د. عادل سماره
كما أذكر في فترة الحكم الأردني كانت علاقات القوى السياسية ببعضها في غاية النزق، البعث والقوميون العرب نقيضين، القوى القومية والشيوعية على تناقض، وهما طبعا على تناقض مع أحزاب الدين السياسي وكل هذا كان لصالح السلطة بالطبع.
كنت في أواخر الحكم الأردني في المرحلة الثانوية في المدرسة وكل ما كان لدي تجاه الإخوان المسلمين وحزب التحرير الإسلامي أنهما لم يمارسا الكفاح المسلح وهكذا كان الحزب الشيوعي الأردني إضافة إلى مشكلة الاعتراف بالكيان. كنت في حركة القوميين العرب ومنظمتها المسلحة “ابطال العودة” ولكن لم أكن حساساً تجاه البعث ، رغم تناقض قيادتي الحزبين، ولا أزعم أن سبب هذه المرونة نضجاً فكرياً بل نضجا عملياً، حيث كان للبعث خلايا مسلحة.
بقيت الأحزاب الدينسياسية خارج الكفاح المسلح بعد هزيمة 1067 حتى عام 1989 أي بعد قرابة عامين على انطلاق الانتفاضة الكبرى عام 1987، أما الجهاد الإسلامي فكانت أسبق من حماس من حيث البداية.
وبدورها، فقط اطلقت الولايات المتحدة على حماس بعد ذلك تهمة الإرهاب في تعبير عن عدم الرضى عن أي سلاح بيد فصيل متدين، أو علماني طبعاً ، وبلا شك بهدف دفع قيادة حماس إلى لجم المقاتلين.
اذكر في عام 1992 ، إن لم تخني الذاكرة انني كتبت مقالاً طويلاً في جريدة القدس حينها رداً على التهمة الأمريكية لحماس بعنوان :”حماس ليست إرهابية بل الولايات المتحدة هي الإرهاب”. لم أكن أعرف اي شخص من حماس المقاتلة ولكنني إهتديت لهذا الموقف عبر فهمي للصراع ضد الثورة المضادة. وماذا نريد من حركة سياسية غير أن تقاتل؟
ما فاجئني أن رفيق يساري التقاني بعدها وخلال الحديث عرَّجنا على حماس فقال لي: أعتقد أن مقالك عن حماس “مش وقتو…ليْكون صاير حماس”!. لم أقف طويلا عند “النصيحة” ولكن قلت له يا رفيق ، هذه أمريكا وبلغة اليسار الإمبريالية فهل يُعقل أن نصمت تجاه توحشها!
أذكر بعد مشكلة الانقسام أن حاولنا إقامة تجمع وطني عام رافضاً لاتفاقات أوسلو. كنا نلتقي في بيت الراحل بسام الشكعة حيث كان ممثلين عن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وعن الجبهة الديمقراطية وفتح الانتفاضة، والجهاد الإسلامي وبعثيين ومستقلين وكتبنا أنا و الراحل د. عبد الستار قاسم كراسة المشروع. ورغم أن حماس كانت موافقة إلا أن ممثلها لم يحضر معظم اللقاءات ولكن التجمع لم يتبلور. بعدها اتفقت أنا وبسام على كتابة رسالة إلى حماس باقتراح شكل معين من السلطة في غزة بمعنى أن تشكل حماس مثلث التحالف التاريخي في غزة ليضم الإسلاميين والاشتراكيين والقوميين لتشكيل كتلة وطنية تقاوم وتبني، وخاصة أن غزة تحت الاحتلال والدمار والفقر والحصار. ولكن لم نتلقى اي رد. وفي اعتقادي أن السبب هو القيادة الرأسمالية التجارية التقليدية هي التي رفضت ذلك.
