حين ينطق القلم
نائلة عطية الحيفاوية .. سلموا لي على تراب قبرها
بشير شريف البرغوثي
حوارنا موصول يا نائلة .. والموت في قاموسنا فاصلة لا توقف هدير الصراع.
لا أنكر أن موتك كان خيبة كبرى بالنسبة لي .. ولكننا متفقان على أن خيباتنا لن تنتهي حتى بعد رحيلنا من هذه الدنيا
اهكذا مضت الأيام في غيابك كما كانت في حضورك فلا يكاد يومٌ يخلو من خيبة في حياة كلٍ منا. وكلما حطمته خيبةٌ قال لعلها تكون الأخيرة كي يكتشف سريعا أنها لن تكن شيئا مذكورا قياسا لما تلاها من خيبات.
حاولت أن أقنع نائلة أن البحر يغطي ثلاثة أرباع مساحة الكرة الأرضية .. لكنني وجدت نفسي مجبرا على الإقتناع معها بأن حيفا هي الأرض ببرها وبحرها في أيقونة واحدة وأن لا بر يسع آفاقنا إن ضاق بها البحر!
أقنعتني نائلة أن النسمة إن ضاق بها البر صيّرها البحر إعصارا يحرق أساطيل الغزاة…فللبحر معجزاته و لذلك اختارت أن تجاوره في الحياة و في الممات
صارت الملفات كتاباً يا نائلة .. لكن تصوري أنني لم أجرؤ حتى الآن على دفع الكتاب إلى المطبعة .. لا أتخيل صدور الكتاب الأول عنك و الكتب الأخرى عن مشاريعنا القانونية في غيابك .. أتصفح الأوراق كما تشم الأم شعر ابنها، و كما يتلمس الطفل الرضيع وجه أمه، فإن على من يريد الإنصهار مع الكتاب، أن يتلمس أثر مؤلِفه، ولون حبره، وشكل خطه، وسوى ذلك من غوامض البرق التي يطلقها التواصل” الجسدي” مع الكتاب ككائن حي يتنفس ويستنشق أكاسيد الحبر والرصاص ويطلقها شهيقاً وأكسجين حياة. ولكن لا بر و لا بحر و لا حياة
لن أنسى تلك الليالي حين كنت أبحث و أترجم و أكتب و كأني في سباق مع الزمن .. و لكن أنىّ لي و لغيري أن يدرك أنه في سباق خاسر مع الموت في كل لحظة من لحظات الحياة … أنت كنت تشعرين بذلك السباق .. و تنادينني:
“بشير! يبدو أن الله يحبني لذلك يوقظني مع الفجر ” هكذا كنا ننتظر فجر الشفاء وفرج النجاة من الكرب ومن كابوس الوحدة الذي كانت تعيشه في أواخر أيامها.
وأسألها: أينهم ؟
وتفهم من أعني فتبكي و تقول ” لا أدري”!
و حين كانت تصل حد الإقتناع بأنه لم يبق أحد .. كان أحد الأصدقاء أو الرفاق يفاجؤها بزيارة أو بباقة ورد .. ترد لها الأمل باستمرار الحياة
في آخر محادثة هاتفية بشرّتها أن الكتاب قد انتهى .. غالبت ضعفها وتلاشي جسدها ورفعت صوتها ما استطاعت وهي تهتف ” يا الله يا الله يا الله ” ثم… فجأة انطفأ الصوت كما ينطفيء ضوء السراج الواهن بعد هبته الأخيرة ..
بعد ذلك أرسلت لها رسالة على الفيس بوك مستفسرا عما إذا كانت حالتها الصحية تسمح لها بالقراءة .. كانت آخر صورة شاهدتها لها محبطة جدا .. ولا تبشر بخير فالتلاشي نال منها كل منال. من قال إن المادة لا تفنى؟ بلى إنها تفنى ولا تتحول من شكل إلى آخر.لا علاقة للشكل الجديد بما كان عليه الحال إلا كعلاقة الجمر الحار بالرماد البارد.
كتبت لها تلك الرسالة و يدي ترتعش .. كم أخشى النظرة الأخيرة والرسالة الأخيرة ..
الرسالة الأخيرة لا يمكن إلا أن تصل أو تتأخر في الوصول قليلا …قليلاً أي حتى يوم القيامة !
في يوم 15 تموز 2019 تغيرت خطة الكتاب كلها .. و خطة معالجة الملفات كلها
كانت وعدتني أن تؤمن لي الملفات الناقصة … ولكن من يهتم يا نائلة ؟ فالناس الآن أسارى الإكتفاء بمن حضر
ماتت نائلة عطية وفي ظهيرة ذلك اليوم تم دفنها في مقبرةالروم الأرثوذكس في حيفا بثوبها الفلسطيني وبحضور عدد قليل جدا من المقربين “تنفيذاً لوصيتها” أو هكذا قال من حضر. لا بأس عليك نائلة فكل ما يتعلق بمصير شعبنا من قرارات صار يتم بتوافق من حضر، وما أقل الحاضرين في اللحظات الحاسمة!
ليس الجميع بخير يا نائلة .. هناك لجنة تتابع انتهاكات العدو و لكن عملها يقتصر على التوثيق .. لا مقارعات في المحاكم
و هناك كثيرون يتحدثون عن نضالهم في المحاكم و أنت و أنا نقدر لهم ذلك لكن أحدا منهم لم يسجل انتصارا واحدا في أي قضية أمام محاكم الإحتلال
حتى حكم المحكمة العليا الذي حصلنا عليه بشق الأنفس ” لا جثامين في الثلاجات” صار حبرا على ورق ..
و ملف الشهيدة الذي وثقته بعثة محكمة الجنايات الدولية لم يطرأ عليه أي جديد
و ملف العدل الدولية لا يزال معطلا كما تعلمين
و هناك الآن أسرى يعانون من الكورونا و لا من منقذ لهم منها و من غيرها من الأمراض
عزاؤنا الوحيد أنك قمت بما هو فوق طاقتك ..
سلاما عليك يا رفيقة الدرب الصعب .. كثير من أصدقائك يسلمون عليك
و كلنا بانتظارك و بانتظار نائلة أخرى تخلفك في الدفاع عمن لا مدافع عنهم
لا أنكر يا نائلة أن رحيلك قد غيّر أشياء كثيرة ، ولكن الحكاية الآن هي عنك
فيا روح نائلة .. عليك السلام
بالرغم من كل شيء سأصدر الكتاب منك وعنك وهو لروحك
وفاء لذكراك الغالية
يا أيها الذاهبون إلى هناك .. في طول البلاد و عرضها :سلِموا لي على قبور أحبابي.. سلموا لي على تراب قبرها.