عروبة مشخصنة أم عروبة جذرية
بين النقد الذاتي و رفضه مسافة انتماء
من تجزئة الجغرافيا لتجزئة الموقف
د.عادل سمارة
لعل أخطر ما ترتب على هزيمة 1967 وتراجع المد القومي العربي ترسُّخ القطرية في الوطن العربي كي تُطال الثقافة وخاصة جانبها السياسي. لقد تفككت الأحزاب عربية الامتداد إلى تنظيمات على مقاس كل قطر على حده. وهنا غاب الحزب عربي الامتداد بغض النظر عن خلفيته الفكرية/السياسية لصالح ماكينة الإعلام التي تفتقر لموقف محدد بل هي مصممة لتعميق التجهيل. وهكذا قادت تجزئة الجغرافيا إلى تجزئة المواقف وقطريتها.
بسيطرة وسطوة وإنفاق مؤسسات الإعلام حل المحلل الشكلاني ومدعي المعرفة والمستند لتقارير مخابرات محل القائد الحزبي المتصف بالوعي النظري والممارسة النضالية وحل الصحفي بتقاريره الركيكة محل المفكر، وصار في النهاية من لديه المال لديه الإعلام وبالتالي هو الذي يصمم معرفتنا بالوطن العربي بين قطر وقطر.
أمام التحوصل القُطْري وغياب حزب شيوعي عروبي أو قومي عروبي بمعنى التواجد الجغرافي وليس الخطاب المسطَّح، صار طبيعي أن يبقى الممتد جغرافيا هي قوى الدين السياسي وعلاقات أنظمة الحكم (اللقاءات الدورية لوزارات الداخلية)، وطبعاً أجهزة المخابرات وشبكات المخبرين المعولمين ومثقفي الطابور السادس الثقافي والمابعد حداثيين بمشروعهم المضاد للسرديات الكبرى القومية والشيوعية بمعنى أنهم عابروا الجغرافيا لهتك الجغرافيا والثقافة وكل مشترك عروبي. وترتب على ذلك فقدان الشارع العربي لصالح قوى الدين السياسي، وفقدان الوعي النقدي لصالح فردانيات المابعديين <<مفكرو ما بعد الحداثة َما بعد الاستعمار>> وتأوهاتهم حزنا على “المواطنة والديمقراطية” بطبعتهما الغرب رأسمالية التي كشف زيفها وباء كورونا حيث بان كل شيء طبقي أي لا قومي ولا انساني.
هذا إلى أن كان “الربيع العربي” المنقسم جغرافيا ايضا:
• أي الاحتجاج الشعبي ضد أنظمة الجمهوريات التي لم تسمح بالديمقراطية ولم تمارس التنمية بالحماية الشعبية ولا فك الارتباط هذا دون أن نذكر توهانها عن محاولات اشتراكية تم سحقها لصالح الانفتاح والسوق الاجتماعي وغيرها. ودون أن نُغفل خضوع بعضها للتطبيع والاعتراف بالكيان الصهيوني وخضوع بعضها الآخر للتهديد الأمريكي لتتخلى عن سلاحها في سلوك درب التادُّب لصالح الثورة المضادة التي لا يشبع شبقها للنهب.
• يقابل ذلك موات في أنظمة الريع والدين السياسي والممالك، أو حراك ضئيل وربما ما لم نسمع به.
كان ذلك لنكتشف أن هذا الحراك التهمته الثورة المضادة سريعا لأنها موجودة تحت جلد هذا الوطن. وفي مشروعها هذا كثيرا ما استثمرت غياب الحريات ولقمة العيش وحتى تراب الوطن.
ولكن لغياب الحزب/الأحزاب العروبية وفقدانها الشارع لقصورها عن قيادته فقد أذهلها المشهد لتكتشف أنها ورائه كالمتفرج و لتعدو وراء الشارع الذي قادته قوى الدين السياسي في علاقتها الحميمة والمشبوهة بالرأسمالية الغربية في حقبة العولمة أي بثلاثي الثورة المضادة (الغرب –أمريكا وأوروبا واليابان- والصهيونية، وأنظمة الكمبرادور عالميا وعربيا بتنوعات طبعاتها).
حراك او ثورة اختطفتها الثورة المضادة الأمر الذي وضع حتى الواعين والملتزمين في لحظة من الضياع وعدم اليقين
لذا، ولأن القوى العروبية لم تكن لا محرك الشارع ولا قائدته فقد وقعت في مواقف فرضها الإعلام وليس الوعي. لقد اكتشفنا مع هذا “الربيع” أننا لا نعرف عن الوطن العربي غير ما ضخه إعلام الثورة المضادة.
لم نكن نعرف أن النظام الليبي كان الهدف الأول للإمبريالية، رغم تخليه عن محاولة النووي، لأنه كان يعمل لإقامة صندوق نقد و عملة ذهبية إفريقية، وبأن احتلال العراق كان لأنه أوقف مبادلة النفط بالدولار، وبأن الطب والتعليم في سوريا مجانا، وبأنها لم تكن مدينة.