بقي موقفي من حماس كما هو، بأنها حركة وطنية/فلسطينية إسلامية، وقد حاولتُ دائماً الفصل قدر الإمكان بين قيادتها وقواعدها باعتبار القواعد مناضلين وطنيين قوميين ومتدينين معاً. وقد كتبت:
“اعتقد ان القوى الدينية وهي تمسك بخيط هام هو فهم دور الامبريالية والتصدي له، بمقدار ما تمسك بهذا، بمقدار ما تتطور علاقاتها الشعبية . فهي اذ تمسك بهذا الخيط تكون قد تعلمت من الشعب ما الذي يريده’ ولذا فهي مضطرة للتمسك بهذا الخيط ، باعتباره خيط النجاة . هذه حساسية وشفافية العلاقة بالشعب . التي يتطلب الحفاظ عليها حذرا وترقبا وسعة رؤيا واحتراما للشعب مستمرا ولا يخفى ان الموقف من الإمبريالية هو في جوهره موقف وطني قومي سواء توصل منظروا الحركة الاسلامية الى هذا الأمر ام لا فهذا لا يقلل من هذه الحقيقة.(أنظر كتابنا: الديمقراطية والإسلام السياسي واليسار الصادر عام 1994 ص 155).
واضفت “ما نعتقده هو ان هذا التيار سوف يدخل في صراع داخلي من جديد، ففي حين يميل الجيل القديم الى التعاطي مع انتخابات الحكم الذاتي محفوزا بمصالحه حيث ان الكثيرين من قياداته التقليدية هم من التجار واصحاب الأعمال ، فإن الجيل الشاب لن يوافق على هذا التوجه لا سيما بعد ان مارس دورا كفاحيا عاليا في مواجهة الاحتلال. … وهذا يخلق تناقضا بين الجيلين مما قد يدفع بالجيل الجديد اكثر صوب القومية وربما الى اشكال من الاشتراكية” (نفس المصدر ص ص 157-58 )
أساس هذا الكتاب محاضرة قدمتها في مؤتمر في جامعة بيت لحم كضيف طبعاً ، وللمفارقة أتت محاضِرة لطيفة وقالت لي:لماذا لا تقدم طلبا للعمل عندنا! شرحت لها، فأصرَّت فقدمت طلباً ولكنه وُئِد كغيره من الطلبات إلى مختلف الجامعات.
طبعاً رفض كثير من اليسار موقفي أو إستنتاجي هذا حيث رأوا إلى حماس على أنها لوحة واحدة بدون تباينات، وأعتقد أن هذا موقف غير ديالكتيكي يرفض قانون وحدة وصراع الأضداد، بل كثيراً ما مازحني رفاق بأنني اصبحت حماساً!
أقمت توقعي هذا على تجربتنا في حركة القوميين العرب التي بدأت حركة قومية كلاسيكية وانتهت إلى اليسار.
كما واصلت هذا التحليل لاحقاً في كتابي
The Political Islam Fundamentalism or Nationalist Struggle: A Materialist Critique 1995
حيث واصلت النقد للقيادة السياسية لحماس لصالح إستنتاجي بان القاعدة أكثر قومية من القيادة العليا، واقتطفت التالي من اقوال د. محمود الزهار: “إن العالم منقسم اليوم على اساس ثقافي، وإن هذه الأرض دينية بطبيعتها” (في حجازي حسين، مقابلة مع د. محمود الزهار، القائد السياسي لحماس، في قطاع غزة فلسطين، في دراسات فلسطينية العدد 20، خريف 1994 ص ص 87-97 ، مقتطف في كتابي أعلاه ص 91 ).
وعقَّبتُ بأن الزهار يتجاوز المسألة الطبقية والنظام الاقتصادي وانقسام العالم إلى مركز ومحيط . وفي رده على الموقف من الإمبريالية الأمريكية قال عام 1991:
” لا يوجد عداء بيننا وبين الغرب، نحن مثابة طبيب يعالج مريضاً هو الغرب”. (حجازي 1994 ص 92).
