فلسطين والتحرر الوطني العربي
أ. د. محمد أشرف البيومي
أستاذ الكيمياء الفيزيائية بجامعة الإسكندرية وجامعة ولاية ميشجان سابقاً
دراسة مقدمة لكتاب: فلسطين بعد 100 عام على اتفاق سايكس – بيكو؛
اي مصير للقضية الفلسطينية في مئويتها الثانية
بمناسبة مضي 100 عام علي اتفاق سايكس بيكو لا بد من التوقف لسرد موجز للكيفية التي وصلنا بها إلي هذا المستوي من التدهور بشأن القضية العربية عموما وبالذات في فلسطين. أجد أنه من الضروري التأكيد علي الالتزام بالمنهج العلمي في تناول القضايا الهامة التي نواجهها في أمتنا العربية، والتي من دونها نقع فريسة للتشتت والترجع وتبني المصطلحات المخادعة والخطيرة التي صاحبت هذا التدهور الكبير
وبطبيعة الحال تقفز اتفاقات كامب دافيد ووادي عربة وأوسلو إلي قمة أسباب التدهور وتجسده. بتطلب ذلك عرض سريع لتداعيات هذه الاتفاقات التي تمت في غياب أي مشاركة شعبية. وبعد هذا العرض تنتقل الدراسة إلي ظاهرة التمويل الأجنبي وصعود النيوليبرالية الساعية لإضعاف الدولة الوطنية والغرق في التبعية لقوي الهيمنة الأجنبية والخليجية و التي أدت إلي إزالة القيود أمام الفساد والثراء الفاحش للبعض وإفقار بقية الشعب. وتوجت هذه الممارسات بانطلاق الربيع العربي الزائف.
تناقش الدراسة انحسار جهود المقاطعة ومقاومة ما يسمي بالتطبيع،و مناقشة مختصرة للتآمر الرجعي العربي والتمويل الخليجي في فلسطين والدول المركزية العربية وتأثيره المدمر علي العمل الوطني، وما صاحب ذلك من صعود تيارات أصولية رجعية والذي انتجت جماعات ارهابية مسلحة تتخفي تحت رداء الدين.
رغم هذا المشهد القاتم الذي نتج عن مسار استسلامي صاحبه انهيار لجهود التنمية المستقلة وتشويه لمفهوم الوحدة العربية، انبثقت مقاومة صلبة في لبنان وصمود رائع في سوريا واليمن مما يبشر ببدايات مشروع نهضة جديد قاعدته اللأساسية سوريا المنتصرة.
من هذا المنطلق نناقش باختصار خيارات النضال وأولياته التي تشمل: احياء الذاكرة الوطنية – دعم المقاومة – مقاومة “التطبيع” – المقاطعة – بلورة أسس ومعالم للمشروع التنموي المستقل المستقبلي.
ملاحظة: تستمد الدراسة يعض الخبرات والذكريات الشخصية واقتباسات من مقالات سابقة
فلسطين في حياتي
تطور فهمي لما يسمي بالقضية الفلسطينية بدرجة كبيرة، فعندما برزت محنة فلسطين عندما كنت في الرابعة عشر من عمري تأثرت بشدة بالفكر الوطني وبذلك ارتبطت فلسطين بالصراع ضد الاستعمار البريطاني القائم علي أرض مصر وقتئذ وربما كان أحد العوامل هو أن عمي محمد عزت البيومي كان أول شهيد في ثورة 1919 ضمن العشرات الذين استشهدوا يوم 11 مارس علي يد قوات الاستعمار البريطاني. كما اختلط فكري الوطني باالفكر الديني المعادي لليهود. كان خطباء المساجد في أعوام 1947 و48 يؤكدون بأن اليهود لن تقوم لهم قائمة وبالتالي لن ينجحوا في إقامة دولة اسرائيل المزعومة ومع ذلك كنت أشك ذهنيا في حتمية فشل “اليهود”. انتشرت آنذاك القصائد والأغاني الوطنية مثل خلي السيف يجول وتكلم السيف فاسكت أيها القلم وأغنية عبد الوهاب “تجاوز الظالمون المدي……” كنت من المشجعين لمحاربي الاخوان المسلمين في فلسطين بل كنت أسعي للإنضمام إليهم ولكن صغر سني منع ذلك. كانت سذاجتي الصارخة تعطيني أملا في أن هيئة الأمم المتحدة ستصوت ضد تقسيم فلسطين لوضوح الحق. انتهت معركة الأربعينات بمذابح صهيونية وخذلان عربي وهزيمة نكراء انتجت اسرائيل بمساحة اكبر مما خصص لها في مشروع التقسيم. و بالرغم من التضحيات وفدائية المحاربين، تبين فيما بعد خذلان الحكام العرب كما أن قيادات الاخوان كانت لهم مآرب أخري وراء كفاح شبابهم في فلسطين وهي السيطرة علي الحكم في مصر وإقامة دولة اسلامية تماما مثل هدف حماس حاليا الأهم وهو إقامة إمارة إسلامية في غزة.
مع نمو الثقافة والمعرفة تطور فهمي للقضية كصراع ضد الاستعمار والامبريالية خصوصا في عهد عبد الناصر الذي أكد علي طبيعة الصراع الحقيقية وبدأت أبعاد القضية تتضح وكذلك من هم أعداء الأمة العربية ومن هم مناصروها الحقيقيين. كما استمر وتصاعد نشاطي الداعم للقضايا العربية في مصر وفلسطين والأردن ولبنان والعراق وسوريا وتشابك مع قضايا أخري أهمها الحرب الظالمة علي فيتنام وصمود شعبها ومقاطعة النظام العنصري في جنوب أفريقيا و مكافحة العنصرية في أمريكا والنضال من أجل الحقوق المدنية للسود ولغيرهم من الأقليات. كان ربط كل هذه القضايا عاملا هاما في الفهم العلمي للصراع.
وللأسف فإن تطوري الفكري جاء معاكسا للتطور الفعلي للأمور الذي ساد فيه الخطاب الاستسلامي.
ورغم ذلك فقناعتي الراسخة بضرورة التصدي للمشروع الصهيوني الإمبريالي والذي تدعمه الرجعية العربية لم تتزعزع، وأن هذه الجهود ورغم الحالة السلبية التي نشهدها الآن ستثمر وأن الكيان الصهيوني سيندثر في النهاية. لهذا فثنائية المقاومة بأشكالها المختلفة والعمل المستمر والذي لايكل نحو مشروع نهضوي عربي تمثل طبيعة الصراع في المرحلة القادمة.
معالم المنهج العلمي للتحليل
قد يظن البعض أن التطرق للمنهج العلمي في هذه المرحلة غير مهم بل عبث فكري. لكن تاريخ الصراعات الإنسانية يؤكد غير ذلك. أصبح واضحا في الحالة العربية أن غياب الوضوح الفكري ساهم في تدهور الأمور بشكل كبير كما أن القوي المعادية استغلت ذلك كسلاح للتشتيت والخداع.
من المعالم الأساسية لمنهج التحليل العلمي للقضايا العامة هي النظرة الكلية والشاملة وعدم تجزيء القضية وفصل عناصرها المتفاعلة ثم اختزالها في عنصر أحادي. لقد أدي منهج التجزيء والاختزال وإهمال السياق التاريخي والجغرافي والتكنولوجي، والتركيز علي تفاصيل هامشية، إلي تراجع وإهمال القضية الأم وهي القضية الوطنية في خطابنا ونشاطنا العام. ومكمن الخطورة هنا سهولة توظيف هذا التوجه من قبل قوي الهيمنة العالمية ( الأمريكية والأوروبية والصهيونية) بصرف النظر عن النوايا الطيبة لمن يتبني هذا الفصل والاختزال وقلب الأولويات. ومن النتائج السلبية لتجزيء القضايا هو افتراض لا يمكن وصفه إلا بالعجيب أو الساذج وهو إمكانية “توجيه السهام” لقضية معينة مثل إزالة حاكم مستبد وتركيز الجهد علي هذه المهمة حتى تتحقق ثم التركيز بعد ذلك علي قضايا الهيمنة أو الاستغلال. يصبح هذا المنهج التتابعي – والذي أثبت فشله عملياَ- منطقياَ بمجرد فصل القضايا عن بعضها وافتراض عدم تفاعلها القوي مع بعضها. وللأسف يتبني هذا المنهج العبثي بعض المثقفين العرب.
