
«كان الوقت ظهراً عندما انتهت المعركة وتوقف إطلاق النار، وغادر محاربو اتسل وليحي (الأرغون وشتيرن) الأماكن التي اختبأوا فيها، وبدأوا ينفذون عملية تطهير لمنازل القرية، وأطلقوا النار على كل من شاهدوه في الطرقات والمنازل، وحدثت مجزرة مخجلة بين السكان (المدنيين) الرجال والشيوخ والنساء والأطفال دون تمييز بتوقيف السكان بجانب الجدران والزوايا وإطلاق النار عليهم، ولم يحاول القادة منع أعمال القتل المخجلة».
لقد توسلت، أنا وعدد من سكان القدس إلى قادة اتسل و ليحيي كي يصدروا تعليماتهم إلى جنودهم بوقف إطلاق النار على السكان (المدنيين)، ولكن عبثاً حاولنا، وفي هذه الأثناء أخرج من داخل المنازل نحو خمسة وعشرين رجلاً، نقلوا في سيارة شحن و اقتيدوا في جولة انتصار، في حي محانيه يهودا و زخرون يوسف، وفي نهاية الجولة، احضروا إلى قلع للحجارة، وأطلق عليهم الرصاص بدم بارد، ثم أصعد محاربو اتسل وليحيي النساء والأطفال، الذين استطاعوا البقاء على قيد الحياة، إلى سيارة شحن ونقلوهم إلى بوابة مندلباوم، ورفض قادة ليحيى و اتسل الطلب الذي وجه إليهم بأن يدفن محاربوهم 254 ضحية عربية كانت مبعثرة في شوارع وأزقة وداخل منازل القرية(10).
وتحدث عكيبا أزولاي، قائد منطقة جفعات شاؤول، ونائب رئيس بلدية القدس القريبة المحتلة فيما بعد وقال: «بتاريخ 12/4/1948 وصلت إلى القرية قوة من الهاغاناه، وقال نيسان هرتز الذي كان ضمن قوة الهاغاناه، عندما دخلنا قرية دير ياسين، كانت رائحة الجثث المحروقة تملأ أجواء القرية، ولم تعثر في القرية على أحياء، حيث كانت مهجورة تماماً، وخلال عملية جمع الضحايا تكشف لنا حجم عمليات القتل التي جرت في القرية، فقد عثر على عشرات الجثث لرجال ونساء وشيوخ وأطفال داخل البيوت، وقد قتل كثير منهم في أسرتهم، وكانت تبدو آثار إطلاق النار على الجدران، وفي عدد من البيوت وجدنا عائلات كاملة مقتولة، وجثث الأطفال ملقاة على الأرض هنا وهناك».
وعند الفجر أبلغونا بأن الصليب الأحمر سيصل إلى القرية في وقت قصير، وعلينا أن نخفي آثار المجزرة، فقمنا بجمع العشرات من الجثث ووضعناها في بناية، ثم قام خبراء المتفجرات بتفجيرها على من فيها من جثث(10)، وفي مساء يوم الجمعة، تم نقل الأسرى في شاحنات مفتوحة اجتازت شوارع القدس، ويقول عضو الكنيست الأسبق يعقوب جيل: «كنا نسكن في نحلئوت في القدس، عندما وقعت مذبحة دير ياسين، وبعد أن تم احتلال القرية، نقل الأسرى في شاحنات مرت عبر حي نحلئوت باتجاه معسكر يهودا، وقام جمهور من اليهود بالبصق على الأسرى وقذفهم بالحجارة، ووجهت إلى الأسرى أقذع الشتائم».
مسؤولية الحكومة البريطانية عن المذبحة
عقد د. حسين فخري الخالدي رئيس بلدية القدس مؤتمراً صحفياً في القدس قال فيه إنه اتصل فور وصول الأنباء عن مذبحة دير ياسين بقيادة الشرطة والجيش والحكومة المدنية البريطانية طالباً إيفاد من يتحرى الأمر، لكنهم جميعاً رفضوا تلبية طلبه.