وكتبت حينها في كتابي نفسه: طبعاً هذا موقف لا قومي وأضفت هناك تناقضاً بين الجيل القديم والجيل الجديد في الإسلام السياسي، وهو موقفهم من القومية، ففي حين ان الجيل الجديد منخرط في النضال القومي ضد الاحتلال الإسرائيلي، فإن الجيل القديم يهاجم القومية العربية، بشدة، ويدعو للتصالح من الحكم الذاتي الفلسطيني، وحتى مع الولايات المتحدة. ص 96 من كتابي أعلاه.
يقول الزهار نفسه، ” أنا أعتقد بتهالك التجربة الوطنية العلمانية الفلسطينية، بأنها ستفشل، إنها شكل من القومية العربية” (ص 86 من كتابي ) منذ انتهاء الاتحاد السوفييتي لا مستقبل للقومية العربية، إن أول راية سقطت هي جنوب اليمن، بينما راية السودان ترتفع، تتساقط مختلف الرايات، مهزومة أمام إسرائيل، إن مسألة إنجاز مشروعنا مسألة وقت “(حجازي 1994 ص 92).
وواصلت انا في كتابي:
” ولكن، إلى أي مدى يمكن للجيل الجديد أن يتمكن من مواصلة الضغط على القيادة للحفاظ على هذا الموقف، أو لتجذير برنامجه، الاجتماعي ” (ص 94 من كتابي).
وأضفت: ” كلما زادت فعاليات عمليات حماس كلما إتسعت الفجوة بين القيادات التقليدية والكوادر الجديدة، فإما تُجسر أو تتسع. (ص 95 من كتابي)
واضفت والأمر كما يلي:
“يمكن جسر الفجوة بين القيادة والعناصر لأن على القيادة أن تُعلي من سقفها السياسي حفاظاً على موقعها القيادي”.
لقد ارتفع دور المقاتلين من حماس بشكل بارز خلال العمليات الاستشهادية، وهذا زاد من قناعتي بأن هذا التيار سوف يغير في دور حماس. لذا، حين اصدرت مجموعة من المثقفين بيانا يشجب العمليات الاستشهادية ضمن وثيقة او عريضة حملت تسمية بيان ال 55، المنشور في جريدة الأيام يوم 19 حزيران 2002 بعنوان “نداء ملح لوقف العمليات الانتحارية”، أخذت النص والأسماء ونشرتهما ملحقاً في كتابي
مثقفون في خدمة الآخرة بيان ال 55 نموذجاً، 2003 تاليف: عادل سمارة.
وحينما بدأ التحضير لانتخابات مجلس الحكم الذاتي عام 2006 زارني في مكتب كنعان السيد أبو سامر يقين والسيد أديب زيادة كي اشارك في الانتخابات ضمن قائمة من سبعة إثنين مسيحيين وخمسة مسلمين اكن أنا منهم مع ضمان نجاحنا. كان موقفي واضحاً بانني لست مع أوسلو، ومن المعيب أن اكتب ضد الاتفاق ثم أترشح! فالكتابة شاهد واضح بينما الكلام الشفهي بوسع الإنتهازي إنكاره، قال أحدهما ولكن نحن مشاركين بموجب اتفاق القاهرة بين الفصائل: قلت وهذا أتعس فهو بإشراف المخابرات المصرية. وفي النهاية قلت لهما: مشاركتي في الانتخابات تماماً كمن يذهب للمسجد وتحت إبطه زجاجة ويسكي! وقلت لهما ان الراحل د. درويش نزال عرض عليَّ الترشح معا في الانتخابات الأولى ،وهو من مؤيدي حركة فتح، ولكنني تأسفت له، وانتهى اللقاء ودياً بالطبع. لم اعرف بالطبع إن كانت المشاركة في الانتخابات الثانية للحكم الذاتي هي خيار القيادة التقليدية أم خيار كل حركة حماس ولكن المشاركة أكدت تراجع تأثير الجيل الجديد المقاتل..