كما تشكل نزعة الفصل بين العوامل الداخلية والخارجية نوعا من التجزيء الذي نتحدث عنه. ليس غريباَ إذاَ،أن نقرأ تعبيرات رسمية أمريكية بالارتياح لهذا التطور والذي أكدته كونداليسا رايس عندما عبرت عن ارتياحها لانهماك المثقفين المصريين في قضاياهم الداخلية فمن المناقشات السخيفة والمتكررة إدعاء أن الحديث عن عوامل خارجية هو بمثابة “تعليق مشاكلنا علي شماعة الغير”. وفي أقوال أخري إتباع ما يسمي بنظرية المؤامرة وان العيب فينا.
إن النظرة الشاملة لا توحد قضايا الوطن العربي فحسب بل قضايا كل المجتمعات التي تصبو للتحرر من الهيمنة الإمبريالية ومن الاستبداد والفقر والتخلف. وبهذا تصبح شعوب هذه المجتمعات حليف منطقي في صراعنا ويصبح أي نجاح لإحداها انتصار لنا.
كما أن الميل إلي ثنائية الاختيار والتي طالما استخدمت قوي الهيمنة الداخلية والأجنبية هذا المنهج للتضليل ولطالما وقع الكثيرون في هذا الفخ فمثلا “إما القبول بالاستبداد أو استجلاب الاحتلال”، كما حدث في ليبيا. ويصاحب هذه الثنائية تبريرات عديدة مثل “هل توافق علي الدم الذي يسيل والظلم الناجم عن الاستبداد؟” و”هل لنا خيار إلا طلب المساعدة من المهيمن الأجنبي بقاذفاته وصواريخه للقضاء علي المستبد الغاشم؟”
لقد ثبت مؤخرا بأن رفع شعارات الديمقراطية بشكل منفصل عن القضايا الوطنية والاستقواء بقوي الهيمنة الأجنبية من أجل تحقيق ذلك يخدم مصالح هذه القوي ويجلب المصائب (الحالة الليبية) ويضر بمصالح الوطن. فلنتذكر علي سبيل المثال أن عداء الغرب لعبد الناصر والذي لقب ب”هتلر النيل” لم يكن من أجل الديمقراطية، إنما لتمسكه بالسيادة الوطنية وإصراره علي التنمية المستقلة وتأميم قناة السويس ونهجه الاقتصادي الذي أعطي الأولية للكادحين وهكذا تشابكت العوامل الداخلية والخارجية
أصبح غياب التقييم النقدي في ثقافتنا السائدة حاليا عقبة حقيقية في تقييم الأمور، فعو يسمح بقبول بل وترديد المعلومة أو المصطلح دون تدقيق أو تساؤل عن مصدرها وأهدافها ومدي صحتها وتشكيل آراءنا والتعصب لها بناء عن انطباعات واهية.
قائمة ببعض المصطلحات المضللة
كثيراً ما يقع البعض فريسة لتعميمات غير صحيحة تعمينا عن الحقائق. انتشر هذ النهج وتصاعد في ظل الهيمنة الإعلامية للقنوات الفضائية التابعةً وانتشرت لنفس السبب مصطلحات عديدة مغرضة فعلي سبيل المثال ما هي الدول العربية “المعتدلة”؟ أليست هي الدول التي تسير في ركاب السياسة الغربية والتي تهادن بل وتصادق الكيان الصهيوني وتوقع معه معاهدات “سلام” وتقيم معه مشروعات مشتركة؟ ما هو “المجتمع الدولي” و”الشرعية الدولية”؟ أهو المجتمع الغربي المهيمن وشرعيته المفروضة من خلال الحروب والابتزاز الاقتصادي؟ أليست الصين وروسيا والبرازيل والهند وغيرها من الدول جزءا من المجتمع الدولي ؟
لقد أوردت قائمة بمثل هذه المصطلحات المغرضة والضارة، لعل القاريء يتوقف عندها ويستوعب مخاطرها حتي نتبني منهج التدقيق قبل قبول أي مصطلح دون وعي وحتي ننقي عقولنا من المصطلحات المخادعة؛ فعلي سبيل المثال وليس الحصر :
- “الربيع العربي” ( تعريف أجنبي لايمت للواقع بصلة ورغم تبني البعض له فهناك من اعتبره ربيع زائف نيوليبرالي وأن نتائجه جائت مخربة للأمة العربية)
- “الوسطية” ليست دائما الخيار الأفضل أو المبدئي، كما أنها تعطي أصحاب المواقف المائعة حجة الوقوف علي الحياد حتي يتمكنوا من لعب دور الوسيط بين من يدافع عن استقلال الإرادة الوطنية ومن ينادي بالحماية الدولية ويقابل سفراء الدول المعتدية وعملائهم
- تحييد أمريكا” (انتهت بتحييد مصر عربياً)؛
- ” لماذا نرفض الديمقراطية إذا جاءت إلينا من أمريكا؟” ( دمقرطة العالم العربي هدفا كاذبا لقوي الهيمنة الغربية)؛
- “مصر أولا”، “الأردن أولا” (مزيد من التمزيق للأمة العربية التي أصبحت أخيرا)؛
- “الديمقراطية أولا” ( إهمال القضايا القومية والاستقلال لوطني)؛
- “سلام الشجعان” و”خيارنا الاستراتيجي السلام” (استسلام مقنع)،
- “سينا رجعت لينا ومصر اليوم في عيد” (لم ترجع سيناء وراحت مصر)؛
- “قبول الآخر” ( أي القبول بإسرائيل)،
- المناداة بالحوار مع الآخر أي الحوار مع الصهاينة ولماذا أهملنا الحوار مع بعضنا؟
- تدوير الزوايا (هذا المنهج يعني التراجع بالنسبة للقضايا المصيرية)
- التوافقية التي أدت إلي لجان ومؤتمرات تجمع إسلاميين وقوميين ويسارين وليبراليين كخليط يتميز بميوعة المواقف أو غيابها مما يجهض الفعل الوطني الجاد
- معارضة معتدلة وأخري إرهابية (كيف تكون أي معارضة ترفع السلاح ضد الدولة معتدلة؟) المقصود بمعارضة معتدلة أنها معارضة تؤيدها أمريكا
- ” لا يمكن التغيير إلا بضغوط خارجية” (دعوة مفضوحة للتدخل الأجنبي)؛
- لا بد من الانخراط في العولمة قبل فوات الأوان،” خصخصة”، “اقتصاد السوق”، “الانفتاح الاقتصادي” (خراب أكيد وغناء فاحش لحفنة من الأثرياء وفقر مدقع وبطالة للملايين)؛
- “مجتمع دولي” و” شرعية دولية” ( مجتمع وشرعية الإمبريالية)؛
- شعار “العصا والجزرة” (شعار مهين خصوصا عندما يستعمله أصحاب الحق)
- “خريطة طريق” ( خريطة التيه والضياع)،
- “الإسلام هو الحل” (الدولة الدينية والهيمنة باسم الدين؛)
- تغيير النظام من الداخل (تبرير من قبل بعض المعارضين لتبرير التعاون السياسي مع السلطة
- “دول معتدلة” و”إسلام معتدل” ( دول تابعة واستخدام للدين يتوافق مع المستعمر)؛
- “مزايدات” ,” تشدد”، “عاطفية”،”غير واقعية”،”عنتريات” “شعارات خشبية” ( مقولات لقوي الهيمنة الاجنبية والمحلية لمهاجمة المثقفين الملتزمين وإدانتهم)
- “عقلانية” و”اقعية” و”تطبيع “(رضوخ)؛
- “الخلاف في الرأي لا يفسد في الود قضية” (أي رأي وأي قضية)،
- “من ليس له خطيئة فليرمي الآخرين بالحجر” ( ممنوع النقد وتعرية الحقائق).