بعث المندوب السامي البريطاني برسالة إلى وزير المستعمرات في لندن في يوم الاثنين الموافق في 12 نيسان 1948 قال فيها: «ما زالت القرية في أثناء كتابتي هذه السطور في يد اليهود، أردت أن يضرب جنودنا اليهود في دير ياسين بكل ما لديهم من قوة و يطردوهم منها، لكن الجيش يقول لي أنه ليس في وضع يمكنه من القيام بمثل هذا العمل، أو بأي عمل قد يؤدي إلى صدام عام مع أي من الطرفين».
واعترف وزير المستعمرات البريطاني كريتش جونز في 12 نيسان أمام مجلس العموم البريطاني بالعجز عن وصف وحشية اليهود في دير ياسين، ووصف المذبحة بأنها جريمة وحشية شنيعة من شأنها جعل الوصول إلى تسوية سليمة أمراً بعيداً واستطرد قائلاً:
«يصعب عليَّ أن أصف الفزع الذي تشعر به الحكومة البريطانية إزاء هذه الجريمة البربرية، إنها تلقي في روع العالم الشيء الكثير من الهلع وتثير كامن الغضب ودفين الأحقاد(11)».
أعلن البريطانيون والفرنسيون نبأ المجزرة الجماعية على العالم، وأجمع المراقبون والمؤرخون والصحفيون أن عدد الشهداء (254) ولكنني أضيف إليهم العدد (25) من الرجال الذين أسرهم الإرهابيون اليهود وطافوا بهم في شوارع القدس المحتلة و أعدموهم في الكسارة ما بين مستعمرة جفعات شاؤول والقرية وبالتالي يصبح عدد الشهداء (279) شهيداً، وعندما أعلن البريطانيون نبأ المذبحة على العالم استنكرها بن غوريون.
وحمل الحكومة البريطانية والمندوب السامي البريطاني والجيش البريطاني المسؤولية عن إبادة قرية دير ياسين بأسرها، لأنها قصّرت في توفير الحماية للمدنيين الفلسطينيين، وبالتالي قصّرت القيام بواجباتها في حفظ الأمن والاستقرار والمحافظة على حياة المدنيين في فلسطين كدولة منتدبة كانت تحكم البلاد وتسيطر عليها وتعهدت أمام عصبة الأمم والأمم المتحدة بالمحافظة على الأمن والاستقرار فيها.
ويروي أحمد عيد أنه توجه برفقة علي جابر إلى المركز الرئيسي للشركة البريطانية في القشلة بالقدس، حيث قابلا مدير المركز طالبين إليه التدخل لحماية الأطفال والنساء من الإبادة في دير ياسين، ولكنه اعتذر.
مندوب الصليب الأحمر الدولي والمذبحة
كان الفرنسي جاك دورينيه، مندوب الصليب الأحمر الدولي في القدس أول من دخل دير ياسين بعد إبادة سكان القرية عن بكرة أبيهم، وقال إن العرب في القدس اتصلوا به هاتفياً يوم السبت في 10 نيسان وطلبوا منه التوجه فوراً إلى دير ياسين.
فاتصل بالوكالة اليهودية و بقيادة الهاغاناه فأنكرا علمهما بالمجزرة، وقيل له أن لا علم لهما بما حدث ونصحوه بعدم التدخل كي لا يقضي بذلك على مهمته الإنسانية ويسيء إليها، ورفضت تقديم الحماية له إذا ما قرر دخول القرية.
فأجابهم بأنه مصمم على الذهاب إلى القرية والتأكد بنفسه مما حدث وحمّل الوكالة اليهودية مسؤولية حمايته، وتمكّن من دخول دير ياسين في سيارة إسعاف تابعة للصليب الأحمر في 11 نيسان 1948.
