حرب الصحة والاقتصاد تفاقم الديون فهل تفاقم الثورة؟
د. عادل سماره
ناقشنا سابقاً التهيئة الأمريكية لحرب محتملة ضيقة النطاق ضد إيران أو اوسع ضد الصين الشعبية استكمالا لحرب العدوان/العقوبات الاقتصادية المتعثرة ضد الصين الشعبية بسبب وباء كورونا الذي فرض تعطيل المنتجين/العمال الأمر الذي دفع إدارة ترامب/و إلى نزق على الفضائيات منادياً ب العودة للعمل.
صحيح أن الصين الشعبية تواجه التباطؤ في الإنتاج لكنها لم توقف العمل مما أبقى على النمو فيها بشكل مميز عن الغرب الرأسمالي وهذا لا يخدم أي نوع من العدوان الغربي ضدها بل يعززه. وعليه، إذا كان تضخيم الوباء مقصود به ضرب الصين، فإن الضربة كانت طائشة وربما مرتدة أصابت المعتدي و “أدوشت الصين”.
إن حرب الغرب الرأسمالي حرباً معولمة وإن لم تُعلن بفظاظة لكنها تمارَس بفظاظة هذا ما تكشف عنه الحرب الصحية/ الاقتصادية اليوم ضد بلدان المحيط متمظهرة في غول المديونية وهذا ما استدعى مجدداً وبقوة الحماية الشعبية وفك الارتباط كما ناقشنا سابقاً.
لم تتغير العلاقة في السوق الدولية بين المركز والمحيط حيث تتدفق الفوائض من المحيط إلى المركز
خاصة بعد اربعينات القرن الماضي إذ اصبح المركز مُنتجا ومُصدرا للأغذية أيضاً وأصبح المحيط مستوردا لما كان يُصدره للمركز . وساهم الوعي الصحي في تزايد سكان المحيط مما زاد الحاجة للاستيراد وخاصة بعد أن غادرت معظم بلدانه سياسات “إحلال الواردات” والتوجهات الاشتراكية وتفكك كتلة باندونغ/عدم الانحياز، أي باختصار بعد أن سيطرت رأسمالية الكمبرادور على المحيط متحالفة مع رأسمالية المركز.
وحتى حينما أخذ المركز في تصدير رأس المال العامل الإنتاجي إلى المحيط، تم ذلك خلال سيطرة الرأسمالية الكمبرادورية التي تحالفت دونيا مع المركز فتعهدت بعدم التأميم وبتسهيل ضخ أرباح الشركات الغربية إلى موطنها الأم الأمر الذي كرّس نزيف الفائض.
ليست مصادفة تواكب تصدير رأس المال العامل الإنتاجي إلى المحيط مع فورة أسعار النفط عام 1973 مما أرغم دول المحيط على الاستدانة بالدولار لدفع فواتير شراء النفط الأمر الذي تلاه عقد زمني من المديونية أي الثمانينات على هذه البلدان. هذه الصدمة النفطية أدت إلى “تكويش” أمريكا على فلوس المحيط وحتى بقية أطراف المركز أي الاتحاد الأوروبي واليابان.
لم تشهد العقود التالية على عقد المديونية تحسنا حقيقيا في اقتصادات المحيط بل شهدت الركوع التام لتغول رأس المال لا سيما بعد تفكك الكتلة الإشتراكية وذهاب المركز إلى رأسمالية النيولبرالية بما فيها الخصخصة وعدم التضبيط وصولا إلى انكماش اقتصادها الإنتاجي وتوسع سوق المضاربات أي دخول مرحلة العولمة الممولة Financialization .
من اللافت أن معظم الحديث عن أوجاع أزمة 2007-2008 كان من وعن اقتصادات المركز وخاصة أمريكا بينما كانت بلدان المحيط تحت الأوامر! فقد ركزت اجتماعات دول العشرين على وجوب مواصلة فتح أسواق بلدان المحيط لمنتجات المركز وهذا ما حصل.
