هل يستدير العالم جنوباً؟
موفق محادين
إلى جانب الكينزية (رأسمالية الدولة) والمارشالية (نسبة إلى مارشال) والنازية، وغيرها من الاحتمالات التي فجّرتها جائحة كورونا، وفضيحة الرأسمالية، وتخبّطها في مواجهة هذه الجائحة، ثمة مقاربات أخرى تستذكر ما طرحه مؤسّس الصين الحديثة، ماو تسي تونغ، وما ظهر أيضاً في تعبيرات فكريَّة وأدبيَّة أخرى.
تنطلق هذه المقاربات من فكرة الجنوب، من دون الإفراط في التعميم، فثمة ما يلفت الانتباه في القواسم المشتركة لكل الجنوب، بدءاً من الجنوب العالمي، إلى جنوب معظم القارات، مثل أميركا الجنوبية وأوروبا الجنوبية، إلى جنوب معظم الدول، سواء كانت متطوّرة أو متوسّطة التطور أو فقيرة، من جنوب الولايات المتحدة نفسها، إلى جنوب معظم البلدان الأوروبية، إلى جنوب غالبية الدول.
فالسمة الريفية مقارنة بالمناطق الصناعية أو مدن الخدمات والإدارة، هي السمة الغالبة على أيّ جنوب، من دون أن يعني ذلك غياب السمات المدينية والمناطق الصناعية، وغياب الرواسب والأنشطة الفلاحية شمالاً. ثمة حالات معاكسة تماماً، ولكن من دون أن تكسر الانطباع السائد.
بالعودة إلى ماو تسي تونغ، أحد أقطاب الاشتراكية في القرن العشرين، فإن مصير العالم لم يعد يتحدَّد وفق فكرة ماركس (المصدر الأساسي للفكر الماوي)، التي تركّز على كَسر الحلقات القوية أو المتطوّرة، الأوروبية والأميركية، في سلسلة النظام الرأسمالي العالمي، بل ذهب ماو بعكس ماركس في ما يخصّ هذه الفكرة تحديداً، مقتفياً أثر مفكّر ماركسي آخر، هو لينين، قائد ثورة أكتوبر الاشتراكية الروسية.
انطلق الاثنان، ماو ولينين، من أن الرأسمالية في عصر الإمبريالية (الرأسمال المالي) لم تعد هي الرأسمالية في عصر ماركس، وأن قانوني التطوّر والتبادل اللامتكافئ يسمحان بكَسر الرأسمالية في حلقاتها الضعيفة، مثل روسيا القيصرية والصين الإمبراطورية.
ويُشار هنا إلى أنّ ماركس نفسه، وعلى الرغم من نظرته العامة المذكورة، لم يستبعد تماماً ما ذهب إليه لينين وماو.
وقد ترتّبت على تعديلات لينين وماو تعديلات أخرى في مقاربة قانون التناقضات على المستوى السياسي، وتحديداً بالنسبة إلى التحالفات الطبقية – السياسية، ومنها اعتبار الفلاحين حليفاً أساسياً للطبقة العاملة، وكذلك قوى التحرّر جنوب العالم، وهو ما ظهر في تنظيراتٍ أخرى متزامنة مع ماو ولاحقة له، سواء في الشمال أو الجنوب، ومن ذلك كتابات المفكّر الاشتراكي الإيطالي غرامشي، الذي وجد مساحة للاختلاف حول الشمال الصناعي والجنوب الفلاحي في إيطاليا.
أما جنوباً، فجاءت مساهمة فرانز فانون، المفكّر الفرنسي من أصولٍ أفريقية، والذي انخرط في صفوف الثورة الجزائرية، ولخّص تجربته في كتابه الشهير “معذّبو الأرض”، ومثله مساهمة راؤول بريبيتش “المركز اليانكي والمحيط اللاتيني“.
ولم يكن عالم الأدب والحقول الإنسانية بعيدين من ذلك، كما ظهر في روايات الأميركي فوكنر، وخصوصاً “الصخب والعنف”، والأردني غالب هلسه، والشاعر المصري أمل دنقل، وكذلك أعمال المفكّر الفرنسي باشلار صاحب “جماليات المكان“.
وقد ربطوا جميعهم الشمال الصناعي بالعصر الذكوري البارد والمادية النفعية المبتذَلة، مقابل الجنوب الأمومي والمكان الدافئ والأرواح الحرّة، على أن أكثر جنوبي قدّم رؤية فكرية لهذه المقاربات، هو المفكّر المصري الاشتراكي، سمير أمين، تحت تأثير علاقاته القوية مع مدرسة فكّ التبعية والمجادلين حول فكرة المركز والمحيط وقانون التبادل اللامتكافئ، أمثال ولر شتاين وإريجي وغوندر فرانك.
وبحسب أمين، فإن جدل العولمة الرأسمالية بين المركز والمحيط يؤدّي إلى تبادل المواقع أيضاً، فما هو مركز قد يصبح محيطاً، وما هو محيط قد يتحوّل إلى مركز، وخصوصاً حلقاته القوية.
بهذا المعنى، فإن معركة كورونا بين المركز الأميركي المأزوم والصين الصاعدة تمثل صورة عن تحوّلٍ متسارعٍ يدفع بكين إلى صدارة العالم الاقتصادية في غضون العقدين القادمين، معزّزة أيضاً بتحالفٍ وثيقٍ مع الحوض الأوراسي بزعامه روسيا، الممثل العسكري السياسي لهذه الصدارة.
وليس بعيداً من ذلك ما تقوم به الصين منذ سنوات، سواء على صعيد ما يعرَف بحروب الجيل الخامس الإلكترونية، أو باسم طريق الحرير الجديد، وحرب الموانئ والممرّات المائية في طول العالم وعرضه، من موانئ باكستان والمحيط الهندي إلى القناة الموازية لبنما، وكذلك ما يقال عن مشروعها في بناء أسطول حربي ضخم، رغم أنها لم تكن يوماً إمبراطورية بحرية.
ومن الواضح أن الصين، وبعكس اليابان وأوروبا المارشالية (التي ازدهرت بفضل مشروع مارشال بعد الحرب الثانية، وظلّت تابعة للمركز الأميركي)، وهي تقلب معادلة المركز والمحيط، وتحوّل الاستثمارات الأميركية فيها إلى جزء من صعودها، تتذكّر جيداً حروب الأفيون البريطانية ضدّها، وحروب أميركا القذرة، العسكرية والجرثومية والإلكترونية، ضد غيرها من القوى الصاعدة.
موقع “الميادين”