وصف ممثل الصليب الأحمر الدولي ما شاهده في دير ياسين وقال إن أفراد العصابة اليهود سواء الرجال منهم أو النساء كانوا جميعاً مدججين بالسلاح، يحملون الرشاشات والمسدسات والقنابل اليدوية والسكاكين الطويلة.
وكان معظم السكاكين ملطخاً بالدماء، واقتربت مني شابة وسيمة ذات عينين مجرمتين وأرتني بتبناه سكينتها التي كانت ما زالت تقطر دماً، وكان واضحاً أن هذا هو فريق التطهير للإجهاز على الجرحى وأنه كان يقوم بمهمة خير قيام(12) وتابع ممثل الصليب الأحمر الدولي روايته للمذبحة بعد دخوله أحد منازل القرية قائلاً:
«كان كل ما فيه مقلوباً رأساً على عقب، وفيه جثث باردة، والواضح لكل عين ترى أن التطهير جرى بالمدافع الرشاشة والقنابل اليدوية وأكمل بالسكاكين، وكان المشهد في المنزل التالي مشابهاً، وبينما كنت على وشك الخروج منه وإذا بي أسمع صوتاً كأنه تنهد خافت، فأخذت أفتش في كل مكان وأقلب الجثث إلى أن ظهر لي قدم صغير كان لا يزال دافئاً وكانت صاحبته فتاة صغيرة لها من العمر عشرة أعوام شوهتها قنبلة يدوية لكنها مازالت حية، فحملتها وتوجهت نحو باب المنزل، وإذ بالضابط اليهودي واقفاً عنده يعترض مروري، فدفعته جانباً حاملاً حملي الثمين، وضعت الطفلة في سيارة الإسعاف وطلبت من السائق أن ينقلها فوراً إلى المستشفى ثم يعود إلي، وكان المشهد المريع ذاته في كل منزل دخلته، ولم أجد حياً غير امرأتين أخريين، إحداهما جدة طاعنة في السن ظلت مختبئة خلف كومة من الحطب طوال اليومين الأخيرين(13)».
ويقول الطبيب اليهودي ألفرد أنغل الذي رافق دو رينييه، مندوب الصليب الأحمر الدولي إلى دير ياسين: «كان واضحاً أن المهاجمين انتقلوا من منزل إلى آخر، وأطلقوا النار على الأشخاص عن كثب، لقد خدمت مدة خمس سنوات في الجيش الألماني في الحرب العالمية الأولى ولم أر مشهداً مفزعاً كهذا(14)».
ثبت بجلاء أن الدافع الأساسي لإبادة جميع أهالي قرية دير ياسين العربية هو الترحيل الجماعي للفلسطينيين ووضعهم أمام معادلة وحشية :إما الاما الإبادة أو الترحيل ومصادرة الأراضي والأملاك العربية وتهويدها، وقتل أكبر عدد ممكن من العرب، واحتلال تهويد القدس والمناطق المحيطة بها.
علّق الإرهابي مناحيم بيغن على مجزرة دير ياسين في كتابه «الثورة» عن الترحيل الجماعي الذي سببته المجزرة والنتائج التي جلبتها لإسرائيل وقال: «أصيب العرب بعد أخبار دير ياسين بهلع قوي لا حدود له، فأخذوا بالفرار للنجاة بأرواحهم، وسرعان ما تحوّل الهرب الجماعي إلى اندفاع هائج جنوني لا يمكن كبحه أو السيطرة عليه أن الأهمية الاقتصادية والسياسية لهذا التطور لا يمكن المبالغة فيها مهما قيل».
وبالتالي حقق الإرهابيون اليهود هدفهم من الإبادة الجماعية للعرب فأثرت على معنويات العرب ودفعتهم إلى السعي لإيجاد أماكن أكثر أمناً لأطفالهم ونسائهم، وعائلتي واحدة منهم بسبب فقدان السلاح والعتاد لرد المجرمين اليهود.