فالرأسمالية عملياً تدعي حرية التجارة بينما تمارس الحماية لأسواقها، أي انفتاح الآخر وغلق أسواقها. ولذا بقي تدفق رأس المال من المحيط إلى المركز، وهي سمة أساسية في النظام الرأسمالي العالمي ولا يمكن صدها بغير فك الإرتباط، الأمر الذي لم يحصل.لذا استمر التقلص الفعلي حتى في العديد من الاقتصادات الناشئة/البازغة الكبيرة المكسيك والأرجنتين وجنوب أفريقيا…الخ .في الواقع ، كان وظل تدفق رأس المال من الجنوب إلى الشمال.
وفي فترة قصيرة تخيلنا أن مجموعة البريكس (الصين الشعبية، البرازيل، روسيا الاتحادية، جنوب افريقيا والهند) وعلى هوامشها إيران، وفنزويلا، وكوريا الشمالية وحتى كوبا سوف تشكِّل تحدياً مستمرا للمركز الرأسمالي الغربي، ولكن هذا حصل بشكل جزئي وخاصة من قبل الصين الشعبية والاتحاد الروسي.
وعليه، فإن الأزمة الاقتصادية المالية 2007-2008 أتت لتراكم مديونية جديدة على اقتصادات المحيط كما ورد من البنك الدولي: “…كان نمو الدين أسرع في ما يسمى الاقتصادات النامية… معظم الزيادة في الديون منذ عام 2010 كانت في الأسواق الناشئة والاقتصادات النامية ، التي شهدت ارتفاع ديونها بنسبة 54 نقطة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي إلى مستوى قياسي مرتفع يبلغ حوالي 170٪ من الناتج المحلي الإجمالي في 2018. كانت هذه الزيادة واسعة النطاق ، حيث أثرت على حوالي 80٪ من أسواق وتنمية الاقتصادات البازغة والنامية.
من قبيل المفارقة أن مديونية دول المحيط/الجنوب تساهم في تقوية وضع الدولار داخل الولايات المتحدة نفسها فمعظم هذا الدين مقوم بالدولار الأمريكي حيث تشتريه هذه الدول ليخرج من السوق الأمريكية نفسها
ومع ارتفاع قيمة العملة المهيمنة ، الدولار، باعتبارها “ملاذاً آمناً” ، فإن عبء السداد سيزداد على الاقتصادات التي يُهيمَن عليها أي “الجنوب”. إن مستوى ديون “العملة الصعبة” لشركات الأسواق الناشئة أعلى بكثير الآن مما كان عليه في عام 2008. وفقًا لتقرير الاستقرار المالي الصادر عن صندوق النقد الدولي في أكتوبر 2019 ، زاد متوسط الدين الخارجي للبلدان الناشئة والبلدان المتوسطة الدخل من 100 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2008 إلى 160 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2019.
صحيح أنه ليس من قبيل الدقة الحديث عن اقتصادات المحيط ككتلة واحدة، فهي ليست اقتصادا واحدا، ولكنها تلتقي في كونها تابعة وخاضعة للمديونية كما ان دورها يحقق تراكما إضافيا لاقتصادات المركز وهذا تخديم جزء منه ريعي.
ينقلنا الحديث إلى اللحظة الجارية أي الإغلاق بسبب الوباء من جهة والهلع المصطنع من جهة ثانية الأمر الذي يعني تراجع أكثر في صادرات المحيط إلى المركز وتزايد أكبر في حاجات المحيط من المركز وخاصة الغذائية وهي عملية تسارعت الآن مع الوباء إلى مستويات قياسية ومن المتوقع تزايدها.
في جانب الدول البازغة/الناشئة”… البرازيل وروسيا والمملكة العربية السعودية وإندونيسيا والإكوادور وغيرها فإنها تعاني من انهيار أسعار الطاقة والمعادن الصناعية مما أنتج انخفاضًا كبيرًا في عائدات التصدير. وهذه المرة ، على عكس عام 2008 ، لن تعود الصين بسرعة إلى مستوياتها القديمة من الاستثمار والإنتاج والتجارة (خاصة مع بقاء تعريفات الحرب التجارية مع الولايات المتحدة). طوال العام ، يمكن أن يكون نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي للصين منخفضًا بنسبة 2٪ ، مقارنةً بأكثر من 6٪ العام الماضي.
أي ان الصين لن تمارس دور الرافعة للاقتصاد الدولي كما يجب مقارنة مع 2008.
