عزمي بشارة وخيارات الفلسطينيين بعد صفقة القرن.. نقاش هادئ
أحمد الدَبَشْ
أصدر د. عزمي بشارة، كتابه الجديد: “صفقة ترامب ـ نتنياهو: الطريق إلى النص، ومنه إلى الإجابة عن سؤال: ما العمل؟” (ط1، بيروت، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2020). والذي يتناول فيه، بالتحليل والنقد، ما عُرف إعلاميًا باسم “صفقة القرن”.
وقد رأيت أن أناقش نقطة بعينها، هي، القسم الثالث، الذي حمل عنوان “ما العمل؟”.
يطرح د. عزمي بشارة الاستراتيجية المأمول أن ينخرط الفلسطينيون فيها، وذلك بعدما انتهى من التحليل النقدي لنص “صفقة ترامب ـ نتنياهو”؛ ومعالجته السريعة للمسار الذي أوصل القضية الفلسطينية إلى هذه النقطة تحديدًا؛ في البدء يرى بشارة عدم معقولية شعار حل السلطة، “إذا حل عباس السلطة، فسيرحل هو ويتسلم رجال الأمن السلطة بدلًا منه. لذلك ليس الخيار قائمًا بين حل السلطة وبقائها. السؤال هو حول دورها والخيارات السياسية المتاحة. يمكن أن تبقى السلطة، لكن بوصفها نوعًا من إدارة مركزية لحكم ذاتي: سلطات محلية أو بلديات تدير شؤون السكان ولديها مهمات شرطية. وهي ضرورية ولا مجال للتخلي عنها. لكنها ليست قيادة سياسية للشعب الفلسطيني، ولا بد من أن يعاد إحياء منظمة التحرير لتتولى هذا الدور، بعد أن انتهى مسار أوسلو، أو يُعقد مؤتمر وطني جديد تتولد منه قيادة سياسية؛ وفي هذه الأثناء تجتمع الفصائل المركزية غير التابعة مباشرة لأنظمة وشخصيات مستقلة لتأليف قيادة مؤقتة للتحضير لمؤتمر كهذا” (ص 106).
ويضيف: “يجب أن تسمى قضية فلسطين باسمها: قضية استعمارية غير محلولة، بل هي آخر قضية من هذا النوع في العالم، أصبحت تتجلى على شكل نظام فصل عنصري. ورمزية القضية بالنسبة إلى العرب وشعوب العالم الثالث نابعة من كونها قضية استعمارية” (ص 107).
يُعرف د. عزمي بشارة قضية فلسطين بأنها “قضية تحرر من واقع الاحتلال والشتات والتمييز العنصري في آن، والتحرر أيضًا من واقع التشظي الفلسطيني” (ص 109).
والعدو عند المؤلف هو “نظام الأبارتهايد في فلسطين” (ص 109). تتطلب الاستراتيجية الجديدة، بحسب المؤلف، “أن ينخرط الفلسطينيون في أماكن وجودهم كافة في المعركة ضد نظام الأبارتهايد العنصري”، (ص 110).
اقتبست هذه الفقرات وفي نيتيّ أن أقدم هنا تقويمًا تاريخيًا لهذه النصوص. وبقليل من الجهد نستطيع أن نقتبس أقوالا وحججًا من مصادر متعددة تعارض ما طرحه د. بشارة من اختزال القضية الفلسطينية بـ “نظام الأبارتهايد”، أي التمييز والفصل العنصري، ولعل أخطر ما جاء في الدراسة، أن المؤلف حرص على التأكيد في عدة مواضع أن العدو هو “نظام الأبارتهايد في فلسطين”.
جوهر المشروع الصهيوني
لسنا هنا في مجال الحديث لتقديم درس تاريخي، حول جوهر المشروع الصهيوني، فالصهيونية لم تكن تتوخى، بخلاف الكولونيالية الكلاسيكية، الاستيلاء على وطن، ونهب موارده، والسيطرة على سكانه، باستغلالهم كيدٍ عاملة بسعر رخيص، بل كانت تتوخى بالأحرى خلق مجتمع جديد في مكان مجتمع أصلاني قديم.