رفع قادة الحركة الصهيونية وإسرائيل هدف الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني إلى درجة القداسة الدينية لترحيله قسراً عن وطنه فلسطين العربية وجلب المهاجرين اليهود من مختلف أصقاع الدنيا لتهويدها ونزع الطابع العربي عنها وتحقيق المشروع الصهيوني في الوطن العربي، ومن هنا يتضح الهدف من الإرهاب الصهيوني الذي أباد قرية دير ياسين عن بكرة أبيها، ويتضح مدى وحشية وهمجية مناحيم بيغن، رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، وزعيم عصابة الأرغون الإرهابية الذي خطط للمذبحة وقادها وأشرف عليها وأعلن على الملأ افتخاره واعتزازه بها، ولذلك انتخبه الشعب الإسرائيلي رئيساً للوزراء تكريماً له على جرائمه الوحشية.وارتكبت اسرائيل في فترة رئاسته مجازر صبرا وشاتيلا أبشع المجازر التي وقعت على يد حكومة بيغن وشارون وإختيار القوات اللبنانية لتنفيذها.
ووصل مرضه الجنوني في قتل العرب أن اختار منزله بعد استقالته من رئاسة الوزارة في موقع يشرف على المستعمرة اليهودية التي أقيمت على أنقاض قرية دير ياسين العربية ليتذكَّر ما قام به من إبادة جماعية للعرب والتي كانت نقطة تحوّل في الترحيل الجماعي للشعب الفلسطيني.
وبالتالي تتحمل إسرائيل المسؤولية القانونية والمادية والأخلاقية والإنسانية عن نشوء مشكلة اللاجئين الفلسطينيين، مما يفرض على المجتمع الدولي والدول العربية العمل على إجبارها لتنفيذ قرار الأمم المتحدة رقم 194 الذي يؤكد على حق العودة وأسوة بالتعامل الدولي.
إن فظاعة المذبحة تفوق فظاعة وبشاعة أي مذبحة جماعية ارتكبت في أي بقعة من بقاع العالم في القرن الماضي، ولكنها لم تحظ بالاهتمام العربي والدولي الذي كان يجب أن تحظى به، فالتقصير العربي يظهر بجلاء لأننا ننسى ونتناسى بسرعة كبيرة، بينما يرجع التقصير الدولي إلى تعاطف الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي مع «إسرائيل» ومعاداتهم للعرب والمسلمين وخضوعهم لنفوذ اللوبي اليهودي.
إن أبسط الواجبات الوطنية والقومية والدينية والإنسانية تفرض على الملوك والرؤساء والأمراء العرب تخصيص يوم عربي في التاسع من نيسان من كل عام لكشف مخطط إسرائيل للإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني ولتذويبه وتوطينه خارج وطن آبائه وأجداده لتحقيق المقولة الصهيونية القائلة: «إن فلسطين أرض بلا شعب لشعب بلا أرض».
تذرع النازيون بعدم وجود اتفاقيات دولية تحرم ارتكاب المجازر الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، فبماذا يتذرع اليوم قادة «إسرائيل» بعد الموافقة على العديد من العهود والمواثيق الدولية التي تحرم الإبادة الجماعية؟
فطالب القادة والحكومات العربية مقاطعة الكيان الصهيوني وقادته وإلغاء اتفاقات الإذعان التي وقعت في كامب ديفيد ووادي عربة والعمل ليل نهار على تشكيل محكمة جنائية دولية لمحاكمة قادة «إسرائيل» كمجرمي حرب وتوفير الحماية الدولية والعربية للشعب الفلسطيني من الهولوكوست الإسرائيلي، فمن حق الشهداء والضحايا العرب لحروب «إسرائيل» العدوانية ومجازرها الجماعية أن تعمل الحكومات العربية على تطبيق مبادئ محكمة تونيبرغ والمحكمة الجنائية الدولية على مجرمي الحرب الإسرائيليين لأنهم أسوأ من مجرمي الحرب النازيين وأسوأ بني البشر.
