من يرث أمريكا؟
جميل مطر*
سؤال افتراضى مثل أمور وموضوعات كثيرة نناقشها هذه الأيام. بطبيعة الحال لا نتوقع أن تسقط أمريكا أو تتوقف تماما عن أداء دورها القيادى خلال شهور أو سنين قليلة، لكننا توقعنا أن تثار فى أيامنا الراهنة قضايا عديدة تتصل بصعود الصين واقترابها المتزايد من مواقع قيادة فى النظام الدولى. وبالفعل القضايا مثارة والحديث عن السباق إلى القمة يشغل العديد من صفحات الصحف ودراسات مراكز البحث فى جميع أرجاء العالم، ربما باستثناء الصين صاحبة الشأن والمصلحة. هذا الاستثناء، فى حد ذاته، كاف كمحور رئيس من محاور النقاش الدائرة حول سؤالنا الافتراضى، من يرث أمريكا؟ أملا فى الاهتداء إلى إجابة ولتكن افتراضية هى الأخرى.
***
أمريكا، أقصد تحديدا الولايات المتحدة الأمريكية، حلت محل بريطانيا العظمى وريثا فعليا ثم شرعيا منذ فرضت على الساحة الدولية سلاما أمريكيا. استمر هذا «السلم الأمريكى» فاعلا بشكل أو بآخر وبدرجة أو أخرى من النجاح حتى عهد قريب عندما اتضح أن دولة أخرى، وهى الصين، استطاعت فى سنوات قليلة أن تحقق درجات فى النمو الاقتصادى والقدرات العسكرية والنفوذ الدولى، وهى السنوات ذاتها التى شهدت بدايات انحسار أمريكى مطلق فى قطاعات، مثل البنية التحتية، ونسبى فى قطاعات أخرى. تدل شواهد عديدة على أن المملكة المتحدة عاجزة بالتأكيد وحتى إشعار آخر عن لعب دور فاعل، ولو ثانوى، فى النظام الدولى ناهيك عن استعادة إرث المسئولية المطلقة عن دور القيادة والهيمنة على السلم العالمى.
شواهد أخرى ظهرت على سطح معسكر الغرب خلال السنوات العشر الأخيرة جعلتنا نستبعد أن نرى فى يوم قريب، نحن وبقية بنات وأبناء جيلى وربما بنات وأبناء الجيل التالى لنا، دولة غربية أخرى تسعى لتسلم هذا الإرث أو حتى تحلم بيوم تحل فيه محل بريطانيا العظمى وخليفتها أمريكا قائدا للغرب كله ومهيمنا على النظام الدولى أو على أغلب تفاعلاته الهامة. يتصدر أيضا قائمة هذه الشواهد مزاج أمريكى غير واثق من صلابة حلف الأطلسى ووحدته. هذا المزاج ينبئ كذلك عن عدم استعداد الأعضاء الأوروبيين فى الحلف ترجمة التزاماتهم المعنوية لمساهمات مادية وعسكرية تخفف من العبء الواقع على إمكانات أمريكية متوالية الانحسار. تصدرت القائمة فى الوقت نفسه موجة خلافات أوروبية الطابع والتاريخ، خلافات مصحوبة دائما بذكريات مؤلمة.
بمعنى آخر، إذا استبعدنا كندا وريثا محتملا لأمريكا، وأسباب الاستبعاد معروفة، وإذا استبعدنا بريطانيا ما بعد البريكسيت أو حتى قبله، وريثا آخر، واستبعدنا فرنسا أو قيادة ثنائية من ألمانيا وفرنسا جربت نفسها بدرجات متفاوتة من الفشل، وريثا ثالثا، إذا استبعدنا كل هذه البدائل سوف نجد أوروبا أو الغرب بأسره مفتوحا أمام احتمالين كليهما مصدره دولة روسيا الاتحادية. احتمال قصير الأمد تعرض فيه روسيا مع ألمانيا على «بقية» الأوروبيين قيادة ثنائية تضمن حالة سلم تشارك فيها بالدعم فرنسا أو لا تشارك. واحتمال طويل الأمد حتى يتحقق أولا القبول بروسيا الاتحادية دولة غربية أو بالأصح أوراسية ويتحقق ثانيا حلم روسيا الأوراسى، ويتحقق ثالثا حلم قديم لجنرالات أوروبا، حلم الوصول بدفاعات أوروبا إلى عمق آسيا، أى إلى حدود العملاق الصينى.
