ليبيا الآن.. الفرقاء والاصطفافات والمصلحة الليبيّة والعربيّة
سعود قبيلات
يتصارع في ليبيا (وعليها) الآن فريقان كلٌّ منهما تابع للغرب (للولايات المتّحدة على وجه الخصوص)، وعلى صلة وثيقة بحلف الأطلسيّ (بعضهم عضوٌ فيه)؛ وكلّهم تقريباً إمّا أنَّه مرتبط باتِّفاقاتٍ استسلاميّة مع «إسرائيل»، أو أنَّه يقيم معها أوثق العلاقات السياسيّة والاقتصاديّة والعسكريّة، أو أنَّه قد شرع بالتَّطبيع معها.
ومثل هذا الصّراع ليس فريداً مِنْ نوعه بين أتباع الغرب وحلف الأطلسيّ؛ فتركيا واليونان، على سبيل المثال، كلتاهما عضو في حلف الأطلسيّ، ومع ذلك فهما في الغالب متعاديتان؛ وكذلك، قطر والسّعوديّة والإمارات.. رغم أنَّ هذه الدّول الثَّلاث لا خلاف بينها على التَّبعيّة للغرب أو العلاقات مع “إسرائيل”. ما دامت الخلافات والصّراعات لا تمسّ مصالح الغرب ولا تضرّ بنفوذه، فمتروك للأتباع أنْ يفعلوا مع بعضهم البعض وببعضهم البعض ما يحلو لهم.
على أيّة حال، بينما يكاد المشير خليفة حفتر وجماعته لا يحظون بأيّ تأييد بين الناس في بلادنا، فإنَّنا نجد كثيرين يؤيِّدون «حكومة الوفاق»!
بأيّ ذريعة؟! وبأيّ منطق؟! وما هي البوصلة وما هو المعيار لاتِّخاذ مثل هذا الموقف؟
(أنا طبعاً أستثني «الإخوان المسلمين» مِنْ هذا السؤال)
يحاول البعض الإيحاء بأنَّه ينطلق في ذلك مِنْ منطلق ديمقراطيّ!
حسناً! «حكومة الوفاق» ليست منتخبة (حتَّى لو بطريقة شكليّة)، بل هي معيَّنة تعييناً، كما أنَّ تعيينها لم يكن مِنْ جهة محلِّيَّة، بل مِنْ قوى دوليّة، وهي – إضافة إلى هذا – لم تُعرَض على البرلمان الليبيّ المُنتَخب ليمنحها ثقته أو يحجبها عنها. ومِنْ هذا المنطلق، تصبح حجّة حفتر من الناحية «الديمقراطيّة» الشكليّة أقوى مِنْ حجّة «حكومة الوفاق» وأنصارها الذين طالما اختزلوا الديمقراطيّة بصندوق الاقتراع؛ لأنَّه – بخلافها – مفوَّض من البرلمان المنتخب ومدعوم منه.
يوحي البعض الآخر بأنَّ منطلقه هو رفض التدخّل الخارجيّ.. خصوصاً تدخّل الإمارات والسعوديّة ومصر.
حسناً، نذكِّر بأنَّ الإمارات والسعوديّة وقطر وسواها سبق أنْ تدخَّلتْ في سوريا ولم يكن هذا مرفوضاً مِنْ معارضي تدخُّلها الآن في ليبيا. أمّا مصر، فلها حدود مع ليبيا، وسبق للإرهابيين الذين تحتضنهم الآن «حكومة الوفاق» أنْ ارتكبوا مجزرةً وحشيَّة كبيرةً بحقّ العمّال المصريين على الأرض الليبيّة، كما أنَّ الجماعات الإرهابيّة، تلك، كثيراً ما اخترقت الحدود المصريّة وقامت بأعمال إرهابيّة في الداخل المصريّ. وهذا بغضّ النظر عن موافقتنا على سياسات السلطات المصريّة أو عدم موافقتنا. إضافة إلى ذلك، فإنَّ استدعاء الأتراك إلى ليبيا يهدِّد أمن دول المنطقة.. خصوصاً مع السابقة الاستعماريّة التركيّة الفظيعة التي لا يزال معظم البلاد العربيّة يعاني مِنْ آثارها.