إن المجزرة الوحشية الرهيبة التي وقعت في منتصف القرن العشرين، والتي تعبّر عن أفظع المجازر التي حدثت بل أفظع مجزرة حدثت بعد الحرب العالمية الثانية وتفوق المجازر الوحشية التي ارتكبتها النازية أدت إلى تحقيق خطة دالت التي وضعتها العصابات اليهودية الإرهابية لترحيل الشعب الفلسطيني من وطنه فلسطين إلى البلدان العربية المجاورة و لإحلال المهاجرين اليهود محلهم، و لإقامة مركز قوي لليهودية العالمية في فلسطين العربية والهيمنة على الثروات والاقتصادات والبلدان العربية، و لإقامة «إسرائيل العظمى الاقتصادية من خلال مشروع الشرق الأوسط».
أهداف مجزرة دير ياسين ارتبطت بالمخطط للاستيلاء على المداخل الغربية للقدس تمهيداً لاحتلال الشطر الغربي منها و لتدمير عشرات القرى العربية المحيطة بالمدينة المقدسة.
وارتكب الإرهابيون اليهود المجزرة بهدف كسر معنويات العرب ونشر جو من الخوف والذعر بينهم، وقرروا سلفاً إبادة جميع سكان القرية، وذلك بشهادة أحد قادة الأرغون الذي شارك في المجزرة، واسمه يهودا لابيدوت، حيث اعترف بذلك قائلاً: «قدمت ليحيي (شتيرن) اقتراحاً بتصفية سكان القرية بعد احتلالها لإفهام العرب ما قد يحدث حين تشترك الأرغون وشتيرن في عملية ما».
وبالفعل اعتقلوا (254) من المدنيين، معظمهم من الأطفال والنساء والشيوخ وقتلوهم عن بكرة أبيهم تنفيذاً لما قرروه سلفاً، وقاموا بنهب وسلب الحلي والمجوهرات من الضحايا، واغتصاب فتيات المدارس مرات عديدة، وتشويههن ثم قتلهن، وبلغت الوحشية اليهودية حداً تركوا فيه جثث الرضع والجثث المقطوعة الرؤوس والمحروقة في شوارع ومنازل القرية.
وأكد هذه الحقيقة الصحفي الإسرائيلي عاموس بن فيرد الذي اعتمد على شهادات محفوظة في أرشيف جابوتنسكي لبعض الجنود الذين اشتركوا في المجزرة وجنود من الهاغاناه دخلوها بعد ارتكابها بعد أيام وقال: «وجد جنود الهاغاناه الذين دخلوا القرية بعد المجزرة بعدة أيام عشرات الجثث التي لم تدفن، وبينها جثث أطفال رضع ونساء وشيوخ، وكان ثمة جثث بلا رؤوس وأخرى مبقورة البطون».
وانطلاقاً من تحقيق أعده المسؤولون البريطانيون مع الناجين فقد نهب الإرهابيون اليهود الضحايا وأخذوا منهم الذهب والفضة والنقود، وارتكبوا جرائم جنسية بحق القاصرات تقشعر لها الأبدان، وجاء في التحقيق المذكور أن «عدداً كبيراً من طالبات المدارس الصغيرات السن قد اغتصبن ثم ذبحن»، وأكد التحقيق البريطاني أنهم اقتادوا 25 رجلاً وعروضهم في شاحنة في ضاحيتي محانيه يهودا و زقرون يوسف في القدس القريبة ثم اقتادوهم إلى مقلع للحجارة وأطلقوا النار عليهم.
التضليل اليهودي
ركزت الدعاية الصهيونية بعد إبادة جميع السكان في قرية دير ياسين على القيمة العسكرية لاحتلالها كمقدمة لاحتلال الشطر الغربي من مدينة القدس، واعتبرها السفاح مناحيم بيغن نقطة تحول محورية في حرب 1948 تساقطت بعدها القرى الفلسطينية الواحدة تلو الأخرى.