كنا نقرأ نقدا هائلا للجمهوريات وكأن الوطن العربي ليست به ممالكا وإمارات تابعة و ريعية و مرتبطة وحتى هي مشروع تقويض ضد العروبة. كانت محاولة قصم ظهر سوريا هي الفيصل الذي تبعه فرز المواقف ولكن ظلَّله الإعماء الإعلامي، فوقع بعضنا في إشكالية التحديد. ألا نعترف بأن الطابور السادس الثقافي قد تفوق علينا؟
ولكن لا شك أن للناصريين في سوريا دورهم في تضليل ناصريين عربا وخاصة في مصر. بل إن انفلاش الناصريين وتنوعهم طبقاً للأقطار قد اضاع بوصلة كثيرين منهم وخاصة في اليمن الجنوبي وسوريا.
هذا ما أدى بالسيد حمدين صباحي لاتخاذ موقف نقدي ضد السلطة في سوريا في السنوات الأولى وضعته في موقع المضادين لسوريا.
في ضبابية المشهد كان معظم الجماهير في فلسطين في البداية ضد سوريا سواء في المحتل 1948 أو 1967 إلى أن تمكننا من صد الطابور السادس الثقافي كخادم لأنظمة وقوى الدين السياسي و الكمبرادور.
تابعت إلى حد ما الآراء تجاه تعديل حمدين صباحي لموقفه كنقد ذاتي أو مراجعة، وهذا موقف جريىء، لكن مثلاً، لم نشاهد نقداً لدُعاة الصهينة في المحتل 1948 القائمة العربية المشتركة وخاصة حزب راكاح الذي شارك في الاعتراف بالكيان حتى قبيل 1948! وجرَّ معه بقية القائمة. نقول الصهينة لأن الأسرلة جنسية، والتهويد مرفوض وكل من يعترف بالكيان هو صهيوني بغض النظر عن كونه عربي، فرنسي، تركي…الخ بينما الصهيونية عقيدة/إيديولوجيا .
هل يُغفر لراكاح وهذه القائمة دورهم التطبيعي ضد فلسطين فقط لأنهم تحولوا بشكل انتهازي لصالح سوريا بعدما وقفوا في البداية ضدها؟ ليركبوا مركب سوريا؟ بينما يُنقد حمدين صباحي رغم تصحيح موقفه! قلما مورس النقد الذاتي في ثقافتنا.
لكل شخص حق نقد غيره، ولكن النقد الاختياري فيه تضليل وحتى انتهازية. لقد شاهدنا جميعا كيف انحازت قناة الميادين، التي تزعم العروبة والمقاومة وفلسطين، لصالح القائمة المشتركة في انتخابات الكنيست. مع أن المفروض رفض المشاركة في الكنيست وليس مجرد الانحياز لموقف الرفض. فلماذا يجري السباق على الظهور على هذه الشاشة؟ كما كان على الجزيرة قبل أن تغرق؟
سأنقل المقارنة لصعيد آخر، تعرض حمدين صباحي لنقد وهجوم من كثيرين/ات بينما لم يتم الأمر نفسه ضد عزمي بشارة الذي زعم أنه ناصري. لم يتم نقده سابقا كعضو كنيست فقط لأنه كان يزور سوريا وحزب الله! ولم يتم نقده حيث خرج طوعا وقصدا من فلسطين أي غادر موقع الصدام المباشر مع الكيان، هذا إذا كان صدامياً، متجهاً إلى مدرسة الدين السياسي الإخواني وقاعدة القيادة الأمريكية للخليج ومع ذلك حتى حينه لم ينقده سوى قلة لا يُسمع صوتها. وحتى حينما اصطف بل ترأس الصف ضد سوريا وعلانية، لم يتصدى له معظم من انهالوا بمختلف الأسلحة ضد حمدين صباحي!
كان من قبيل الترجيديا أن تقرأ أقوالا عن بشارة من قوميين وشيوعيين وفصائلاً تُلطِّف من دوره الخطير أو تتجنب مجرد الكتابة نقدا له، وكأنما له على هؤلاء يداً سرية خفية! ولا يدٍ خفية سوى اليد الخفية لآدم سميث بمعنى البحث عن التراكم، إنه المال من تحت الطاولة. حينها يكون الخيار: إن تحدثت، أكشف أنا! هكذا جرى خصي بعضهم فلا تغرنَّك تفلتاتهم في مديح حزب الله وسوريا.
هناك كثير من المثقفين والأكاديميين والحزبيين الذي لا يزال في فمهم ماء تجاه عزمي بشارة لكنهم ، و للمفارقة والنفاق، بالمقابل يرفعون الصوت دعماً لسوريا والمقاومة!
لم يعتذر عزمي بشارة بل واصل دوره في خدمة الثورة المضادة وتوسع حتى ليصطف إلى جانب الرأسمالية الإمبريالية ضد الصين في أزمة وباء كورونا محذرا من نسيان “الاستبداد”الصيني مكرسا الولاء للغرب النيولبرالي. ولكن لغرض في نفس هارون يتم تجاهل دور بشارة وتسلط السهام ضد حمدين صباحي.
نخلص إلى القول بأن المرحلة وحق الناس تشترط وجود عروبة بالانتماء والوعي النقدي وليس عروبة بالتقسيط.