قصص قصيرة
رانية مرجية
مفتاحٌ لا يَصدأ
ماتتْ، نعم، ماتتْ وتوقّفَ قلبُها عنِ النّبضِ في مشفى رامَ الله، وما صدئَ مفتاحُ بيتِها في اللّدِّ، والّذي لازمَها حتّى وهي ترقدُ في فراشِ الموتِ.
كانتْ لآخرِ نبضةٍ من نبضاتِها، ولآخرِ نَفَسٍ مِن أنفاسِها، تحلمُ بالعودةِ إلى بيتِها الّذي طُردَتْ منهُ عَنوةً.
لو رُوحان وقَلبانِ وجَسدان!
نظرتْ إلى وجهِ أمّها حينَ خرجتْ مِن التّحقيقِ الأمنيِّ الجافِّ، فأصابَها الذّعرُ والقلقُ.. كانتْ عيونُها قانيةً حمراءَ، ووجهُها كانَ يَميلُ للاصفرارِ.. حاولتْ أن تبتسمَ ففشلتْ.. استجمعَتْ قواها بعدَ أنْ وجّهتْ ناظريها إلى السّماءِ، وقالت لها بصوتٍ واثقٍ: أنا بِخيرٍ أمّي، فلا تَخافي.
شعرتْ بِخفقاتِ قلبِها وهي تضمُّها وتعاتبُها بصوتِها الرّقيقِ الحزينِ، وقالتْ: اقسمي لي أنّكِ لن تشتركي بعدَ اليوم بأيِّ نشاطٍ سياسيٍّ.. أنتِ “بنت”.. لو كنتِ شابًّا لاختلفَ الأمر.
قاطعَتْها كعادتها: لكنّي بِمليونِ شابٍّ.. أليستْ هذهِ شهادةُ الجميعِ بي، وأنا مؤمنةٌ باللهِ والوطنِ والقدَرِ.
وذكّرتْها أنّهُ عليها السّفر مباشرةً إلى ناصرةِ الجليلِ، فقاطعتْها: لكنّكِ بِحاجةٍ للراحةِ، فقد مكثتِ عشرينَ ساعةً في التّحقيقِ دونَ أكلٍ، والله أعلمُ بِما واجهتِهِ مِن تَهديدٍ ووعيدٍ.
ضَحكتْ وقالت: لقد تعوّدتُ عليهم.. وقبّلتها مِن جبينِها وودّعتها، واستقلّت سيارةَ أجرةٍ، وتَمّنتْ بينها وبين نفسها، لو أنَّ اللهَ يهبُها روحيْنِ وجسدَيْنِ وقلبيْنِ لتفديَ أمّها والوطنَ.
على اللّوحِ باللغةِ العِبريّة
كانتْ أحداثُ تشرين أول/أكتوبر الأسود سنة (2000) في أوجِها، ومع هذا رأَتْ هيَ أنْ تُواصِلَ تعليمَها في جامعةِ “بار إيلان”، ورغمَ أنّها كانتِ الطّالبةُ العربيّةُ الوحيدةُ في فصْلِها، إلاّ أنّها تفوّقتْ عليهم دومًا، ما جعلَ أحدَ المحاضرينَ يُعجبُ بِها.
وذاتَ يومٍ حدثَ نقاشٌ وجدالٌ داخلَ فصْلِها، وعَلَتْ أصواتٌ مطالبةٌ بطردِ الطّلاّبِ العربِ مِن الجامعةِ، ووقفَ أحدُ زملائِها المعروفُ بعملِهِ بصفوفِ المخابراتِ الإسرائيليّةِ وقال:
العربيُّ يظلُّ كلبًا، يرشقُنا بالحجارةِ في وادي عارة، والنّاصرة، وأمّ الفحم.. يقيمُ المظاهراتِ التّضامنيّةَ مع الفلسطينيّينَ.. سئمنا العرب.. ألا يكفي أنّنا تركناهم يتعلّمونَ ويعملونَ؟
قامَ المحاضرُ بلَجْمِهِ: صه، إنّها ليستْ عربيّةً، بل مسيحيّةً.. هنالكَ فرقٌ كبيرٌ، اعتذروا منها.
عندَها وقفتْ وقالت: أنا عربيّةٌ، بل فلسطينيّةٌ، وهذه أرضي ووطني، وأنتم الإرهابيّون. “بار إيلان” كانتْ قريةً عربيّةً قبلَ أن تَحتلّها “حكومةُ إسرائيل”، ومعظمُ أهلِ أمّي اليومَ في رام الله والأردنّ وسوريا؛ طُردوا مِن اللّدّ لتقومَ دولتُكم على أنقاضِ الدّم. حينها قامَ المحاضرُ بطرْدِها مِن الصّفِّ، وطالبَ بِمثولِها أمامَ لجنةِ الطّاعةِ لتعتذرَ لهُ على وقاحتِها أمامَ الفصلِ، فرفضتْ. تَمَّ منعُها مِن دخولِ الجامعةِ لمدّةِ شهرٍ كاملٍ، لكنّها عادتْ بعدَ ذلكَ مرفوعةَ الهامةِ متماسكةً، وكتبتْ لهم على اللّوحِ باللّغةِ العبريّةِ: “السّاكتُ عن الحقِّ شيطانٌ أخرسُ”.