وعزت أجهزة الإعلام الصهيونية سقوط يافا وحيفا وطبرية إلى مسح دير ياسين من الوجود وكذلك الترحيل الجماعي الذي حققته القوات اليهودية الإرهابية.
وحملت الدعاية الصهيونية كذباً وبهتاناً مسؤولية ترحيل الشعب الفلسطيني إلى الضحية نفسها وإلى القادة العرب واللجنة القومية.
ومن المؤلم حقاً أن العديد من الصحفيين والكتاب العرب صدقوا الكذب اليهودي فحقق المجرم والمعتدي ومجرم الحرب اليهودي نصراً سياسياً ونفسياً بالإضافة إلى النصر العسكري الذي حققه، وبالتالي نجح بالتغطية على سياسة التطهير العرقي الذي بدأ يمارسها منذ ذلك الوقت وحتى اليوم.
إن الوقائع والأحداث والروايات وشهود العيان تثبت بجلاء أن المناضلين الفلسطينيين والعرب استماتوا بعد مجزرة دير ياسين في الدفاع عن أراضيهم وممتلكاتهم وحياتهم أمام الهولوكوست اليهودي.
فصمدت عين كارم وبيت صفافا أسابيع عديدة بعد تدمير قرية دير ياسين، وبعد أن عجزت جيوش عربية نظامية عن الدفاع عنها وعن الصمود أمام اعتداءات القوات اليهودية.
وصمدت العديد من قرى القدس ومنها بتير و الولجة وبيت صفافا إلى أن استلمتها «إسرائيل» بموجب اتفاقية الهدنة الإسرائيلية ـ الأردنية في نيسان 1949.
وجرى تسليم أم الفحم وباقة الغربية والشرقية وكفر قاسم وعرعرة وجلجولية والطيبة بموجب نفس الاتفاقية «لإسرائيل».
أدى ما حدث من هولوكوست في دير ياسين إلى التأثير في الرأي العام العربي، مما شكّل ضغطاً قوياً على الحكام العرب كي يستعدوا للدفاع عن الشعب الفلسطيني وحمايته من الهولوكوست اليهودي عند نهاية الانتداب البريطاني، حيث اعتبر العديد من الحكام العرب أن مذبحة دير ياسين تجسد إعلان «إسرائيل» للحرب على الدول العربية.
فوافق الملك فاروق، ملك مصر على اشتراك الجيش المصري مع الجيوش العربية لحماية الشعب الفلسطيني وإنقاذه من الإبادة، وذلك في 12 نيسان 1948 عند انتهاء الانتداب البريطاني.
وبالتالي دقت مجزرة دير ياسين ناقوس الخطر داخل فلسطين وفي داخل البلدان العربية الأخرى للدفاع عن عروبتها وحماية شعبها من الإرهاب والإبادة على يد العصابات اليهودية الإرهابية والجيش الإسرائيلي.
الأكاذيب الصهيونية حول مذبحة دير ياسين
لا تزال الصهيونية العالمية تعمل على تشويه وقائع وحقائق مجزرة دير ياسين الجماعية حتى اليوم، فالكذب اليهودي جزء لا يتجزأ من العقيدة اليهودية والأيديولوجية الصهيونية، لذلك قال الفيلسوف الألماني الشهير أرتور شوبنهاور أن اليهود أساتذة كبار في فن الكذب.
ففي غمرة احتفالات يهود الولايات المتحدة بالذكرى الخمسينية لتأسيس الكيان الصهيوني نشرت المنظمة الصهيونية الأمريكية تقريراً عن مجزرة دير ياسين الجماعية زعمت فيه «أن المذبحة لم تقع، وقال التقرير أنها لم تكن مذبحة ولم تكن ضد العرب، بل كانت ضد اليهود وضحاياها كانوا في اكثريتهم من اليهود لا من العرب كما يذهب المؤرخون العرب».