- “النخبة” من الذي اختارها وهل تمثل أية قطاع شعبي أم هي منصلة تماما عن الشعب
- فلننظر إلي نصف الكوب المليء (دعوة لعدم النقد وقبول بالأوضاع السيئة وعدم الاهتمام بالإناء نفسه)
كانت حصيلة التشويش الفكري وتراجع محورية لقيادات عربية والمصطلحات المضللة أن يتم الإختزال الكبير للتحرر العربي في فلسطين. فلنتابع هذا المسار الذي تم عبر أكثر من ستة عقود.
مسار الاختزال الخطير للقضية العربية في فلسطين
قرأنا أخبارا عديدة ومؤلمة حول التعاون العربي الصهيوني والامريكي فمن السلام الدافيء الذي طرحه الرئيس المصري السيسي إلي العلاقات والاتفاقات السرية والتي أصبحت علنية بين كيانين وظيفين الكيان الصهيوني وكيان آل سعود ثم مساهمة عربية مكثفة في مؤتمر هرتسيليا الأخير والذي ينظمه العدو الصهيوني وكان من بين المساهمين فيه قياديين في منظمة التحرير الفلسطينية.
أجد من الضروري بمناسبة مضي 100 عام علي اتفاق سايكس بيكو التوقف لعرض الكيفية التي وصلنا بها إلي هذا المستوي من التدهور، ومناقشة المصطلحات المصاحبة له والتي أصبحت وكأنها من المسلمات مثل مصطلح “القضية الفلسطينية” بدلا من الصراع العربي ضد الصهيونية والإمبريالية و”وحدة الفصائل الفلسطينية” بدلا من وحدة المقاومين الفلسطينيين بهدف التحرير وليس التحريك السياسي. إذا هذا العرض هو بمثاية شرط للخروج من المستنقع الفكري الذي غرقنا فيه ومن أجل العودة لوضوح فكري والالتزام بالأصول الأساسية
ماذا نعني بالضبط عندما نتحدث عن القضية الفلسطينية؟ هل نتحدث عن الإمارة الإسلامية بغزة المتحالفة مع قطر والتي طعنت سوريا في ظهرها “وفاء” للدعم الكبير من قبل الدولة السورية التي رفضت أحد الشروط الأمريكية بطرد حماس والتخلي عن المقاومة الفلسطينية واللبنانية ومن ثم تعرضت للعدوان والتآمر ولم تكتفي قيادات حماس بذلك فأعلنت أنها جزء لا يتجزء من تنظيم الإخوان المسلمين ومن ثم تقدم الدعم بكل أشكاله لحكومة مرسي الإخوانية فاكتسبت عداء غالبية المصريين ؟ أم نتحدث عن حكومة رام الله التي تنسق أمنيا مع العدو الصهيوني أي استخدام عتادها البوليسي لقهر المقاومة الفلسطينية وإيداع أبطالها وراء القضبان بينما يستشري الفساد في الدوائر الحاكمة؟ في هذا الإطار لماذا يهتم أي مواطن مصري بالقضية الفلسطينية؟
صعد في الآونة الأخيرة شعار فلسطين هي بوصلتنا فهل هذا صحيح ؟ وإن كان كذلك فلأي اتجاه تشير هذه البوصلة؟ بل أتسائل لماذا تكون فلسطين قضية الشعوب العربية المحورية وهل هذا التحديد والقصر يخدم القضية أم يضرها؟ ألا يكون تعريف القضية بكونها صراع ضد الكيان الصهيوني المغتصب والمتحالف مع الإمبريالية العالمية والرجعية العربية ومن أجل مشروع نهضوي وحدوي ومستقل يكون تعريفا شاملا وجامعا ودقيقا؟ بل ولماذا يخجل أو يتردد الكثير من “المثقفين” باستخدام ألفاظ مثل الإمبريالية أو الرجعية أو حتي الوحدة ألأنها ألفاظ خشبية أو بالية كما يدعي معسكر الإمبريالية والرجعية؟
لم يقم الكيان الصهيوني لاسباب انسانية لتعويض اليهود الأوروبيين علي معاناتهم من ظلم اللاسامية ولم يقم حبا لليهود فاللاسامية لازالت قائمة بل تتصاعد من جديد في ظل صعود الفاشية علي السطح مرة أخري. فان كانت الانسانية والدفاع عن حقوق الانسان هي دافع الغرب الأساسي في توفير الامان ليهود الدول الأوروبية أساسا فكيف تنتهك حقوق الفلسطينيين من قتل وتشريد ومذابح بإقامة الكيان الصهيوني الغاصب؟ يتواري هذا التناقض إذا اعتبرنا اإسرائيل ككيان وظيفي واداة فعالة لخدمة الامبريالية بالأساس، وهذا لايلغي مصالح الكيان الذاتية.
إذا تصورنا جدلا ان اسرائيل اقيمت علي جزيرة صناعية كبري أمام حيفا علي سبيل المثال وفي هذه الحالة لم يطرد فلسطيني واحد من أرضه ولم يشرد او يقتل اي فلسطيني وفي نفس الوقت قامت الإمبريالية والكيان بتأجيج الجزيرة الصناعية بالسلاح وبضمان امريكا المتكرر والمعلن بأن قوة الكيان العسكرية لابد أن تتفوق علي كل الدول العربية مجتمعة. ألا يكون هذا الكيان عدوا للأمة العربية جمعاء خصوصا مصر وسوريا ولبنان والأردن وفلسطين؟ نعود للواقع فنؤكد أن البعد الفلسطيني لاشك قائما وأساسي ولكنه وبكل تأكيد ليس البعد الوحيد فهناك أبعاد لا تقل أهمية عنه بل وليس من مصلحة فلسطين انتقاص هذه الأبعاد.
لقد أصبح جليا وواضحا كيف تمت عملية اختزال مبرمج للصراع عبر الأربعة عقود الأخيرة. كما لا بد من ملاحظة أن التخلي عن مكون أساسي من الصراع واكبه إعادة تعريف الصراع وبروز شعار مصاحب براق مخادع.
في مرحلة صعود حركات التحرر الوطني في عهد جمال عبد الناصر كنا نتحدث عن “صراع عربي ضد كيان صهيوني عنصري استيطاني مغتصب وحليف استراتيجي للاستعمار(الأمبريالية)”. وشمل هذا الصراع بالضرورة بناء مشروع تنمية اقتصادية وبناء صرح صناعي يدعم الإستقلال الوطني ويلبي حاجات الشعب من حياة كريمة وفرص عمل تحقق آماله وفي نفس الوقت تكون درعا للأمن القومي وتدعم استقلاله الوطني وكان من الطبيعي أن تصعد أولوية الوحدة العربية فما ذا حدث إذاً؟
رغم الهزيمة العسكرية الكبري والموجعة عام 1967، لم يتراجع الشعب العربي عن أهدافه واعتبر الهزيمة انتكاسا خطيرا لابد من تجاوزه. تعالت صيحات الشعب “حنحارب …حانحارب” وبالفعل بدأت حرب الاستنزاف وبدأت جهود جبارة لإعادة بناء الجيش دليلا قويا علي رفض الهزيمة سياسيا وفكريا ونفسيا وبرز شعار “ما يؤخذ بالقوة لا بد وأن يسترد بالقوة”.
