عام ١٩١٨ أصبح توماس راسل حكمدار القاهرة، فى جهاز الشرطة الذى تحكم فيه الإنجليز، أى رئيس الجهاز، وكان ذلك الإنجليزى المرموق يهبط من بيته وسط البلد أيام الإجازات قاصدًا نادى الجزيرة الرياضى، لكن على جمل يخترق به شوارع القاهرة بين دهشة المارة.
وكان الجمل المسمى «أبورصاص» يرجع بـ«توماس راسل» إلى البيت دون أى توجيه، يعبر به أمام فندق «سوفيتيل» وينحرف إلى شارع قصر النيل ومنه إلى مبنى البنك الأهلى ثم يستدير يمينًا ويتوقف أمام بيت راسل فيهبط الحكمدار الإنجليزى ينفض التراب عن ردائه ويصعد إلى بيته.
قضى راسل فى مصر ٤٤ عامًا متصلة فى جهاز الشرطة، وفى عام ١٩٤٩ نشر فى لندن كتابه «فى الخدمة المصرية» الذى ترجمه الأديب الروائى مصطفى عبيد بعنوان «مذكرات توماس راسل حكمدار القاهرة»، فأضاف عبيد بذلك عملًا جديدًا إلى الكتب القليلة التى تناولت تاريخ مصر الاجتماعى.
وعندما تنتهى من قراءة الكتاب ستكتشف أن ذلك الضابط الإنجليزى امتاز بلطشة فن بالوراثة إذ كان عمه أديبًا معروفًا، كما أنه كان يتمتع بروح صياعة أصيلة نهمة لكل المتع بدءًا من صيد الطيور إلى صيد النساء، واستطاع أن يرصد جوانب عديدة من حياة المجتمع المصرى بعد أن جاب بحكم عمله كل مديريات مصر، وشواطئها، وصحاريها، وتعرف إلى أزقة الإسكندرية والقاهرة بدءًا من «وش البركة» فى الأزبكية إلى قصور الأميرات الحسناوات، وخالط قطاع الطرق والحكام، وصادق الأمير كمال الدين حسين، كما صادق «الحاج أحمد» صياد الأفاعى، و«حامد» مقتفى الآثار فى الصحارى.
ولا يفوت راسل حين يصف السنوات التى عمل فيها بالإسكندرية أن يشير إلى منطقة «اللبان» وبيوت الدعارة فيها ونسائها اللواتى يقول إنهن «حوريات اللبان»، وأن أجرة المرأة هناك كانت تصل لنحو دولار كامل! وكان على حد قوله: «يوصى القادمين من إنجلترا بزيارة اللبان».
فى تلك السنوات البعيدة كان بمصر ضباط إنجليز بلا عدد، لكن يندر أن تصادف بينهم ضابطًا نهمًا إلى متع الحياة بشتى أشكالها مثل توماس راسل الذى يشير فى مذكراته إلى حى «الهماميل» فى الإسكندرية، قائلًا بزهو: «إن معظم سكانه من العاهرات الأوروبيات وقواديهن اليونانيين».
أما الجمل الذى كان راسل يمتطيه فى القاهرة، فإنه كان يستخدمه أيضًا فى مطاردة العصابات مثل عصابة «عبدالعاطى» التى روعت الجنوب، وعصابة المطراوى فى البحيرة وغيرهما، مثلما سبق أن قاد عمليات الهجوم على أوكار مهربى الحشيش من ميناء الإسكندرية إلى المدينة.
يقول توماس راسل: «مررت بكل مديرية فى مصر بجولاتى كمفتش.. وعملت فى جميع نقاط الشرطة من أسوان إلى الإسكندرية». وبفضل روح الصياعة المتمكنة منه، وقدرته على الملاحظة والوصف، سجل راسل شهادة فريدة عن التقاليد التى كانت سائدة فى مصر، وأنواع الحيوانات والطيور والجرائم والغجر والنزاعات القبلية وحتى عن الرفاعية صائدى الثعابين الذين اجتذبوه بشخصياتهم ولا سيما «الحاج أحمد»، ويقول إنه كان له صديق إنجليزى فى مصر نشر عام ١٩١٩ كتابًا بعنوان «الأفاعى المصرية وحواتها»! وتضمن الكتاب صورة الحاج أحمد ممسكًا أفعى كوبرا طولها خمسة أقدام فى أحد حقول الجيزة! ويحكى راسل من صميم عمله فى الشرطة أن مصر أخذت بنظام الكلاب البوليسية عام ١٩٣٦، واشتهر حينذاك كلب غير عادى اسمه «هول»، كان قادرًا على التعامل مع البلاغات الكاذبة بنفس جدية التعامل مع البلاغات الحقيقية، كما حدث حينما اختلق أحدهم واقعة وقدم أدلة مزيفة، لكن الكلب «هول» لم يمسك بأحد من المشتبه بهم إلا بالذى اختلق الواقعة! ففقد الرجل وعيه من الخوف واعترف عندما أفاق بأنه اختلق القصة التى انطلت على الشرطة ولم تنطل على «هول».
وأصبح للكلب هول جمهور كبير من المئات يتجمعون لمشاهدته عند اكتشافه المجرمين!.
يرصد الحكمدار أيضًا بؤس الفلاحين فيقول: «إن أحوال الفلاحين على مستوى البلد كانت بائسة، ويمكننا أن نتخيل كيف لأسرة كاملة أن تعيش على دخل يومى لا يتجاوز بضعة قروش»، ويحدد بقصد أو دون قصد طبيعة الحكومة التابعة فى ظل الاحتلال حين يقول: «إن ما يقوله القنصل العام البريطانى تنفذه الحكومة المصرية»! وقد عاش راسل مقدمات ثورة ١٩١٩، ثم سنوات الثورة، ويصف من موقعه كمسئول عن الأمن يوم ١٧ مارس ١٩١٩، بعد قرار نفى سعد زغلول بأنه كان: «واحدًا من أسوأ أيام حياتى فى القاهرة»، لأن الشرطة لم تستطع محاصرة المظاهرات الشعبية فى مصر.
وليس من المستغرب أن يشيد توماس راسل بالاحتلال الإنجليزى متحدثًا عما أسماه: «حجم التقدم الذى أحدثه الاحتلال البريطانى لمصر بحلول سنة ١٩٠٤»، ذلك أنه فى نهاية الأمر موظف فى الإمبراطورية، إلا أن شهادته تكتسب قيمتها الكبرى من أنها ثمرة ملاحظات دقيقة لشخص عرف مصر من القاع إلى القمة، وكان لديه نهم للمعرفة أشعلته روح صياعة أصيلة تمكنت من ذلك الحكمدار الإنجليزى.. كتاب ممتع وإضافة جميلة للمكتبة العربية.