ومضي التقرير اليهودي الأميركي بكذب ووقاحة صهيونية منقطعة النظير في التاريخ البشري يقول: «إن سبب وضعنا هذا التقرير هو أننا علمنا أن العرب الأميركيين يخططون لاحتجاجات ويدعمون فكرة تقول بأنه كان هناك مذبحة إسرائيلية ضد المدنيين العرب، والحقيقة أن يهودا أيضاً فقد فقدوا حياتهم في تلك المعركة التي دار فيها قتال ضار من بيت لبيت نظراً لحاجة اليهود إلى السيطرة على موقع دير ياسين الاستراتيجي الذي كان يطل من أعلى موقع كان العرب يطلقون منه النار على اليهود مراراً وتكراراً».
وتابع يهود الولايات المتحدة بث أكاذيبهم الوقحة وتزويرهم للأحداث والوقائع حداً أصدر فيه مورتون كلاين، رئيس المنظمة الصهيونية الأميركية نداء إلى الجماعات اليهودية الأخرى يطلب فيها أن تشارك في كشف حقيقة ما وقع وهو أن أية أرواح عربية أزهقت في تلك الفترة الواقعة في سنة 1948 إنما كانت نتيجة أن ستة جيوش عربية آلت على نفسها أن تغزو «إسرائيل» وأن تحاول تدمير الشعب اليهودي.
عندما ارتكب الإرهابيون اليهود مجزرة دير ياسين الجماعية بتاريخ 9/4/1948 لم تكن القوات العربية قد دخلت فلسطين بعد، دخلت القوات العربية فلسطين بعد 15/5/1948 وبعد أن ارتكب العصابات اليهودية الإرهابية المسلحة عشرات المجازر الجماعية قبل وبعد مجزرة دير ياسين، وذلك ودخلت تطبيقاً لقرار الأمم المتحدة رقم 181 أي قرار التقسيم ولإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الأرواح والأراضي والأملاك والمقدسات العربية والإسلامية ضمن الحدود التي رسمها قرار التقسيم.
لذلك رأيت من الواجب عليّ إزاء شهداء دير ياسين أن أعيد كتابة المذبحة معتمداً على أقوال قادة العصابتين الإرهابيتين اللتين ارتكبتا المجزرة ليرى الإنسان مدى وحشية وهمجية الصهاينة في الولايات المتحدة وتجردهم من أي حس أو شعور إنساني أو حضاري، وإنجازهم الأعمى لإسرائيل وتبرير الإبادة الجماعية والتطهير العرقي التي تمارسها تجاه الشعب الفلسطيني.
المصــادر
1 ـ جريدة السفير في 7/4/1998 .
2 ـ جريدة الكفاح العربي في 6/7/1999 .
3 ـ روجيه ديلورم، أني اتهم، منشورات دار الجرمق للطباعة والنشر، دمشق 1980، ص 52 .
4 ـ مذكرات د. حسين الخالدي، ص680 نقلاً عن وليد الخالدي، دير ياسين، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت 1999، ص 93 ـ 94 .
5 ـ د. وليد الخالدي، دير ياسين، مصدر سابق، ص94.
6 ـ هاداسا أفيغدوري، على الدرب الذي مشيناه، من مذكرات حارسة القوافل، تل أبيب ـ وزارة الدفاع 1988، ص90.
7 ـ جريدة هآرتس في 11/4/1948.
8 ـ هآرتس في 12/4/1948.
9 ـ من ملفات الإرهاب الصهيوني في فلسطين، غازي السعدي، دار الجليل للنشر بـعمان 1985، ص 59 ـ 60.
10 ـ المصدر السابق، ص 61 ـ 62.
11 ـ د. وليد الخالدي، دير ياسين، مصدر سابق، ص 166.
12 ـ د. وليد الخالدي، مصدر سابق، ص 96 ـ 97.
13 ـ جريدة الكفاح العربي في 7/7/1999.
14 ـ المصدر السابق نفسه.