إكتمل الاستهداف ، وانتهت المساكنة… من التلطي إلى التخطي كيف عرفنا من العدو أن القيادة تفاوض! الحلقة (3)
عقدة الصراع جميعه مكثفة في الدور العربي وعلاقة الفلسطينيين به.
د. عادل سمارة
وليس من قبيل التذاكي الزعم بأن العدو كان يعرف حقيقيتن قاتلتين ولا يزال يعرف:
الأولى: أن القضية هي شعبية عربية وليست رسمية، وبأن هزيمة 1967 أخرجت القوى القومية الرسمية من معادلة الصراع لتحرير كامل الوطن لتقف عند تحريم ما تم احتلاله 1967. أما الأنظمة النفطية فهي جوهريا في خدمة المحتل ، دعك من ارسال اموال مسمومة لتخريب المقاومة. وحيث تمكنت الأنظمة العربية عموما من لجم الشعب بالقمع صار بوسعها التفريط والتطبيع دون مقاومة حقيقية من الداخل وحتى اليوم: صار التطبيع طبيعياً لتحضرني ذكرى أحمد حسين بقوله: ” صار الحب دمشقيا- احمد حسين”
والثانية: كان العدو يعرف ولا يزال بأن قيادة م.ت.ف تتلطى وراء مواقف الأنظمة العربية التابعة والمتساكنة وضمن ذلك ربط علاقتها بالأنظمة وليس بحركات شعبية. هذا من جهة، ومن جهة ثانية قررت هذه القيادة أن تعود للآرض المحتلة باي ثمن بدل أن تأخذ إحدى مبادرتين تاريخيتين:
· الانضمام لبدايات المقاومة اللبنانية بعد 1982لتكون المقاومة عربية عموما لا لبنانية أو حتى إسلامية فقط. هذا دون أن نُدخل العامل السوري في الطرح كي لا يهب من يرى غير ذلك.
· أو الإقرار بعدم القدرة وترك القيادة ليخلق الشعب ما يراه، وأمثلة التاريخ عديدة على قيادات فشلت وتنحت وتركت للشعب الخيار .
لم يكن هذا وغيره خافٍ على العدو، ولذا، كان يربط تكتيكاته وينغِّمها على ضوء الواقعتين أعلاه.
إذا صح تحليلنا في الحلقة (2) بأن كثير من قوى الجبهة الثانية كان يفتح مساكنات مع الغرب وحتى مع الجبهة الأولى أي جبهة الثورة المضادة، فإن قرار الخروج من بيروت 1982، رغم كافة التبريرات ، والذهاب إلى تونس واليمن…الخ وليس إلى سوريا، لم يدع أمام اي عاقل سوى الاستنتاج بأن قيادة م.ت.ف اختارت الاستسلام تحت غطاء الاستدوال.
ولأن مكاشفة الشعب أمر محرَّم في معظم السياسات الحكمية العربية وهو ما تعلمته قيادة م.ت.ف جيدا في وجودها بين دهاليز أنظمة الحكم العربية، فهي لم تصارح الشعب بشيء من حقيقة نواياها أو على الأقل حقيقة قدراتها مقارنة بنواياها من جهة وبالمهام من جهة ثانية.
لذا، قد يكون عجيباً أن نعرف في الأرض المحتلة بعض نوايا القيادة من تصرفات العدو.
كيف؟
كانت انتفاضة 1987 في نهاية العام، وكان تكتيك العدو مزدوجا:
· قمع الانتفاضة بمختلف مستوياتها المسلحة والشعبية الشاملة التي انتقلت من نضال النخبة المسلحة إلى النضال الجماهيري، وابتكرت التنمية بالحماية الشعبية .
· إلى جانب بحث الكيان عن أدوات محلية للمشاركة في مفاوضات ما مما أبان لنا بان هناك رسائل إلى الكيان بالمفاوضات.
إتضح ذلك حينما قررت القيادة الاعتراف بالكيان وإعلان دولة فلسطينية من الخارج!