في نفس الوقت صعدت الرجعية العربية وكيل الامبريالية من جهودها واستثمرت هزيمة 67 العسكرية لتحقيق هيمنتها بدعم من قوي الهيمنة العالمية المتربصة. ولا ننسي أن السعودية كانت المحرض علي هذه الحرب للتخلص من النظام الناصري حسب الوثائق الرسمية والتي سنورده باختصار لاحقا. انتهزت السعودية والقوي الداعمة لها الفرصةالسانحة لتقويض المشروع النهضوي التحرري الوحدوي بشتي الطرق رغم تظاهورها الكاذب بالدعم المالي المحدود والخطابي الزائف والسياسي المغرض حتي تقوي رغبتها في زعامة الأمة العربية و حتي تظهر بنصرتها لفلسطين ولكن الدلائل والنتائج العملية تثبت غير ذلك.
في هذه الحقبة تغير تعريف الصراع إلي ” الصراع العربي الصهيوني ” فكان أول خطوةعلي طريق الإختزال التدريجي . ومن الطبيعي أن يصاحب ذلك شعارات جديدة ساهم في نشرها وتبريرها كتاب كبار مثل حسنين هيكل أهمها شعار “تحييد أمريكا” الذي استهدف التخلي عن العنصر الامبريالي ونزعه تعسفيا رغم محوريته في الصراع. كنا نتسائل ما هي القوة والأدوات التي ستستخدم من أجل تحييد قائدة الإمبريالية العالمية وما هو وراء الشعار من أهداف خبيثة. كان هذا الشعار مناسبا لدول الرجعية العربية ولقوي الإمبريالية العتيدة. كما كان ينم عن استخفاف بالعقول ولكنه سمح لهم بادعاء وقوفهم ضد الكيان الصهيوني مع استمرار تبعيتهم لأمريكا ونشر مفهوم كاذب ومضحك وهو أن أمريكا مغلوب علي أمرها من قبل اللوبي الصهيوني الذي يتحكم في السياسات الأمريكية. في حين أن الواقع يؤكد أن اللوبي الصهيوني والكيان الصهيوني نفسه هو صنيعة الإستعمار والإمبريالية. ولكن كثير من المثقفين العرب وغير العرب تبني هذه المقولة الخبيثة. ساهم في ذلك شواهد حقيقية لكنها مضللة، فهناك تطابق كبير بين الإمبريالية وصنيعتها إسرائيل والتي تقوم بدور القاعدة العسكرية المتقدمة لها والعامل الأساسي لاستكمال الهيمنة علي العالم العربي وإضعاف مجتمعاته ودوله وجيوشه. يكاد يكون السيد نصر الله الزعيم العربي الوحيد الذي يعبر صراحة عن أن إسرائيل أداة لأمريكا ومطامعها وأنهما يشتركان في الأهداف. ليس هذا التمييز الهام أكاديمي فهو يدحض تماما مقولة تحييد أمريكا.
لم يقف الأمر عند هذا الحد فقد استتبع ذلك صياغة توصيف جديد للصراع فأصبحنا نتحدث عن “القضية العربية الاسرائيلية”مما ينزع صفة العنصرية وكون الكيان الصهيوني استعمار استيطاني وغابت أيضا صفة الصراع. اصبحت اسرائيل بهذا التوصيف الجديد والمخل وكأنها دولة عادية قامت حروب بينها ودول عربية ومشكلتنا معها أنها لازالت منتهكة للحقوق الفلسطسنية التي لابد من استردادها ، وبذلك اصبحت القضية مثل العداء بين دولتين شرعيتين، وانتشر مفهوم أن كل عداء ينتهي بمفاوضات وصلح ومعاهدات. وردد أصحاب التوصيف الجديد تساؤلات مزيفة مثل : ألم تكن بين فرنسا وألمانيا حروب طويلة ؟ ألم تنتهي هذه الحروب الدامية وانهمكت الدولتان في مشاريع تنموية وتعاون أدي إلي الرخاء لكليهما؟ أدي الإختزال الجديد إلي شعارات مصاحبة لها كما هي الحال في كل مرة يحدث الإختزال. برز “شعار الحقوق الفلسطينية”و شعارات منادية بالسلام مثل “السلام خيارنا الاستراتيجي”، وكذلك شعارات تستهزأ بمن لا زالوا متمسكين بالتحرير الكامل ووصف شعاراتهم بالخشبية واللاواقعية وأن أصحابها جهلاء.
انتهت الأمور بضربة قاسية من الوزن الثقيل بل هي أعمق وأكبر من هزيمة 67 نفسها ووقع السادات في غياب كامل من دور شعبي اتفاق كامب دافيد ومعاهدة ” السلام”وأعلن السادات أن “أكتوبر آخر الحروب”. أصبح هذا الشعار مقتصر علي الدول العربية فقط ولا ينطبق علي إسرائيل التي انطلقت تشن العدوان تلو الآخرعلي العراق ولبنان وسوريا وفلسطين وكان رد الفعل العربي الرسمي: آسفين فلقد قالو لنا أن أكتوبر آخر الحروب.
لم تتوقف عملية الاختزال هذه فنزعت صفة “العربية” وأصبحنا نتحدث عن “القضية الفلسطينية” وبرز شعار “نقبل ما تقبله المنظمة ونرفض ما ترفضه” وهكذا انجز الاعداء خطوة متقدمة في تمييع الصراع فالشان اصبح فلسطينيا محضا والعرب مشاهدين من بعد وبعضهم مناصرين في احسن الاحوال. تحت هذا الشعار المغرض أصبح من الممكن التضامن أو نبذ الفلسطينيين فالمسألة أصبحت اختيارية. بعد كامب دافيد وادعاء ساداتي بان المنظمة رفضت استلام الضفة وغزة عبر مفاوضاته مع بيجن في مينا هاوس.
لم يتوقف دهاء الأعداء عند هذا الحد فبصعود تيار الإسلام السياسي وانحسار التيارات القومية واليسارية أصبحت القضية عداءا دينيا بين المسلمين واليهود وتردد شعار “خيبر خيبر يا يهود جيش محمد سيعود” وهو شعار يقدم خدمة كبيره للصهيونية التي طالما سعت إلي وحدة يهود العالم سواء أشكيناز لا علاقة لهم بيهود خيبر أو سيفارديم. في هذا المجال أصبح مسيحيوا فلسطين وكأن لا شأن لهم بالأمور وكأن لا وجود لهم و أن الصهاينة استثنوهم من التشريد والطرد ولم ينهبوا أراضيهم وممتلكاتهم مثلهم مثل المسلمين وأصحاب الديانات الأخري.
حلت مصيبة أوسلو وهلل لها بعض الفلسطينيين كانجاز كبير أدي إلي عودة بعض الفلسطينيين لأرضهم ونتيجة ل “سلام الشجعان” جاء معها التنسيق الأمني وأصبح البوليس الفلسطيني يقمع المقاومة مع أعوانه الصهاينة.
ثم برزت إمارة اسلامية في غزة من ثمار أوسلو والدخول لجنة الديمقراطية المعجزة لتعادي كيانا فلسطينيا زائفا ومشوها في رام الله. برز شعار “الوحدة الفلسطينية” بين معسكر أوسلو في رام الله وإمارة غزة.