أي أن المشروع الصهيوني استيطاني ـ اجتثاثي ـ إحلالي، جوهره تفريغ الأرض من السكان، فالحكايا الفلسطينية التي يرويها أجدادنا عن النكبة والتطهير العرقي، تم تأكيدها بوساطة التوثيق المحفوظ في الأرشيفات الإسرائيلية، فالمؤرخ “الإسرائيلي” إيلان بابيه، في كتابه “التطهير العرقي”، يؤكد أن ما تم في فلسطين، هو، “تصفية إثنية مخططة وممنهجة”، و”كانت النتيجة الحتمية للنزعة الأيديولوجية الصهيونية، التي تطلعت إلى أن تكون فلسطين لليهود حصرًا”. أو كما يقول المفكر الفرنسي، إنزو ترافيرسو، ذو الأصل الإيطالي، في كتابه “نهاية الحداثة اليهودية: تاريخ انعطاف محافظ”: “ثمة أمر مؤكد: إن سلوك الجيش الإسرائيلي خلال الصراع كان يندرج في إطار المشروع الصهيوني لإنشاء دولة يهودية من دون عرب”. وبذلك ظهرت إسرائيل على حد تعبير أندرسون، كـ”جمهورية من الدم والعقيدة”، أي ديمقرطية محددة على أسس طائفية وعرقية، مفتوحة أمام كل أنصار الشريعة الموسوية.
ما يهمنا أن أطروحة المؤلف تقفز عن طبيعة المشروع الصهيوني، كمشروع استيطاني ـ اجتثاثي ـ إحلالي، هذه الطبيعة لا يمكن الجدال فيها، فضلًا عن وظيفته كامتداد للاستعمار في منطقتنا العربية، أو كما يقول إنزو ترافيرسو أن “تشكل إسرائيل خاتمة لتاريخ طويل من الإمبريالية والكولونيالية الغربيتين”. فولادة دولة إسرائيل، في تصور المؤرخ دان دينر، “هي نتاج لحادث تاريخي. ولدت بين نهاية الحرب العالمية الثانية واندلاع الحرب الباردة، بفضل لحظة استثنائية وانتقالية في التقارب بين القوى الكبرى”.
فقد ساهمت مؤسسات، وأفراد في بناء الكيان الصهيوني، وتدمير المشهد الفلسطيني، تدميرًا متعمدًا، عبر إزالة الاسماء العربية، واستبدالها باسماء توراتية “مُتخيلة”، للوصول إلى عبرنة الخارطة الفلسطينية (يُراجع: ميرون بنفنيستي، المشهد المقدس: طمس تاريخ الأرض المقدسة منذ 1948)؛ فقد أعاد المهندسون تشكيل المدن (يُراجع: إيال وايزمان، أرض جوفاء: الهندسة المعمارية للاحتلال الإسرائيلي)؛ وانكب علماء الآثار، والمؤرخون، وعلماء اللغة، على اختلاق شعب “مُتخيل”، من تحت الأنقاض الفلسطينية (يُراجع: أعمال وايتلام، وطمسن، سلبرمان).
في هذا السياق، يقول إيلان بابيه: “لم تكن الحماسة الأركيولوجية لإعادة إنتاج خريطة إسرائيل (القديمة)، في الجوهر، سوى محاولة (معرفية)، سياسية وعسكرية منهجية، لإزالة الطابع العربي عن البلد ـ الأسماء والجغرافيا، وقبل كل شيء التاريخ”.
يُسقط بشارة خيار الكفاح المسلح، ويعتبره “مجرد كلام (…) الكفاح المسلح لا يقدّم بديلا ولا يحلّ مشكلة” (ص 113). والبديل عند المؤلف جاهز، هو، “التسليم بوجود سلطة فلسطينية ذات مهمات داخلية مصيرية في بناء المؤسسات وتطوير الاقتصاد والتعليم وغيره، يفسح المجال لإنشاء مؤسسات سياسية بأفق جديد وبرامج جديدة تتعامل مع الواقع المفروض على الأرض بوصفه واقع فصل عنصري (أبارتهايد)” (ص 115).