أورد هنا ما عاينته شخصياً خلال عام 1988 والانتفاضة في أوجها.
تم استدعائي إلى الحكم العسكري في رام الله عام 1988 عدة مرات تضمنت نقاشا في السياسة والثقافة والاقتصاد المحلي والدولي …الخ وكل مرة ضباط يزعمون انهم متخصصون في هذا المجال أو ذاك وبأنهم محاضرين في الجامعة العبرية. ولا ادري مدى صحة ذلك.
وكنت أعلم أن هناك كثيرين يتم استدعائهم مما أكد لي أن العدو يبحث عن مَنْ سيوافق المشاركة في فريق مفاوضات مع الكيان.
كان تساؤلي: ترى هل هذا لخلق قيادة بديلة؟ وهل هذا ممكنا؟ أم أن هذا مسار يوازيه مسار مع القيادة نفسها.
في إحدى الاستدعاءات إلى الحكم العسكري في رام الله وكانت مع ضابط اسمه ميخا، سألني ماذا تعتقد أننا سنعطيكم؟
وكنت قد كتبت كتابي “التنمية بالحماية الشعبية” وذكرت فيه أن الانتفاضة لن تجلب حتى دولة في المحتل 1967 وبأن علينا الشغل التنموي والثقافي بدل التورط في خطاب “الاستقلال والاستدوال” بلا رصيد.
قلت له: لن تعطونا أكثر من حكم ذاتي.
قال: بالضبط أنا ليكودي ونحن نرى الضفة والقطاع إقليما من الدولة اليهودية.
وهكذا، بين 1988 واليوم لم يبق من غباش على الصورة. ولا أعتقد أن اي مسؤول فلسطيني في السلطة أو اي تنظيم لا يرى هذه الصورة.
كانت نتيجة هذه الاستدعاءات فرز فريق من الأرض المحتلة يدعو وينظِّر للمفاوضات والتعايش وهو مكون من قياديين في اليمين الفلسطيني ومن الحزب الشيوعي /حزب الشعب وكثير من الأكاديميين وخاصة من جامعة بير زيت وهؤلاء حتى اليوم في هذا التيار ومنهم من وقّع لاحقا بيان أل 55 ضد العمليات الاستشهادية (يُسمونها انتحارية (أنظر كتابي مثقفون في خدمة الآخر: بيان أل 55 نموذجا) ومنهم من يدعو عملاء الإمبريالية أمثال جلبير اشقر ونوعام تشومسكي إلى الأرض المحتلة ومنهم مدراء في الأنجزة…الخ.(لمعرفة أكثر عن هؤلاء أنظر مقالة جوزف مسعد : ساسة واقعيون أم مثقفوا كمبرادور، في مجلة كنعان العدد 85 نيسان 1997 ص ص 14-28 ) حيث غطى معظمهم/ن وبالمناسبة “لم يبدلوا تبديلا”!!
إتضحت الأمور خلال الجولات العشرة قبيل مؤتمر مدريد التي كان يقودها د. حيدر عبد الشافي الأب الروحي لما تسمى “المبادرة الوطنية” والتي شاركت في كل مفاوضات التسوية ثم في أوسلو والانتخابات للمجلس التشريعي ورئاسة السلطة …الخ واليوم هي اشد ناقدي كل ما شاركت فيه دون كلمة إعتذار. بل وصل الأمر ان تتورط قيادة الجبهة الشعبية بترشيح أحد هذه “المبادرة” لرئاسة السلطة، بل كاد البعض يورط الراحل بسام الشكعة في الانتخابات الثانية لولا حديث رفاق معه وكنت منهم اوضح له الصورة والمخاطر.