المهم بقيت علاقتي بحماس ضمن ما طرحته أعلاه، وفي عام 2008 عقدت جمعية إسلامية في رام الله دورة تثقيفية في عشرة جلسات لأكثر من عشرين إمرأة، كان ذلك في مقر لها قرب معمل عرق رام االله قدمتها مجموعة من الكتاب، وطُلب مني أن اقدم محاضرتين بخلاف بقية الزملاء قدمتها طبعاً مجاناً. وبعد التقييم لما كتبته النسوة أتت امرأة وسألتني :كيف ورقتي. كانت محجبة تماماً. قلت: وهل انت من الفريق؟ شعرت هي بالحرج، فأكملت: يا محترمة على الأقل يجب أن أتأكد من شخصك.
حينما أعلنت حركة حماس في أوائل شهر آب ،2009 أن على المحاميات لبس غطاء الرأس في المحاكم، وذلك بعد الإنقسام، تذكرت هذا . وفيها تساءلت من الذي يحق له التدخل في لباس امرأة، وكتبت مقالة في كنعان الإلكترونية (. أنظر، عادل سمارة ، قمع المرأة : مدخل لفتنة تنهينا ولا تنتهي، رسالة إلى الإخوة في حماس،. كنعان النشرة الإلكترونية، السنة 289 التاسعة، العدد ،1980 6 آب أغسطس ) وطبعاً هوجمت كثيراً من حماس. وطبعاً لم يؤثر هذا في موقفي من المستوى النضالي لحماس.
أذكر حينما حصل الانقسام، قلت في ندوة في مركز باسيا بمدينة البيرة ضمن معظم الحركة الوطنية، بأن الانقسام لن يُرتق، واتهمت بالسوداوية.
خلال معظم سنوات فترة الانقسام صرت بين عدم صحة تحليلي الطبقي من حيث تنافس الجيلين في حماس، أو قدرة القيادة التقليدية على حسم الموقف لصالحها، أو تخلي الجيل الجديد عن مواقفه المتقدمة قوميا ووطنياً! وخاصة بعد حصول الربيع الخريفي العربي 2011 وتورط عناصر من حماس بموافقة قيادتها التقليدية في حرب الاستشراق الإرهابي ضد سوريا رغم أن سوريا كانت الوحيدة التي استضافت حماس ويبدو أن تلك القيادة أُخذت بانتمائها الدينسياسي وبتوهمها من خلال تركيا أن النظام السوري سيسقط في اشهر.
كما أن تصالح حماس مع سوريا منذ ثلاثة أعوام، ايضاً لم يغير قناعتي بأن الخط التقليدي قد إنتصرعلى الجيل الجديد رغم مواصلة نضال الجيل الجديد ورغم غياب كثير من القيادات التقليديةعن الصورة مثل د. محمود الزهار، وخالد مشعل.
كان هذا إلى أن كان طوفان الأقصى الذي كشف عن سيطرة الجيل الجديد بجوهره الوطني الديني على القيادة والفعل مما أعاد الاعتبار لتحليلي الأول.
واليوم، وهذا الكتاب على أبواب المطبعة، تروج أخبار عن قادة حماس بأن حماس موافقة على دولة فلسطينية وهدنة خمس سنوات ومشاركة في “الدولة الفلسطينية” إن حصلت…الخ. وبما أن كل هذا داخل الكواليس، فليس من السهل القطع بموقف من دقته وصحته.
هنا يجد المرء نفسه بين المثقف المشتبك وبين المؤرخ! بين تحديد موقف مباشر مما يحصل وبين برودة التأجيل كما يفعل المؤرخ. ولكن ما يمكنني قوله بأن هذا التناقض التناحري يؤكد أن مختلف الحلول المطروحة من حماس أو الثورة المضادة إنما هي من قبيل المسكِّنات إلى أن يُحسم التناقض التناحري هذا والذي بمنطوق التاريخ لصالحنا.
لذا، وضعت هذه المقالة ملحقا في كتابي الذي سيصدر قريبا : “غزة…لا …معتصماه” هكذا وصلنا المساكنة. لأن الكتاب تحليل نقدي في مناخات حصول المساكنة، وهو بالطبع قراءة للموقف العربي شعبيا ورسميا من طوفان الأقصى وعدوان الكيان، هو قراءة من منظور عروبي.