وإذا كانت هذه هي مبرِّرات مصر للاهتمام بالشأن الليبيّ، فما هي مبرِّرات تركيا لإرسال قوّاتٍ عسكريّة وجماعات إرهابيّة محمولة مِنْ سوريا إلى ليبيا لترجِّح كفَّة «حكومة الوفاق» عسكريّاً؟ وهل هذا يُعتَبَر مشروعاً وفي خدمة القضايا العربيّة وخدمة ليبيا؟!
طبعاً تركيا تقول إنَّها جاءت إلى ليبيا بدعوة مِنْ «حكومة الوفاق»؛ كأنَّها تقول إنَّها تلقَّت دعوة مِنْ نفسها إلى نفسها! وهذا إضافة إلى ما سبق أنْ أشرنا إليه مِنْ أنَّ «حكومة الوفاق»، هذه، لم تنبثق مِنْ بين الليبيين ولم تُنتَخب منهم لتعبِّر عن إرادتهم، بل انبثقت مِنْ قوى خارجيّة دوليّة؛ في حين أنَّ البرلمان المنتَخَب من الشَّعب الليبيّ يرفض التَّدخّل التّركيّ رفضاً قاطعاً ويعتبره غزواً استعماريّاً. ونذكِّر، بالمقابل، بأنَّ تركيا، نفسها، جاءت إلى سوريا وتدخَّلتْ في شؤونها الدَّاخليّة بالقوة وبفظاظة مِنْ دون موافقة الحكومة السّوريّة وعلى الضّدّ منها. وهذا ينسف من الأساس استنادها إلى دعوة «حكومة الوفاق» للتَّدخّل في الشؤون الليبيّة.
تركيا عضو قديم في حلف الأطلسيّ، وقد دخلته في عهد الرئيس «الإسلاميّ» عدنان مندريس تحديداً[1] (وليس في عهد الأتاتوركيين). ومندريس – كما هو معروف – يُعدُّ مثالاً (وقدوةً) لحُكّام تركيا الحاليين و«الإخوان المسلمين» عموماً. وفي عهد مندريس، تعزَّز ارتباط تركيا بالولايات المتّحدة إلى حدِّ أنَّها أرسلت قوّاتٍ عسكريّةً إلى كوريا للقتال هناك تحت إمرة الجنرالات الأميركيين. وهنا، تجدر ملاحظة أنَّ الدّور التّركيّ الآن في ليبيا هو دور الوكيل للأميركيين وحلف الأطلسيّ، وقد حظي أوّلاً بتأييد علنيّ من الولايات المتَّحدة، ثمّ حظي بتأييد رسميّ مِنْ أمين عامّ حلف الأطلسيّ. وغاية هذا التَّدخّل هي استكمال ما كان الحلف قد بدأه عندما شنَّ عدوانه الهمجيّ على ليبيا قبل سنوات ودمّرها وحوَّلها إلى شراذم وشظايا ثمّ تركها نهباً للعصابات الإرهابيّة ليستولي كلٌّ منها على بئرٍ نفطيّ ويبيع منتجاته بأبخس الأثمان للشَّركات النَّفطيّة الغربيّة.
ما رأى الحلف أنَّه ليس مِنْ ضمن مهامّ عمله على الأرض الليبيّة، تقوم به تركيا الآن.. إنَّه ما يُسمَّى بلغة الإجرام «تنظيف» مسرح الجريمة، وإعادة ترتيبه بما يخفي معالمها الفاضحة ويخدم أغراض مرتكبها الأصليّ.
وبالنسبة للغرب، ليبيا الآن فرصة سانحة لتنفيذ مشروعه الذي انطلق خلال العقد الماضي عبر صفقة مع «الإخوان» لإحلالهم في دفّة السلطة كنموذج بديل للتبعيّة يمكن أنْ يطيل عمر أنظمتها بمسوِّغات دينيّة زائفة، فيطبِّق السياسات الاقتصاديّة الليبراليّة نفسها لكن بمسمّى الاقتصاد الإسلاميّ، ويواجه كلّ خصوم الغرب الحاليين والمحتملين بذرائع دينيّة ومذهبيّة. الأمر الذي سيُدخل العالم العربيّ في غيبوبة طويلة وربَّما أبديّة. وقد رأى سمير أمين أنَّ مثل هذا السيناريو الذي اتَّخذ لنفسه اسم «الصحوة الإسلاميّة» إنَّما هو سيناريو انتحار للأمّة. وأعتقد بأنَّه أيضاً سيناريو نحر لها.