خلاصة الأمر، أن توجه قيادة المقاومة إلى المفاوضات بات واضحا لذا توقعت في كتابي الذي صدر قبيل مؤتمر مدريد 1991 “الراسمالية الفلسطينية: من النشوء التابع إلى مأزق الاستقلال” منشورات الزهراء-القدس 1991 ما يلي :
“… الأولى تواضع مطالب وبرنامج المقاومة الفلسطينية ليكون أقصاها مؤتمر دولي وأدناها انتخابات في المناطق المحتلة . وبهذا فقد تحولت القيادة البرجوازية للمنظمة نفسها إلى قيادة بديلة لنفسها “السابقة”. ولم ترد إسرائيل من القيادة البديلة التي تحدثت عنها طوال فترة الاحتلال إلا الاعتراف وقبول الشروط الإسرائيلية في التسوية، وكل هذا قبلته قيادة المقاومة الفلسطينية. ولا يغير من الأمر شيئا رفض شامير التحدث مع هذه القيادة، بل يؤكد جوهر الحركة والإيديولوجيا… والثانية تبلور شكل من الحكم الذاتي داخل المناطق المحتلة وهو الشكل الذي “غضت اسرائيل عنه الطرف خلال الانتفاضة ” وقمعت من طريقه اللجان الشعبية ويتجلى هذا الشكل في تلك المجموعة الكبيرة من مؤيدي المنظمة الذين يتحركون ويصرحون بشكل علني ويُجرون اللقاءات والحوارات مع السلطة الإسرائيلية واليمين الإسرائيلي . إنهم يُحضرون انفسهم للتفاوض مع اسرائيل وتحضرهم اسرائيل نفسها لذلك… ولهذا، ” فقد أقامت الجماهير الشعبية مقام نفسها” سلطة حكم ذاتي للبرجوازية وفي الوقت الذي تقدم فيه أغلى التضحيات دون أن تدرك، وفي هذا حالة رهيبة من الاغتراب”. (ص ص 294-95)
أما وكل شيء غدا واضحاً، فمن العبث استعادة قراءة للمشروع الوطني الفلسطيني الذي مثلته م.ت.ف وملخصه:
اليمين: بحث عن تسوية لا تشمل تحرير المحتل 1948 والاكتفاء بشيء ما في المحتل 1967 والارتهان لقرار النظام المصري وصولا إلى تمرير عدوان الإمارات وحتى البحرين وامريكا تحدد لكل منهم متى يعلن ركوعه.
اليسار: حلم وخطاب بتحرير فلسطين ثم لحاق ببرنامج اليمين
قوى الدين السياسي: فلسطين وقف إسلامي ومواقف “مغمغمة” من الحل مع تكرار الارتهان التمويلي من قطر وتركيا وكلتيهما في محور الصهيونية تماما.
وتبقى العبرة أين سوف يتخندق كل طرف!
ملاحظة: صدر كتابي “الرأسمالية الفلسطينية…1991 ” قبيل مؤتمر مدريد، فتم استدعائي إلى قيادة الاحتلال في بيت إيل/بيتين شرق رام الله، كنت حينها مسؤول قسم الجدوى الاقتصادية في مركز التطوير الاقتصادي من يو.أن.دي.بي في القدس (طبعا لاحقا استقلت بسبب عدم قيام المؤسسة بتنمية ووجود فساد). بدأت المفارقة أنني حينما دخلت البوابة الرئيسية وقف شخص وقال: أهلا د. سمارة! قلت مين انت ؟قال انا إيلي. قلت أنت الذي هدمت البيت حيث كنت قائد المجموعة التي اعتقلتني 15-11- عام 1967. قال لا والله كان بأمر السيد بيرن الحاكم العسكري، ضحكت ومضيت مع الجندي إلى غرفة بها مجموعة ضباط وكان كل الجدل حول الحل السلمي، ولم يكن أمامي سوى احترام موقفي فقلت بالطبع لا، ولا شك أن مخابراتكم تتابع ما أكتب. هذا وطن محتل ونحن لا خيار أمامنا سوى تحريره. وانتهى اللقاء.
الحلقة الأولى
الحلقة الثانية
الحلقة الرابعة
الحلقة الخامسة
الحلقة السادسة