أمريكا والصين: بين العولمة والعالمية
بروفيسور عبد الستار قاسم
يثور جدل بين أمريكا والصين هذه الأيام ويتتبع الأكاديميون وعموم الناس هذا الجدل عساهم يستخلصون منه بعض النتائج حول مستقبل العلاقات الدولية، ومستقبل النظام العالمي. هناك من يرى أن الصين تكسب الجولة في مواجهة اتهامات الرئيس الأمريكي لها بشأن الفايراس بخاصة أن الرئيس الأمريكي لم يقدم حتى الآن أدلة علمية واضحة لتبرير ادعاءاته ضد الصين. وهنالك من يرى أن الصين تقدمت خطوة كبيرة نحو مكانة عالمية جديدة لها. والعديد يتساءلون حول ما يمكن أن تركز عليه الصين في علاقاتها الدولية، وهل هي فعلا قادرة على أخذ دور الولايات المتحدة؟ وإذا تمكنت الصين، فهل هي ستعمل على عولمة العالم كما فعلت الولايات المتحدة؟
بداية أوضح مصطلحين هامين في مجال العلاقات الدولية وهما العولمة والعالمية. العولمة هي محاولة جعل العالم متناغما حول ثقافة وفكر معينين تحت قيادة واحدة وهي قيادة الولايات المتحدة. والقائمون عليها يؤمنون بأن النظام السياسي الديمقراطي هو أفضل النظم السياسية وهو نظام يفرض نفسه وأن العالم يسير حتما نحو الدمقرطة. والعولمة تفترض سيادة النظام الاقتصادي الغربي وهو الرأسمالية الليبرالية الحديثة التي تروج لفتح الأسواق على المستوى العالمي وإزالة العوائق من أمام حرية التجارة ونقل السلع والبضائع. وواضح هنا عملية فرض الهيمنة الغربية بخاصة هيمنة الولايات المتحدة على العالم، وتحويل العالم إلى أمريكيين بالثقافة والتربية. تشكل العولمة هجوما على الثقافات العالمية ومحاولة للتنكر لكل الثقافات لتحل محلها الثقافة الغربية.
أما العالمية فتعني تعزيز التعاون والتفاهم والاحترام بين مختلف الدول ومختلف الثقافات والتوجهات الفكرية السياسية منها والاقتصادية. إنها ليست أجيرة لثقافة معينة وإنما ترى في تعدد الثقافات ما يضفي رونقا عظيما على العالم يجب المحافظة عليه من خلال التعاون الذي تقوده منظمات دولية ليست منصهرة في نظام سياسي معين أو متبنية لثقافة معينة. العالمية ليست إلغائية، وإنما تفتح الطرق أمام كل ثقافات العالم للوصول إلى كل الدول بهدف التعريف والإفادة من التبادل الثقافي والفكري والتربوي. والعالمية لا تدعو إلى الانغلاق أو العنصرية الشوفينية، ولا تؤمن بتفوق ثقافة على أخرى. وشعارها أننا جميعا نشترك في هذا العالم، وعلينا جميعا أن نجعله أفضل.
أثبتت أمريكا على مر الزمن أن احترامها للثقافات ليس في درجة عالية، وهي تعمل دائما على ترسيخ هيمنتها على العالم. هي لا تعمل خيرا مع دول من العالم، وإنما تقدم مساعدات لكي تفرض نفسها بالمزيد على من يطلب المساعدة أو يحصل عليها. والأمثلة أمامنا كثيرة ومتعددة. أمريكا لا تقبل للدول الأخر ما تقبله لنفسها. فهي تقف ضد تطوير القدرات النووية لكل من كوريا الشمالية وإيران. حتى أنها انتقدت تطوير إيران لقمر صناعي عسكري في حين أقمارها الصناعية تجوب الفضاء. وهي تهدد في ذات الوقت كوكب الأرض من الفضاء. وهي التي انسحبت من اتفاقية المناخ، ومن معاهدة الحد من الصواريخ متوسطة المدى مع روسيا. وأمريكا هي التي تتبنى الإرهاب في العالم. هي تدعم الكيان الصهيوني في حين أن الاحتلال يمثل أعلى درجات الإرهاب. وهي التي أنشأت القاعدة وقدمت الدعم للمنظمات الإرهابية التي ما زالت تعمل في سوريا والعراق. وهي التي دمرت العراق، وساهمت بقوة بتدمير سوريا، ودعمت تدمير اليمن. وهي التي تتنكر للحقوق الفلسطينية على الرغم من أنها تدعي الدفاع عن حقوق الإنسان في كل مكان. وهي التي تفرض حصارا على العديد من الدول مثل فنزويلا وسوريا وكوريا الشمالية وروسيا وإيران، وتتعمد تجويع الشعوب من أجل تغيير الأنظمة السياسية القائمة لصالحها. وغير هذه يوجد أمثلة كثيرة ليست خافية على العالم.
بالنسبة للصين، نحن لا نعلم كيف سيكون تصرفها وستكون سياساتها إن تغلبت اقتصاديا على الولايات المتحدة وفرضت نفسها قطبا رئيسيا في العالم. نحن نتابع تحركات الصين في السنوات الأخيرة على الساحة الدولية، وما لاحظناه حتى الآن أن الصين تقدم بعض المساعدات الاقتصادية لبعض الدول بخاصة في أفريقيا، وتسعى إلى تنفيذ استثمارات في عدد من الدول. في تحركاتها، لا تبدو الصين أنها تسعى إلى الهيمنة وإنما هي تركز على التعاون وتبادل المصالح. هي لم تدخل في صراع ثقافات، ولم تعمل على إشعال الحروب، ولا وظفت أنظمة سياسية لتكون وكيلات لها، ولا اعتدت على الأمم المتحدة ولا الهيئات المنبثقة عنها. الصين تمد يدها لمختلف الدول بخاصة الدول الفقيرة في أفريقيا لتنفيذ استثمارات اقتصادية تستفيد منها الصين ماليا، ويتحقق تقدم اقتصادي لهذه الدول.
تقوم الصين بجهود حثيثة نحو اللحاق بالولايات المتحدة في مجالات التقنية الإليكترونية والاقتصاد والقوة العسكرية. طورت الصين برنامج فضاء واسع، وما زالت تعمل على تطويره، وهي تطور الآن برامج فضائية للبث والرصد والتحكم والسيطرة والاتصالات، وتعمل على تطوير نظام بنكي متطور من الممكن أن يحل ولو جزئيا محل الهيمنة المالية الأمريكية، الخ. أي أن الصين تقوم بالنشاطات اللازمة لكي تصبح دولة قطبية عالمية.
هل تهدف الصين إلى منافسة الولايات المتحدة، وتقليص هيمنتها على العالم، أم تعمل على تحرير العالم من الاستعمار الأمريكي. لا نستطيع البت في الصورة الآن، والمسألة بحاجة إلى دراسات مستفيضة. لكن ما نراه الآن من الصين يؤكد أنها لا تسعى إلى الهيمنة، ولا تبحث عن عولمة على الطريقة الصينية. إنها تتبنى نهج العالمية لغاية الآن.