لا ننكر المقاومة الشرسة الفلسطينية وفي قلبها الاسلامية، ولكن كم من انجازات مقاومة تم اجهاضها سياسيا وخير مثال علي ذلك هي حرب أكتوبر 1973 التي أبرزت المعدن الحقيقي للجندي المصري وشجاعته واستعداده لفداء وطنه ثم جاء دور القيادة السياسية فحطم انجازاته وانتهي الأمر بتكبيل مصر بمعاهدة كامب دافيد المشئومة بتداعياتها الخطيرة علي الوطن العربي كله. لا يصح أن ينخدع أحد بممارسات القيادة السياسيىة الحمساوية أو أن نفصل هذه الممارسات عن بعضها. فخيانة قيادات حماس وطعنها لسوريا في ظهرها في مخيم اليرموك في قلب دمشق لا يمكن أن يغتفر وانتقالها لقطر دليل إضافي لتوجهاتها المنحرفة. أما حكومة عباس في رام الله وتنسيقها الأمني مع العدو الصهيوني يسقطها تماما من الصف الوطني ويضعها في زمرة اعداء المقاومة. فاي وحدة يبغي المنادون بها بين فتح وحماس مزيد من التضليل أوالسذاجة أوعدم الجدية أو التشوش الفكري. الوحدة المطلوبة هي بين المقاومين الحقيقيين.
ثم الأن و في نهاية الأمر تحول الصراع بقيادة آل سعود إلي صراع عربي إيراني مفتعل جعل من اسرائيل حليفا مع دول عربية ضد عدو مشترك هو أيران، تطبيقا لمقولة مغرضة عدو إيران (عدوي اللدود) صديقي. بررتا السعودية عدوانها الإجرامي علي شعب اليمن بحجة أن الحوثيون هم أداة إيران في اليمن ومن ثم وجب التدخل العسكري لوقف المد الإيراني كما كان لا بد من اشعال نيران الطائفية لفأصبحت الشيعة عدو للسنة رغم أن إيران كانت شيعية أيام الشاه صديق الكيان الصهيوني والسعودية.
ومن الملاحظ أن القيادات الصهيونية استثمرت التراجع العربي فصعدت من إرهابها الفكري متمثلا في إلغاء حقيقة مساواة الصهيونية بالعنصرية وجريم مجرد من يناقش حقائق حول الهولوكوست و الآن من يعادي الصهيونية.
ومن الملاحظ أيضا أن رغم كل ذلك فإن المقاطعة ألأكاديمية لإسرائيل تصاعدت في الغرب في السنوات الأخيرة مما يؤشر لتنامي الوعي في شريحة مهمة من المثقفين الغربيين.
اتفاقات استسلامية وتداعياتها
توالت الضربات القاسمة للمشروع العربي بدءا باتفاقية كامب دافيد ومعاهدة السلام المصرية التي أدت عمليا إلي تحييد مصر الدولة المركزية من الصراع ضد العدو الصهيوني وحلفائه وغرقها في التبعية والانهيار الاقتصادي. كما أن هذه الاتفاقات فتحت الباب علي مصراعيه لاتفاقات استسلامية أخري وهي وادي عربة و أوسلو. فمفاوضات السادات مع بيجن في مينا هاوس كانت بمثابة تمثيلية مفضوحة أعطت غطاءا زائفا بأن اتفاقية كامب دافيد ليس اتفاقا منفردا وأنها لم تهمل القضية الفلسطينية وأن الفلسطينيين أنفسهم هم الذين رفضوا استلام الضفة وغزة عندما سنحت الفرصة وبالطبع أدت الآلة الإعلامية دورها بكفاءة للتضليل ولإدانة الفلسطينيين من خلال حملات تشويه وشعارات دنيئة مثل “أولها فلس وآخرها طين” وترديد مقولات كاذبة مثل “الفلسطينيون باعوا ارضهم” مما ساهم في نمو الشعور السلبي من قبل بعض المصريين. وساهم في دعم هذا الشعور السلبي تصرفات شريحة مستغلة وفاسدة من الفلسطينيين وقياداتهم.
ومن معالم كامب دافيد الساداتية الخطيرة انتقاص كبير للسيادة المصرية عموما وعلي سيناء خصوصاً سواء بالنسبة إلي القيود العسكرية أوالمدنية والتي أخلـت بقدرة الدولة المصرية في محاربة الارهاب وكأن ذلك لم يكن كافيا فجاء آل سعود ليقتطعوا جزءا عزيزا من أرض مصر وتنازل الرئيس السيسي عن الجزيرتين في نظير حفنة من الدولارات والكثير من الكرامة المصرية رغم معارضة قضائية واضحة وغضب شعبي واسع. الجزيرتين تقعان في منطقة “ج” حسب اتفاقية كامب دافيد وعليه أصبحت السعودية بملكيتها المزعومة شريكا لإسرائيل مما ينبأ في ظل علاقتها الحميمة مع الكيان الصهيوني بتبعات خطيرة في المستقبل.
يشهد السادات نفسه علي انتقاص السيادة المصرية فيقول في حديث لمجلة التايمز الأمريكية في 19 مارس 1974 “إن الحديث الدائر في إسرائيل عن نزع سلاح سيناء يجب أن يتوقف. فإذا كانوا يريدون نزع سلاح سيناء فسوف أطالب بنزع سلاح إسرائيل كلها..كيف أنزع سلاح سيناء..فهم يستطيعون بذلك العودة في أي وقت يريدون في خلال ساعات”.
كذلك فإن اتفاقية كامب دافيد فتحت الباب علي مصراعيه للتبعية للمشاريع الأمريكية حيث أن السادات لعب دورا محوريا في مساندة ما يسمي بالمجاهدين في أفغانستان مما ساهم بشكل كبير في دعم الحركات الاسلامية المسلحة ومن ثم الارهاب وأيضا في نشر الأفكار الوهابية والخرافات المصاحبة لها (علي سبيل المثال كتيب عبد الله عزام واسع الانتشار).
ثم جاء اتفاق وادي عربة تكملة منطقية لمسلسل الاستسلام مما وجه لطمة أخري لفلسطين أما أوسلو فلا شك أنها الضربة الكبري فالسلطة الفلسطينية أصبحت فعليا أداة قمع للمقاومة الفلسطينية أي أن العدو الصهيوني أصبح له شريك في منع انتفاضات مزعجة للسلطة الفلسطينية
يظن البعض أن هذه الاتفاقات تتعلق بالجانب الأمني والعسكري فقط إلا أن الواقع يؤكد علي أن الجانب الاقتصادي والثقافي والسياسي لا يقل أهمية وخطورة. نتذكر أن بشائر السلام الكاذب صاحبته بشائر التنمية والرخاء. أذكر إعلان ضخم عند كوبري قصر النيل بالقاهرة يظهر أربعة وردات حمراء وشعار ” سنوات من الرخاء في انتظارنا” كان هذا في أول العقد الثامن ومضي عليه حوالي أربع عقود فأين الرخاء واين السلام. نحن أمام نموذج عملي وليس نظري تفضح عملية السلام والرخاء لا زلت أحتفظ بصورة التقطتها لهذا الإعلان لإدراكي أن العكس تماما هو المنتظر. السؤال المنطقي هل تسمح قوي الهيمنة ومنها الكيان الصهيوني برخاء وسلام؟ ألا يتناقض هذا مع هدف الهيمنة التي تتطلب ضمان الضعف والتخلف للشعوب العربية. لا يتوقف الأمر عند هذا الحد فلا بد من نمو شريحة اجتماعية محلية مرتبطة بالشركات العالمية تكون بمثابة وكيل للإمبريالية وحامية لمصالحها. لقد أصبح رجال الأعمال الذين أثروا ثراء فاحشا المرتبطين بالفساد جزء لا يتجزء من السلطة سواء في مصر أوفلسطين بجناحيها في غزة ورام الله. لقد أصبح اقتصادنا استهلاكيا غير انتاجي فتفشت البطالة وتفاقمت معاناة الشعب بطبقاته الفقيرة والمتوسطة وأصبحنا أسيري المعونات والقروض بشروطها المجحفة العائقة للتقدم.
