أليس الحزينة … من بلاد العجائب الى سماء العجائب
هند شريدة
ظنّ أنه طنين أذنه التي لا يسمع فيها، منذ أيلول الأسود، العام الماضي، ذلك الذي تبع آب المبارك. بدّل السماعة ليعرف ماذا حلّ بأمه. فأتاه الخبر طنيناً وشّ قلبه. انتقلت (أليس) من بلاد العجائب الى سماء العجائب.
ربما لم يخطر على بال سامر أبداً أن تموت والدته، أو أن تعبر يوماً الى الضفة الأخرى. فأليس التي نعرفها جميعا، طاعنة في السن وفي الحزن منذ أن كنا صغاراً، تتناوب على خبر اعتقالات سامر. تعودنا عليها جميعا. بشعرها الأبيض على هيئة “كعكة”، وبلوزتها الأرجوانية، تجوب أزقة البلدة القديمة في رام الله. تعاتب “الخضرجي” إذا ما وضع لها حبات ليمون لم تعجبها، وتقول بلهجتها المقدسية: “ليش لموناتك مش شلبيات يا أبو صموئيل؟”
أليس الحزينة قبل اعتقال سامر، ليست هي ذاتها بعد اعتقال سامر. لطالما عهدناها عجوزاً، لكن حالها تبدلت هذه المرة، الى أن ذهبت عن شيخوخة ملؤها الحسرة والألم على غياب ابنها.
*
في ليلة عصيبة، تداول الإعلام خبر اقتحام الاحتلال لحيّ الطيرة في رام الله المحتلة، كما هو معهود، وعن جيباتهم وهي تحوم حول بيت سامر، كما تداول البعض خبر مداهمة الاحتلال منزل والدته. ذهبتُ صباح اليوم التالي للاطمئنان على أليس. طرقت الباب. صرخت: مين؟ فأجبتها: هند. لم يهمها الاسم. فكانت تناديني دوما: (مرت أُبَيّ).
وجدتها في بركة من الدموع، وفي يدها مسبحة الوردية.
-هالمرة غير. قلبي حاسسني المرّة غير. غير عن اعتقالاته السابقة. وأكملت: صلبوه.. صلبوه متل المسيح بالمسكوبية.
تواطأ الجميع بإجماع على عدم إخبار أليس عما حصل مع سامر بالضبط. ومع ذلك، لقد كان قلبها دليلها، فأدركت “إنه هالمرة غير”.
*
في صباح 25 أيلول 2019، اختطفت قوة من المستعربين سامر وهو يستقل سيارته مع زوجته نورة. لم ينتظر الوحوش إبان قيامهم بمهمتهم القذرة الوصول الى قبو التحقيق، فضربوه ضرباً مبرحاً، في وضح النهار في مدينة، يدّعي سياسيّوها أنها تحت السيادة الفلسطينية. وفي غضون يومين، بالتحديد يوم السبت، 28 أيلول، يوم الرب لدى اليهود، وبعد يوم من عيد الصليب المقدس؛ سرّبت الماكينة الإعلامية خبراً من جهاز مخابرات الاحتلال، أو ما يعرف بالشاباك، يدّعي فيه اعتقاله خلية عسكرية تابعة للجبهة الشعبية، تحت ذريعة مسؤوليتها عن تنفيذ عملية عين بوبين، الواقعة بالقرب من مستوطنة دوليف المغتصبة لأراضي دير بزيع، حسب القانون الدولي الهلاميّ جدا عندما يتعلق الأمر بالفلسطيني، المنزوع عند صفة الإنسانية.
تقول زوجته نورة: عقلي البشري لا يستطيع تخيل ماذا حدث في غضون 48 ساعة ليُنقل زوجي الى المستشفى وهو نصف ميت.
تعذب سامر وهو في التحقيق العسكري بعد ممارسة الوحوش أساليب “استثنائية” عليه من شبح، وتهشيم لأحد عشر ضلعاً لديه، وضرب مبرح لجسده حتى تكسّرت عظامه، وأدمي جسده، وتكلّست كليتاه، لتتعطل فلترتهما، ويدخل على إثرها في غيبوبة، نُقل بعدها الى مستشفى هداسا، ومُنِع محاميه وزوجته من زيارته لمعرفة إذا ما كان على قيد الحياة.
لم يقف بطش الزومبيز هنا، بل ألقوا قنبلة غاز بغرفته في المستشفى، وهو في غيبوبة، بين موت وموت، وكل ما يصله بالحياة أنبوبة أكسجين، تمد رئتيه المهشّمتين بفتات منه.
*
يقبع سامر الآن في سجن نفحة الصحراوي، في جو قائظ الحرارة. موقوف الى أجل غير مسمى، ينفي جميع التهم الموجهة له، ويستذكر آخر محكمة حضرتها والدته، في 17 من شباط الماضي، حين تأملته طويلاً، وتأملها أطول. لم يحظَ سامر بقبلة وداع، ولا عناق عزاء يُسكّن حزنه، ويربتُ على قلبه. لا شيء يخفف عن حزن العربيد، لا قطرة يشيّع بها دمعه، ولا سمّاعة تُذهب الطنين الذي يلازمه جراء فقدان سمعه من هَوْل ما حل به، بلا أظافر يعضّ عليها عندما يئن وجعا، ولا حتى أظافر رجلين يعفّر بهما أرضية زنزانته عندما تعتمل عاطفته حنيناً بلقاء أحبته خارجاً: نور عينيه، وريتاه وميناه وجولانه المدللة. أما أليسه، فستحرسه الآن من سماء العجائب.
وطن