لقد نجح تنفيذ هذا المشروع جزئيّاً في المغرب وتونس، وفشل في مصر وسوريا واليمن والعراق. ولا أحد يمكن له المساعدة في تنفيذه الآن في ليبيا سوى تركيا. ولنتذكَّر أنَّ «
حزب العدالة» نفسه جاء إلى الحكم في تركيا في هذا المناخ بالذَّات. ولمَنْ يمكن أنْ يشكِّك في هذا الكلام بالقول إنَّه وصل إلى السلطة بوساطة صندوق الاقتراع، نقول له: لقد كان الحزب الشيوعيّ الإيطاليّ طوال نصف قرن هو الحزب الأوَّل في إيطاليا مِنْ حيث عدد ممثِّليه في البرلمان؛ لكن لأنَّه كان يوجد فيتو أميركيّ ضدّه، حُرِمَ باستمرار مِنْ تشكيل الحكومة حسب الأصول الديمقراطيّة.
وإنَّ مربط الفرس في الصّراع الدّائر الآن بين الأنظمة العربيّة التّابعة مِنْ جهة وبين «الإخوان المسلمين» وتركيا الإخوانيّة مِنْ جهة أخرى هو تحديداً في هذه المقاولة من الباطن التي منحها الغرب لـ«الإخوان» ليديروا الأنظمة العربيّة بحكومات ثيوقراطيّة تابعة.. بعدما اتَّضح أنَّ الحكّام التابعين الآخرين قد وصلوا إلى طرق مسدودة. قبل ذلك، كانت العلاقات بين الطَّرفين «سمن على عسل».. كما يقول المثل الشعبيّ، وكانت بينهما رفقة سلاح طويلة وحميمة تحت ظلال الراية الأطلسيّة.. ضدّ عبد الناصر، على سبيل المثال، وفي حلف بغداد الاستعماريّ الذي كان رأس حربته عدنان مندريس، وضدّ السوفييت واليسار العالميّ، وفي الحرب على جمهوريّة أفغانستان التقدّميّة في سبعينيّات القرن الماضي وثمانينيّاته، وفي الحرب على يوغسلافيا في التسعينيّات، وفي الحرب على سوريا في الثمانينيّات وطوال السنوات العشر الماضية.
على أيّة حال، دور الوكيل النَّشيط لحلف الأطلسيّ ليس جديداً بالنسبة لتركيا؛ فهي قامت به قبل ذلك بأشكال مختلفة في سوريا؛ فبعد حرب تمّوز 2006 التي شنَّتها «إسرائيل» على لبنان وفشلت لأوّل مرّة في اجتياز الحدود اللبنانيّة وفرض شروط الاستسلام على اللبنانيين، قرَّر الغرب أنْ يتَّبع مع سوريا سياسة الاحتواء.. لعلّها تؤدِّي إلى تغيير سياساتها وتبديل مواقفها. وآنذاك – لكي ننعش ذاكرة البعض – راح الرئيس الفرنسيّ جاك شيراك يتقرَّب مِن القيادة السوريّة وزار دمشق بنفسه، وبدأ الاتّحاد الأوروبّي يتحدّث مع سوريا عن الشراكة الأورومتوسّطيّة، بل إنَّ دمشق تلقَّت حينها عرضاً بزيارة الرئيس الأميركيّ الأسبق جورج بوش لها. وسبحان الربّ المعبود مغيِّر الأحوال! فعندئذٍ (وفجأة)، رأينا حكّام تركيا الحاليّين والمسؤولين القطريّين يشرعون متزامنين بالتقرّب من القيادة السوريّة. وقد بلغ تقرّبهم منها حدَّاً تجاوز العلاقات الرسميّة إلى العلاقات الشخصيّة.
ولكن، عندما تبيّن فشل سياسة الاحتواء تلك في الوصول إلى غاياتها، كما فشلت قبلها سياسة التهديد والإملاءات التي جاء بها كولن بأول إلى دمشق في العام 2003.. بُعيد الاحتلال الأميركيّ للعراق، قرَّر الغرب إنهاء سياسة الاحتواء، واللجوء – بدلاً مِنْ ذلك – إلى سياسة القوّة.. سواء أكانت قوّة الحرب بالوكالة، أو الحرب الأطلسيّة المباشرة كما حدث في ليبيا. وعندئذٍ – سبحان الربّ المعبود أيضاً – سرعان ما أنهت تركيا وقطر، فجأة، علاقاتهما مع سوريا، التي كانت قد توثَّقتْ جدّاً، وانتقلتا مباشرةً إلى العمل الميدانيّ ضدّها.