دور جامعة الدول العربية كأداة استعمارية
ومن النتائج المباشرة للاتفاقات الاستسلامية وتعاظم دور ملوك وأمراء الخليج سقوط جامعة الدول العربية التي حظيت الجامعة بإعجاب شديد لقراراتها في الدوائر الاستعمارية. علي سبيل المثال ما نشرته صحيفة النيويورك تايمز في عددها الصادر 28 نوفمبرعام 2011 تحت عنوان “جامعة الدول العربية توافق علي العقوبات جاء فيه أن “الإجراءات الشديدة التي اتخذتها الجامعة ( طرد سوريا الدولة المؤسسة من الجامعة) تهدف إلي وقف الاعتداء الدموي علي المعارضين” دون أي إشارة لدموية الإرهابيين. وأضافت الصحيفة أن :” القرار كان لطمة سيكولوجية بالإضافة أنها اقتصادية أيضا لإدعاء سوريا المستمر بأنها قلب العروبة، إدعاء تحطم بتعليق عضويتها في الجامعة.” وفي مجلة التايم الأمريكية في 5 سبتمبر 2011، يقول فريد زكريا بصراحة شديدة:” الحقيقة أن العملية الليبية كانت تستحق ثمنها علي نحو رائع” ويعبر عن سعادته بتدخل الناتو العسكري في ليبيا والذي تم بموافقة جامعة الدول العربية بالقول”التدخل في ليبيا نموذج جديد من المهمات الإنسانية التي لها أهداف إستراتيجية أيضا… تأييد الربيع العربي والآمال الجديدة لشعوب الشرق الأوسط.” أنكون مغاليين بعد ذلك أن نعتبر جامعة الدول العربية أداة من أدوات الإمبريالية والرجعية العربية؟
كان لا بد أيضا أن يكون مصاحبا لاتفاقات الاستسلام جانبا ثقافيا ومن هنا نفهم تشجيع قوي الهيمنة الغربية والخليجية لمنظمات التمويل الأجنبي المتخفية تحت رداء انساني ودعم و نشر الفكر النيوليبرالي الذي يسقط القضايا الوطنية ومشاريع التنمية المستقلة. وكان من المنطقي أن يصاحب انحسار الفكر الوطني الجماعي أن يملأ الفراغ الثقافي الناجم الفكر السلفي والخرافة والانكفاء الذاتي وكذلك الفكر الارهابي بتشجيع من السلطة وبتمويل من الخليج وبهذااكتملت عناصر التخريب. وهذا يذكرني بنبوءة للشاعر الراحل سيد الحجاب بعد عام 1973 والتي عبر عنها في مقولته “ياخوفي ما يوم النصر ترجع سينا وتروح مصر
تراجع العمل الوطني: صعود وأفول المقاطعة ومقاومة “التطبيع”
نشطت حركات مقاومة “التطبيع” مع العدو الصهيوني والمقاطعة كسلاح شعبي في الثمانينات، كما حققت نجاحات كبيرة حتي وصلت لقمة نشاطها في أعوام 2000حتي 2003 واتسع التجاوب الشعبي بدرجة ملحوظة. بعد ذلك تراجعت هذه النشاطات بعد احتلال العراق،كما تغيرت الأولويات بشكل مفاجيء وانحسر النشاط الوطني بازدياد تأثير المنظمات الممولة أجنبيا المتخفية في رداء محاربة الاستبداد ونشر الديمقراطية،وصعود حركات نيوليبرالية تسقط الأولوية للقضايا الوطنية مثل كفاية ومجموعة إعلان دمشق في سوريا. ومن المثير للدهشة أن الفكر النيوليبرالي قصر مفهوم الديمقراطية علي الجانب السياسي واختزالها في صندوق الانتخابات مما برر التعاون بل التحالف مع النقيض السياسي غابت القضايا الوطنية وأصبح شعار الديمقراطية المنفصل عن الاستقلال الوطني وبدأت المناداة بالحماية الدولية والتدخل الأجنبي. وحتي في الجامعات المصرية التي كانت تقود العمل الوطني من خلال نوادي هيئات التدريس تركز النشاط علي الاستقلال الجامعي فقط قادته عناصر متناسقة مع هذه الأولوية.
من المهم أن نسترجع جهود المقاطعة ومقاومة التطبيع حتي نعي أنها كانت ناجحة ومؤثرة وأقلقت قوي الهيمنة المحلية والأجنبية وأن نعطي نماذج من مقولات المتكبعين والجهود الأمريكية والصهيونية وحكام كامب دافيد لتنشيط التطبيع واجهاض حركات المقاطعة ومقاومة التطبيع.
في دراسة قديمة (نشرت عام 1985 في مجلة المواجهة التي كانت تصدرها لجنة الدفاع عن الثقافة القومية بمصر) وذكرت أن القبول ب”التطبيع” فى بادئ الأمر سيكون قبول الواقع المر ولكنه سيتطور بعد ذلك إلى قبوله كواقع غير منفر. بل أن لطفي الخولي مؤسس مجموعة تحالف كوبنهاجن للتطبيع اعتبره دليلا علي “النضج السياسي و قبول الآخر”.
عرضت في الدراسة نفسها مجموعة من الخطابات المتبادلة عامي 77 ، 78 بين أعضاء فى الكونجرس ومسئولين فى الحكومة الأمريكية مثل سايرس فانس وزير الخارجية الأسبق وهنري واكسمان عضو بالكونجرس الأمريكي وغيرهم. أورد فقرة هامة من خطاب واكسمان يتحدث فيه عن “بلوره برنامج ” العمل من أجل السلام ” حتى يتكامل مع سياستنا الخارجية” كما تحدث عن مجالات غير محدودة للتعاون المصري الأسرائيلي فى مجالات البحوث والعلوم التطبيقية والعلوم الاجتماعية … تحدث عن مشاريع طموحة التي تتطلب رأس مال كبير مثل إنشاء قناة بين البحر الميت والبحر الأبيض المتوسط وإنشاء محطة توليد طاقة لخدمة مصر وإسرائيل.
في تقرير (العلم والتكنولوجيا في إسرائيل) أعدته السفارة الأمريكية بتل أبيب عام 1970 جاء فيه … وعندما تزول العقبات السياسية في الشرق الأوسط فإن المستوي الأعلي نسبيا لاسرائيل في العلوم والتكنولوجيا سينعكس بسرعة علي البلاد العربية لمصلحة الطرفين … وسيؤدي هذا لاستغلال الموارد الطبيعية بصورة أكثر كفاءة وسينمي التجارة … ” ويذكر التقرير “الدور المرتقب لإسرائيل في هذا المجال خصوصا بالنسبة لأفريقيا جنوب الصحراء”. أن هناك قوي داخل المؤسسة الحاكمة الأمريكية تدفع وتخطط لعمليات التطبيع بين مصر وإسرائيل لتدعيم السياسة الاستعمارية الأمريكية في البلاد العربية … وأن هذا التخطيط بدأ مبكراً قبل اتفاقيات كامب ديفيد ومعاهدة (السلام).
إن نشاطات “التطبيع” لا تقتصر علي المجالات الاقتصادية والتجارية والسياسية والسياحية والأمنية وإنما تهتم بالذات بالمجال الثقافي والعلمي إن استخدام العلم لتحقيق أهداف سياسية ليس مستبعدا كما يعتقد البعض فالإدعاء بأن العلم والنشاط العلمي نقي ولا علاقة له بالسياسة هي دعوي ساذجة أو مُغرضة، يستخدمها المتطبعون لتبرير انحرافهم الوطني. ويتبناها الصهاينة مثل . شيمون شامير المدير السابق للمركز الأكاديمي الإسرائيلي بالقاهرة الذي يدين اتهامات المعارضة للمركز كأداة للاستعمار الثقافي وإنما “نحن طلاب علم وليس لنا هدف إلا توسيع المعرفة) وإن أهم ما يقوم به المركز اتاحة الفرصة للمصريين للدراسة بإسرائيل”. من الواضح كذب هذه الإدعاءات فالواقع العملي يؤكد أن العلم أداة لتنفيذ سياسات معينة وتحقيق أهداف سياسية .