العجز والمديونية والبيع المرتعب:
تتلاقى او تتقاطع عدة عوامل خطرة في حالة بلدان المحيط، فمن جهة تزداد مديونيتها ويزداد عجزها ويزداد كساد صادراتها من المواد الأولية إلى المركز الراكد أو متباطىء النمو والاستثمار وتزداد وارداتها من المركز وبالطبع سترتفع أسعار الواردات. وكما تهبط أسعار اسهم البورصات عالميا فهذا ينطبق على الشركات في بلدان المحيط مما يسمح لمالكي المليارات بشرائها بأسعار بخسة اي يتم امتلاك الأصول في المحيط والمركز حيث يهرع الكثيرون للبيع بأسعار ضئيلة.
يمكننا ربط هذا الأمر مع سياسات المركز في شراء أراضٍ في المحيط في العقدين الأخيرين حيث تم شراء مساحات واسعة في أفريقيا لإقامة مزارع “عصرية” فيها. وبهذا يتملَّك الراسماليون الأجانب في البنية الأساسية لتلكم الدول وهذا شكل استعمار استيطاني ولكن بصكوك ملكية! تُقام هناك مزارع بتقنية عصرية على شكل مستعمرات داخلية تستخدم عمالة رخيصة وترشي السلطات بالطبع . هذه المستوطنات هي مزارع لرأس المال إلى جانب مصانعه واقتصاده الجديد في المركز نفسه وبهذا تتنوع مصادر التراكم.
في مستوى آخر، فإن حالة الحرب الصحية/الاقتصادية سواء بوقف الإنتاج وهبوط أسعار أسهم الشركات سمح لمليارديرات الفلوس الكسولة المتراكمة بشراء الشركات في المركز والمحيط معاً مما يعزز تبلور طبقة راسمالية معولمة، غريبة في الأساس، تملك الصناعة والزراعة المتقدمتين على صعيد معولم أي ديكتاتورية أقلية غطاؤها العلوي إيديولوجيا السوق التي تبرر سيطرتها. وبالطبع تُعاد اللعبة مجددا بعد أن يخف بلاء الوباء فتُرفع أسعار أسهم الشركات ويُقبل كثيرون على الشراء فتحصل هذه القلة على ريع مزدوج لم تتعب من اجله ريع الشراء الرخيص وريع البيع المهول.
من هنا، فإن محاججتنا للحماية الشعبية وفك الارتباط هي أمر حتمي، ويكون تبنيها مثابة رد ثوري بمعنى الجاهزية للنضال لفرض هذا التوجه بالثورة الطبقية.
هذا يفتح على سؤال حساس:
لقد جادلت مدرسة النظام العالمي The World System بمؤسسيها الراحلين سمير أمين، إيمانويل وولرشتاين، جيوفاني أريغي و جوندر فرانك باحتمال تفجر الثورة من محيط النظام الرأسمالي العالمي اعتمادا على أن شروط الثورة موضوعيا متوفرة هناك.
واليوم، نرى أن هذه الشروط يزداد توفرها في المحيط، ومع الحرب الصحية/الاقتصادية تتوفر في المركز كذلك. والسؤال المترتب: هل تتناسب قساوة الظروف في المركز والمحيط؟ وهل الطبقات الشعبية في الطرفين في مستوى التحدي، وهل هناك من وعي ما يجمع الطبقات الشعبية في الطرفين لتآخي ثوري؟ أم أن الطبقات الشعبية في المركز مرتشية من السلطة حتى رغم وباء كورونا ومفاعيله؟ وهل ستقوم السلطات في المركز بمخادعة الطبقات الشعبية مجدداً كي يبقى انزياح وعيها عن الثورة وتتسلى بأكذوبة دور المجتمع المدني في التغيير؟ ولكن هل الطبقات الشعبية في المحيط في مستوى المهمة الثورية؟
حتى اليوم، لا نرى الجاهزية الثورية في كليهما المركز والمحيط. إنه غياب الحزب الثوري لأجل اشتراكية حقيقية.
بقي أن نقول، بأن المحيط مهيأ للثورة ليس فقط لأن الظروف اشد قساوة بل كذلك لأن فرص وصول المعلومة والفكر متوفرة في المحيط بخلاف الماضي.
من هنا، نعتقد بأن تحليل مدرسة الاقتصاد العالمي يحافظ على راهنيته، وهذا يعيد أهمية ما طرحه سمير أمين لتجديد الأممية .