الذَّريعة، طبعاً، «الشَّعب السّوريّ»!
حسناً!
الشَّعب الفلسطينيّ يُذبَح يوميّاً؛ فهل تدخَّلت تركيا، التي أصبحت فجأة غيورة على الدَّم العربيّ، بالمستوى نفسه من القوّة ضدّ «إسرائيل»؟ هل زوَّدت الفلسطينيين (أو حتَّى «حماس») بطلقةٍ واحدة لمقاومة الاحتلال الصهيونيّ؟
على العكس مِنْ ذلك، توثَّقت[2] العلاقات التّركيّة بـ«إسرائيل»، اقتصاديّاً على الأقلّ، (ونقول اقتصاديّاً بالتحديد؛ لأنّ الاقتصاد يمكن أنْ يُقاس بالأرقام) إلى حدودٍ غير مسبوقة، بل وأكثر من العلاقات بين تركيا وبين أيّ دولة أخرى في المنطقة.
وقد ازدادت أهمّيّة الدَّور التّركيّ في العدوان على سوريا عندما تبيّنت للغرب صلابة الموقف الروسيّ وجدّيّته في مساندة سوريا.. عندئذٍ، أصبحت الحرب بالوكالة هي الخيار الوحيد المُتاح، وأصبح الاعتماد الأساسيّ فيها على تركيا.
ونعود إلى الصّراع الدَّائر الآن في ليبيا، فنقول: ما هي المصلحة العربيّة (أو الليبيّة) في هذا الصّراع؟ وماذا (ومَنْ) يخدم الذين يسكبون الزَّيت على النَّار هناك؟ وبأيّ ذريعة يمكن لشخص (أو طرف) أنْ ينحاز في هذا الصّراع؟
هل يوجد لدى أيّ طرف مِنْ أطراف هذا الصّراع برنامج للحرّيّة والديمقراطيّة والتحرّر الوطنيّ والعدل الاجتماعيّ في ليبيا؟
كلّا.
إذاً، على ماذا يتصارع المتصارعون وعلى ماذا يؤيّدهم المؤيّدون؟!
إزاء هذه الحرب العبثيّة، يتذكَّر المرءُ المثلَ الشعبيّ الشَّهير: أُحرُث وأُدرُس لعمَّك بُطرس.
و«بطرس»، هنا، كناية عن المستعمر، وليس فيه أيّة إسقاطات دينيّة.
على أيَّة حال..
الحلّ الصّحيح.. الحلّ الَّذي يخدم ليبيا والليبيين، ويخدم الصّالح العربيّ عموماً، هو العمل بجدّ ومثابرة مِنْ أجل رفع الأيادي الخارجيّة عن الشأن الليبيّ، وتمكين الليبيين من الجلوس معاً إلى طاولة واحدة، ليتحاوروا بصبر وأناة ومسؤوليّة، ويتوصَّلوا إلى صيغة سياسيّة وطنيّة ديمقراطيّة تحترم حقوق الجميع وتُشركهم في الحياة السّياسيّة، وتحفظ مصالح بلدهم، وترسم طريقه إلى آفاق النّهوض والتّقدّم.
بخلاف ذلك، ستظلّ طاحونة هذا الصّراع الدمويّ العبثيّ تدور إلى ما لا نهاية، وستطحن كلَّ ما يوضع فيها أو يقترب منها، وسيدفع الثَّمن الليبيّون جميعاً، وسيكون ذلك سحباً باهظاً مِنْ رصيد المستقبل للوطن العربيّ بمجمله.
[1] لمَنْ يريد تفاصيل أوفى في هذا المجال، يُرجى الرجوع إلى مقالي «تركيا أردوغان وهي تفجِّر “نبع السلام” أين تقف؟».
[2] لمَنْ يريد تفاصيل بالأرقام والوقائع في هذا المجال، يُرجى الرجوع إلى مقالي «تركيا أردوغان وهي تفجِّر “نبع السلام” أين تقف»، المنشور في هذه المدوَّنة في تاريخ 10 تشرين الأوَّل/أكتوبر 2019.
:::::
مدونة الكاتب