تآمر السعودية لدحض المشروع النهضوي العربي وهزيمة المقاومة
لا يمكن تناول قضايا التحرر العربي دون تناول دور الرجعية العربية المحوري بقيادة النظام السعودي الوهابي وإدراك أن هذا الدور بدأ منذ سيطرة آل سعود علي معظم الجزيرة العربية بمعاونة الاستعمار البريطاني والأمريكي واستخدام أموال البترو دولار الهائلة لفرض الوهابية علي العالم الاسلامي كله. ومن الضروري كذلك أن الحكومات العربية التي تحمل مشروع نهضة وحدوي لا بد وأن تكون عقبة أمام أهداف آل سعود.
من هذا المنطلق شكل عبد الناصر خطرا حقيقيا علي مخططات السعودية. عبر عن ذلك بشكل واضح المذكرة السرية من والتر روستاو (مساعد الرئيس حونسون) بتاريخ 14فبراير 1967 والموجودة بمكتبة جونسون علي معان كثيرة:” ناصر يستطيع منع حق مرور الطيران كما فعل بالنسبة للجسر الجوي للآردن. يستطيع جعل المقاطعة العربية اداة أكثر إعاقة للتجارة الأمريكية. يستطيع أن يثير كثيرا من المشاكل للأنظمة الصديقة- ولنا- في الأردن والعربية السعودية ولبنان ،ويمكنه إحضار المتظاهرين ضد قاعدة هويلس (بليبيا)، وإثارة مشاكل أكثر لإسرائيل بواسطة منظمة التحرير الفلسطينية وحتي تأميم أو إزعاج شركاتنا البترولية. وبإيجابية أكثر يظل ناصر أقوي شخصية في الشرق الأوسط. … ورغم المشاكل الاقتصادية المتصاعدة فإن الجمهورية العربية المتحدة لديها القوة البشرية المدربة والإرادة للتحديث التي تجعلها أكثر الدول المتقدمة في المنطقة”.
كان ناصر العدو المشترك للاخوان المسلمين في مصر ولحكام السعودية بدءا بمحاولة تنحيته لصالح محمد نجيب ومحاولة اغتياله مرة علي يد الاخوان ومرة عن طريق الملك سعود الذي قدم حوالي اثنين مليون جنيه استرليني لعبد الحميد السراج رئيس المخابرات السوري للعمل علي اغتيال عبد الناصر كما جاء في كتاب: (Niblock,Tim, 2006 Saudi Arabia; Power & Survival, p 41) وفي خطاب من فيصل ملك السعودية للرئيس الأمريكي جونسون عام 1966 طالبه باتخاذ اللازم لإنهاء ناصر ونظامه( Saudi Government Document 342, date 27 Dec. 1966). يجب ألا نستغرب لهذا العداء لعبد الناصر والرغبة القوية للإطاحة به وغيره من القيادات القومية. كما أن هذا يتطابق تماما مع الهوس السعودي العلني من اجل الاطاحة ببشار الأسد في سوريا. ومن هنا جاء التعاون الوثيق بين السعودية والسي آي إيه CIA . أحد أمثلة هذا التعاون “عملية شجر السيكامور” ،والذي نشرت النيويورك تايمز في 23 يناير 2016 بعض تفاصيله، كما أن التعاون السعودي الصهيوني لتأمين البحر الأحمر أصبح معروفا كذلك.
صعود النيوليبرالية وحلول الربيع العربي
تعني الليبرالية الجديدة او النيوليبرالية،إزالة العقبات أمام التجارة العالمية في جانبها الاقتصادي، وحرية انتقال رؤوس الاموال، وعلي المستوي المحلي وأد القطاع العام وتبني الخصخصة، وانحسار دور الدولة الاجتماعي لدعم الفقراء وتقديم الخدمات الشعبيةالضرورية. وبالتالي فالنيوليبرالية تسعي إلي تفكيك مؤسسات الرقابة التي تحاصرالفساد والأخري التي تدافع عن حقوق الفئات الشعبية والعمالية وفي النهاية جعل آليات السوق هي القوة الحاكمة بدلا من تخطيط الدولة الذي يرعي مصالح كل فئات المجتمع علي حساب حرية الوطن ويقي الوطن من شرور القروض والمعونات المخربة للمجتمع. ومن جوانب النيوليبرالية الأساسية التركيز علي الحرية الشخصية رغم أنه من الواضح أنه “لا حرية لمواطن في وطن غير حر (مستقل الإرادة). ولا ننسي أن المنهج النيوليبرالي يشجع الأنانية والرغبة في الثراء الفاحش وتحويل كل شيء بما في ذلك الثقافة والصحة وحتي الوطن نفسه إلي سلعة وجعل المواطن كمجرد مستهلك. وبذلك تصبح الحريات السياسية والقدرة علي التنظيم في إطار ديمقراطي مجرد سراب. ومن الشعارات المخادعة هي أن ثراء البعض سيعود علي الفقراء بالخير حسب مفهوم تسرب الثروة إلي أسفل Trickle Down Theory.
يصاحب الفكر النيوليبرالي الذي تتبناه الدوائر الامبريالية ( كما هو معبر عنه بوضوح في أدبيات اليمين الأمريكي) العداء للدولة الوطنية والرغبة في تقويضها وعدم الاكتراث بالقانون الدولي وأدواته مثل هيئة الأمم المتحدة بل أن اليمين المتطرف المؤيد لترامب والمتمثل فيما يسمي ” البديل اليميني” “ALT RIGHT”يدعو صراحة إلي تفكيك الجهاز الإداري الأمريكي نفسه Deconstruction of the Adminstrative State. وللاسف الشديد أن نسمع شعار “تفكيك الدولة” من قبل أحد “ثوار” الربيع العربي بمصر خلال برنامج إذاعي أمريكي.
سيطر الفكر النيوليبرالي علي ما يسمي بالربيع العربي واستغل التير الإسلامي المناخ المتاح للهيمنة وعبرت قيادات إمبريالية معروفة بمشاركة رموز نيوليبرالية عربية عن سعادتها بإنجازاتها خصوصا في مصر وليبيا. تطورت الأمور ورأينا الخراب الذي لحق بليبيا وكيف أن النظام في مصر أعاد انتاج نفسه.هذه هي حصيلة الربيع العربي الزائف.
قد يتسائل بعض القر اء عن علاقة هذه الأمور بفلسطين وأنا بدوري أتسائل ما إذا كان إضعاف الدولة في مصر من خلال الانفتاح الاقتصادي وفي العراق عن طريق الحصار والدمار وفي سوريا من خلال الإرهاب المسلح لصالح فلسطين؟ إن العلاقة الوثيقة بما يدور في الدول العربية المحورية وتحرير فلسطين.
لا تحتاج الإمبريالية للإحتلال المباشر لدول العالم الثالث حتي تسيطر عليها فالهيمنة عن طريق الحصار الاقتصادي والتخريب الداخلي من خلال منظمات التمويل الأجنبي وتهميش طبقة المثقفين وتصعيد المعاناة المعيشية وتشجيع النزعات الطائفية ودعم المجموعات إرهابية واستخدام الديمقراطية كأداة ضغط عندما يحلوا لها والتغاضي عن الانتهاكات الهائلة لحقوق الانسان كما في البحرين، كذلك استخدام الدفاع عن الشرعية المزيفة لتبرير الإعتداء الإجرامي للسعودية وحلفائها علي اليمن وضرب الشرعية الحقيقية عن طريق الدعم السافر للإرهاب في سوريا كل هذه الوسائل تجعل الهيمنة أكثر كفاءة وبتكلفة أقل. وهنا يجب التمييز بين الاستعمار القديم الذي كان معنيا بتواجد بنية تحتية تساعده في استغلال مصادر الثروة المحلية، بخلاف الكمبرادورية المرتكزة علي منهج النيوليبرالية فهي عمليا تساهم في تدهور القواعد الانتاجية والمؤسسات التعليمية والبحثية والثقافية، ونشر الأخلاقيات المصاحبة لها بما في ذلك الفساد.