ويضيف: “ولا يمكن تفكيك البنية الصهيونية من دون انخراط اليهود أنفسهم في هذه العملية. وهذه عملية طويلة الأمد وتحتاج إلى صبر وتنظيم وتغيير الخطاب إلى خطاب ديمقراطي” (ص 115).
نظام الأبارتهايد
إن توصيف المؤلف للصراع بـ “نظام الأبارتهايد”، يُفضي إلى إنكار لب الصراع في فلسطين، باعتبار أن “نظام الأبارتهايد” يشكل جوهر مشكلتنا السياسية، أي أن مشكلتنا مع الكيان الصهيوني، هي العدالة والمساواة، في إطار نظام ديمقراطي علماني!
يذهب بشارة بالفعل إلى أن قضيتنا تعنى “النضال الوطني الديمقراطي من أجل العدالة والمساواة، التي لن يتبين نموذج نظامها السياسي إلا من خلال النضال وعملية حوار طويلة بعد قبول مبدأ العدالة. فقد تتخذ شكل دولة واحدة ثنائية القومية، أو دولتين، كل منهما دولة لجميع مواطنيها، بحيث تحتفظ الدولة الفلسطينية بطابعها العربي والدولة الإسرائيلية بطابعها اليهودي، وحل قضايا اللاجئين والجنسية”. (ص 116).
هكذا، تختزل القضية الفلسطينية، مرة أخرى، في قضية “الأبارتهايد”، أي التمييز والفصل العنصري، ويصبح مقياس العدالة، هو الوصول إلى دولة واحدة ثنائية القومية، أو دولتين، هذا الرأى تمخض عنه تيار فلسطيني يؤمن بـ “صنمية الدولة” الواحدة! ومن المؤسف أن يبدي بشارة استعداده للاعتراف بيهودية الدولة في نهاية المطاف، بقوله: “بحيث تحتفظ الدولة الفلسطينية بطابعها العربي والدولة الإسرائيلية بطابعها اليهودي”.
يؤكد المؤلف بأن “النضال من أجل العدالة هو نضال من أجل الاعتراف بالحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني والمساواة لأفراده، من دون إنكار تشكّل شعب آخر في فلسطين” (ص 119).
لم يفصح د. بشارة عن ماهية الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني؟ هل هي الحق في تقرير مصيره على كامل ترابه الوطني، أم الحديث عن حدود 1967؟ ولكن من الواضح أنه يقصد تقاسم الأرض، والبحث عن مساواة مع المُحتل، ولكي نتساوى مع المُحتل، علينا الاعتراف بـ “تشكّل شعب آخر في فلسطين”. فمن وجهة نظر المؤلف، أن الشعب الآخر، هو بالتأكيد المُحتل، فقد “نشأت في فلسطين قومية يهودية إسرائيلية عبرية اللغة والثقافة” (ص 118).
كيف لي كفلسطيني أن أعترف، بتشكل هذا الشعب، الذي تم بناؤه كـ “جماعة مُتخيلة” على أساس “الكتاب المقدس”، وتحت شعار الإيكولوجيا، وراية الغرب. وجاء تشكله في فلسطين على حساب إنكار وجود الشعب الفلسطيني وثقافته العربية؟
أسقط بشارة استراتيجية مهمة، وهي الثورة والانتفاضة والعصيان المدني كبديل مُتقدم للكفاح المسلح، فالثورة لا تحتاج إلى دبابات أو أسلحة متقدمة، كل ما تحتاجه أن يجتمع الآلاف في الميادين الرئيسية في فلسطين، تحت شعار موحد، هو “إنهاء الاحتلال”، وإعادة الاعتبار لشعار تحرير فلسطين، كل فلسطين، فحسب، دون اللهاث وراء تسويات مستحيلة.
*كاتِب وباحِث فلسطيني