***
يبقى لنا من الاحتمالات الاحتمال الأصعب حتى فى ظل الأوضاع الافتراضية التى يجرى التحليل فى سياقها، وأقصد أن يسفر العجز الغربى عن صنع وريث مناسب لأمريكا، أو عن التوصل إلى صيغة قطبية ثنائية تشترك فيها الصين مع أمريكا يجرى بمقتضاها تسيير نظام دولى جديد، حينذاك، أى فى ظل هذا العجز الغربى ونتيجة له، سوف تجد الصين نفسها مجبرة على تسلم الإرث وتولى مسئولية قيادة نظام دولى منفردة وفرض «سلم صينى» على العالم. واقع الأمر يزيد من صعوبة تحقيق أى من هذه الاحتمالات الافتراضية إلا أنه لا يجعلها مستحيلة.
نشأت فى القرن الماضى قطبية ثنائية بين روسيا والولايات المتحدة فى ظل تفوق نسبى لأمريكا على الاتحاد السوفييتى. كان لكل من القطبين رسالته الأيديولوجية المعلنة فى وثائق وشهادات ولكن أيضا فى ممارسات وسلوكيات. الرسالتان متناقضتان فى العديد من منطلقاتهما وتطبيقاتهما الأمر الذى أسبغ على نظام القطبين والصراع والحرب الباردة الدائرة بينهما مشروعية من نوع خاص. وبالتالى كان منطقيا أن يكون انضمام الدول لقطب دون الآخر ما يبرره فضلا عن أهمية التمسك بالالتزام والولاء كشرطين ضروريين للاستمرار فى ممارسة الخلاف بين أعضاء الحلفين. الواقع كما نراه ونلمسه عن قرب يستبعد أن تكشف الصين فى الأجل المنظور عن رسالتها إلى البشرية، رسالة مختلفة جذريا عن رسالة أى دولة غربية تتقدم ل تسلم الإرث منفردة أو بالشراكة مع الصين أو فى مواجهتها كخصم أو عدو. كانت رسالة بريطانيا العظمى فى القرن التاسع عشر إلى إفريقيا والبشر عامة صريحة ومحددة، رسالة من الرجل الأبيض تدعو الشعوب الأخرى، غير البيضاء، للانضمام إلى مسيرة التمدن والتحضر. وفى القرن العشرين دعت أمريكا العالم إلى الالتزام بمنظومة قيم تمجد حقوق الفرد وحرياته وتقدم الحل الرأسمالى طريقا أمثل للرخاء، بينما دعا الاتحاد السوفييتى إلى الاشتراكية خيارا أمثل وأسرع وأكفأ.
أسأل وجاءنى ما يشبه الجواب. ما مضمون الرسالة التى تنوى القيادة الصينية طرحها على البشرية بديلا أخلاقيا وسلوكيا لما يطرحه منافس غربى على إرث الولايات المتحدة صاحبة قرن السلم الأمريكى وشريكه الاتحاد السوفييتى فى قيادة النظام الدولى خلال عقود أربعة. أتصور أن الصين لم تضع بعد صيغة رسالة إلى الشعوب تدعم بها جهودها لاستكمال مشوارها إلى القمة. ما تزال القيادة الصينية متمسكة بصيغة طرحتها على قادة عدم الانحياز من نحو 70 عاما ومضمونها التزام عدم التدخل فى الشئون الداخلية للدول. أظن أنه فى حالة الإصرار عليه، وحده رسالة من الصين وعينها على القمة لن يكون كافيا حيث أنه فى أصله يتوجه إلى حكومات ولا يتوجه إلى شعوب. تستطيع أيضا أن ترفق بهذه الصيغة المبتسرة ما يقدم للنموذج الصينى فى التنمية مع التركيز على كفاءة الاشتراكية التى سمحت للصين بالإنهاء على الفيروس قبل أى دولة غربية.
***
أخشى أن يزداد فى قيادة الحزب الشيوعى الصينى التأييد لفكرة صياغة «رسالة آسيوية» صادرة إلى العالم من الدولة التى أثبتت نجاحا مبرزا فى المواجهة مع فيروس الكورونا، وهى الصين. الخوف كل الخوف أن ينجر قادة العالم إلى ساحة حرب باردة جديدة طرفاها «الجنس الأصفر» الصاعد منذ عقد التسعينيات من القرن الماضى فى جميع المجالات باستثناء مجال الحقوق والحريات، والطرف الثانى «الجنس الأبيض» المنحسر نفوذا والمتهم بتجاوزات أخلاقية وعنصرية ضد الأجناس الأخرى فى تناقض صارخ مع رسالته إلى العالم.
هناك دائما الكثير مما يقال ومما يجب أن يقال فى مقال يطرح ويناقش أسئلة افتراضية وإجابات أيضا افتراضية، فما البال وقد تداخلت مختلف العوالم واختلط علينا واقعنا فى كثير من مواقعه بعوالمنا الافتراضية؟!
*كاتب ومفكر مصري كبير مهتم بقضايا الإصلاح والتحول الديمقراطي، ويعد من أبرز الكتاب في المنطقة العربية