انبثاق المقاومة والصمود والانتصار
بدأت مرحلة جديدة من الصراع بنجاح المقاومة اللبنانية عام 2000 باستنزاف الجيش الاسرائيلي وميليشيا حداد ولحد مما أدي لانسحاب إسرائيل من جنوب لبنان بعد بقائها منذ 1978 وبعد دخولها العاصمة اللبنانية بيروت. ثم جاء انتصار المقاومة المذهل عام 2006 علي الجيش الاسرائيلي المعتدي والذي ظن أنه أمام معركة سينتصر فيها لا محالة فكانت هزيمة تاريخية غيرت من موازين القوي فلم تعد إسرائيل تدخل الأراضي اللبنانية متي يحلوا لها ذلك.
جاء الحصار الإجرامي علي العراق الذي أدي لوفاة عشرات الألوف من الشعب العراقي وأطفاله ثم جاء العدوان الآثم والاحتلال بحجة التخلص من حاكم مستبد ولنشر الديمقراطية الليبرالية. وقعت المأساة بتشجيع من الدول العربية التابعة، ثم جاء الدور علي سوريا ففرضت الولايات المتحدة الأمريكية عبر كولن باول وزير خارجيتها شروطا لابد من التزام القيادة السورية إن أرادت رضائها وتجنب العدوان عليها. تضمنت الشروط طرد المنظمات الفلسطينية و التخلي عن علاقاتها بإيران وحزب الله والاندماج الاقتصادي في السوق العالمي وتبني اقتصاد السوق فكان الموقف التاريخي للقيادة السورية التي رفضت الإملاءات الأمريكية التي كانت لاشك تدرك ثمن هذا الرفض. بدأ العدوان علي سوريا عام 2011 واستشرست دول الخليج من أجل اسقاط النظام السوري بالتعاون السري والعلني مع تركيا عضو الناتو والولايات المتحدة والكيان الصهيوني من خلال تجنيد الارهابيين وتدريبهم وتسليحهم ودعمهم المخابراتي واللوجستي والإعلامي والمالي والبشري. وشاركت حماس بطعن سوريا التي احتضنتها في ظهرها وتراجعت القيادة الحمساوية إلي حليفها قطر مع مثقفين متواطئين مع العدوان. لكن الإرادة السورية فاقت توقعات الأعداء الذين لم يعوا دروس جنوب لبنان.
ظن الأعداء أن النظام السوري علي وشك السقوط وبذلك يتم إزالة عقبة أخيرة أمام التحالف العدواني. لكن الصمود الأسطوري والتاريخي لجيش سوريا العربي وللقيادة السورية والشعب السوري الأبي وبساعدة حلفاء سوريا وعلي رأسهم حزب الله ومقاتليه ودعم إيران وروسيا خيب آمالهم. تصاعد عربيا التأييد للمقاومة مما دفع حكومات عربية مذعورة بشن حملات التشويه من خلال المذهبية البغيضة.
سوريا قاعدة للمشروع النهضوي العربي المستقبلي
والسؤال المهم هو: ماذا يعني صمود سوريا وانتصارها المتوقع بالنسبة للصراع العربي ومشروع النهضة العربية؟
يعني بوضوح أن سوريا أصبحت مؤهلة لتكون قاعدة النضال العربي ولقيادة برنامج تنموي مستقل يكون نواة لنهضة عربية شاملة. نعم سيتربص نفس ثلاثي الأعداء وبضراوة لاجهاض مثل هذا المشروع ولكن صمود سوريا وقياداتها وحلفائها الذين واجهوا بنجاح الهجمة الشرسة لعدة سنوات تنبيء بصمود ونجاح مماثل في معركة التنمية العربية المستقلة رغم العقبات والصعوبات. هكذا برزت محورية سوريا عربيا وانكشفت قوي العدوان وخيبتها بدرجة غير مسبوقة. ولذلك فإن المثقفين العرب الملتزمين الباقين علي مبادئهم أيدوا النظام السوري منذ البداية لايمانهم الراسخ بانتصار قريب وبأهمية ذلك ليس لسوريا فقط بل لفلسطين والأمة العربية.
وفي هذا الإطار أجد من المناسب التأكيد علي ما جاء في مقال للدكتور بثينة شعبان مستشارة الرئيس السوريبشار الأسد في مقال بعنوان “طريق الخلاص”، خصوصا الفقرة الأخيرة: هل سيحدّد الوعي العربي قبل فوات الأوان الاتجاه السليم فيسير به، ويستبعد ما ذرأته الصهيونية والعثمانية بين ظهرانيه من منطق مشبوه عن سنّة وشيعة وعرب وفرس، فيدرك أنّ المعركة بكلّ أدواتها الطائفية الإرهابية المتطرّفة تستهدفه هو ووحدته وحقوقه ومصالحه وحاضره ومستقبله، من المحيط إلى الخليج، ويدرك أيضاً أنّ الحلف المقاوم، وروسيا الداعمة له، هما موئل الخلاص الوحيد من هذا الاستهداف الأخطبوطي، الذي هو نتاج أبحاث وأفكار صهيونية جرى إنضاجها خلال عقود طويلة من الزمن، وأصبحت الوهّابية إحدى أدواته المعتمدة؟ هل تجمع الأمة على طريق الخلاص بعدما برهنت الأحداث معالم هذه الطريق الأكيدة يقيناً؟.
خيارات النضال وأولياته
خاتمة: نحو مشروع نهضة جديد
تجديد الحركة الوطنية المناهضة للصهيونية والرجعية العربية والامبريالية علي أسس صحيحة يتطلب مهام عديدة تحتاج لعمل دئوب وعزيمة قوية وجهود كبيرة تحقق الأهداف الآتية:
- إحياء الذاكرة الوطنية وفضح مفاهيم النيوليبرالية والتمويل الأجنبي ومخاطرها
- الدعوة المستمرة من أجل إعلام وطني فعال ومؤثر وملتزم بالحقائق
- مواصلة الدعم الثقافي لسوريا وحلفاء المقاومة ومواجهة حملات التشويه
- الخروج من مستنقع التبعية بأنواعها المختلفة للقوي الغربية والخليجية
- التحرر من الطائفية والمذهبية
- العمل علي ديمقراطية اجتماعية وسياسية حقيقية
- نشر مفاهيم العمل والاستهلاك المنضبط والتوازن بين ماهو شخصي وما هو عام
- العمل علي ربط السياسات الاقتصادية والاجتماعية بالسياسات الخارجية والتمسك الصارم باستقلال القرارالعربي والسيادة الوطنية
- استكمال القضاء علي الارهاب وبدء عملية البناء وتحقيق النموذج العربي في سوريا
- تشكيل ملتقي ثقافي عربي للعمل الوطني يضم فقط مثقفين أثبتوا من خلال مواقفهم الواضحة التزامهم بالقضايا الوطنية والاجتماعية والتنمية العربية المستقلة والمعتمدة علي العلم والتكنولوجيا المتقدمة
- تحديد المعالم الأساسية للنموذج العربي السوري
- لتأكيد علي سلاح المقاطعة ومقاومة التطبيع كوسائل شعبية فعالة تساهم في ربط قطاعات شعبية بالقضايا الوطنية.
[1] نشرت غالبية أجزاء الدراسة تحت عنوان:”وديعة لدى التيار المقاتل من أبنائها ومناضلي الوطن العربي” في كتاب: “القضية الفلسطينية في مئويتها الثانية من سايكس – بيكو…إلي الربيع العربي”، إعداد وإشراف فيصل جلول ورشاد أبو شاور، دار الفارابي، بيروت، 2018
المصدر: “كنعان اون لاين”