ماذا أقصد بالعروبة؟ ربما لا يعني البعض، هذا شأنه إنما: هل حقاً“مش وقته”!
د. عادل سماره
“لعل هذا يقنع كثيرين بأن ينشغلوا فيما يؤمنون به وليس في فرض رأيهم على غيرهم بقرار لا حوار”
حين يسألك البعض ماذا تريد أو يسأل غيرك عنك ماذا يُريد فلان؟، فإن لهذا عدة احتمالات:
إما رفضه لما تفكر وتلتزم به وبالتالي هو استنكاري ومضاد
أو شخص التبست عليه أفكارك ومواقفك فيستفسر،
أو لديه ثقة مطلقة بما يفكر به وبالتالي: من أنت حتى لا تتطابق معه
أو هو مبهور بموقف ما ويَعْجَب كيف تكون أنت ناقداً له أو مختلفاً معه…الخ، فهو ملك المعرفة.
بل هناك عديد التفسيرات.
من الطبيعي حين يشتد التحدي لقناعة المرء أن يذهب أحد مذهبين:
اختبار قناعته وصولاً إلى تطويرها
أو الدفاع عنها بناء على قناعته بها.
هذا في مناخ التفكير الحر وتوفره ذلك لأن الأنظمة بطبيعتها تركز على حصر حرية التفكير بيدها فتفتح الصنبور قليلا أو أكثر. وهذا دور السلطة أو الدولة بمعنى ان لها “حق” احتكار السيطرة على المجتمع، وهو أمر لا إنساني بامتياز لأنه على الأقل طبقي. ولذا وصل ماركس إلى وجوب إلغاء الدولة بعد نضوج المرحلة الاشتراكية بينما قفز الأنارخيون/الفوضويون إلى وجوب الإلغاء المباشر للدولة.
وبعيداً عن هذا النقاش، ونحن في الوطن العربي الكبير، ولكن القتيل، ابعد ما نكون حتى عن بلوغ مرحلة رأسمالية متقدمة بعد، فإن التدخل في تفكير الآخر أصبح، وخاصة مع السوشيال ميديا، أمراً شائعاً شعبياً كما هو رسمي. وحينما تكون هناك هيمنة لموقف سياسي أو لأطروحة فكرية يصل أتباعها من المواطنين إلى الشعور الدولاني السلطوي وهو التدخل في تفكير الآخر وقمعه الأمر الذي يُريح السلطة من عبء القمع المباشر. والتدخل هنا لا يعتمد باب الحوار والنقد بل التشنيع والأحكام.
ما ساد في الوطن العربي منذ هزيمة 1967 أي بعد هزيمة التيار القومي العروبي هو التيار القطري/الإقليمي سواء على مستوى السلطات أو الكثير من الأوساط الثقافية وحتى التعليم المدرسي والجامعي. وبمرور العقود، وتراجع القوى القومية والشيوعية في الوطن الكبير وتفريغ الساحة لقوى الدين السياسي نشأ احتكار عجيب قد يتخيل البعض أنه صدفة، وهو ليس كذلك:
أولاً: أنظمة قطرية تؤدلج بأن كل قطر هو أمة قائمة بذاتها، يخدمها مثقفو الطابور السادس الثقافي كمثقفها العضوي وتستفيد من توظيف مواقف شيوعيين عرباً ضد القومية العربية مرتكزين على مقولة تُنسب من حيث الدارج ل ستالين بينما هي نصاً من العلماء السوفييت مضمونها أن الأمة العربية في طور التكوين.
الفقرة التالية رد العلماء السوفييت على الشيوعيين السوريين:
“يجب اخذ مميزات الامة كما صاغها ستالين ، هناك ميزة ليست متوفرة وهي: الاقتصاد المشترك . لم يقل ستالين : السوق المشتركة، بل الاقتصاد المشترك . … تعبير (الأمة العربية الواحدة) الان ليس موضوعيا ، يمكن الكلام عن: الشعب العربي. (من كتاب ص 135:قضايا الخلاف في الحزب الشيوعي السوري دار ابن خلدون، ص 135- سنة الإصدار مفقودة لكن المتن يبين انه في منتصف الستينات).
يستند النص على غياب الاقتصاد المشترك، وهو على اي حال ما يفرض السوق المشتركة، لكن كاتبي النص لم يسألوا أنفسهم: لماذا غياب الاقتصاد المشترك؟ أليس لأن هذه الأمة قيد الاستهداف منذ ثلاثة قرون أي ان الغياب ليس اختيارا، وهذا ما يكرسه الغرب والقطريون في الحيلولة دون تطور هذه السوق باحتجاز التطور، وإن حصل ما يسمى تطوراً فيأخذ منحيين: الهلوشة من هنا أو هناك، أو تطوير اللاتكافؤ بين البلدان العربية كي لا تتكامل.(أنظر : تطوير اللاتكافؤ في الوطن العربي، عادل سماره في مجلة المستقبل العربي العدد 197- تموز 1995 ص ص 16-28).
ثانياً: تُحالفها في ذلك قوى الدين السياسي لأنها تزعم وجود أمة إسلامية وتنفي وجود أمة عربية ولهذه القوى مثقفها العضوي في الشيخ من هذه الطائفة أو تلك إضافة إلى ظهور انظمة دينية في بلدان مثل إيران.
ثالثاً: وتدعم هذه وتلك الإمبريالية بما هي الأكثر مصلحة في تفتيت الوطن الكبير مدعومة بأبحاث ومراكز دراسات وخاصة دراسات الشرق الأوسط في جامعات الغرب وجامعات عربية.
رابعاً: وفي الخلفية إما تكمن أو تشارك، ولكن الأكثر استفادة دولة الكيان الصهيوني.
أمام هذا الاحتكار، سواء متحالفة أطرافه جميعها بوعي أم لا، يصبح انشغال الكثيرين في اليومي من السياسة ونفورهم من الأعمق اي المتوسط أو الإستراتيجي.
وهذا الانشغال، وهو لا تاريخي بالطبع، لا يرتقي إلى ملاحظة حتى التاريخ القائم، إن صح التعبير بأن القائم أو الجاري هو تاريخ، وخاصة ما وصلت إليه الأنظمة القطرية العربية في قيام العديد منها بالحرب على أقطار أخرى في ذيل الإمبريالية ولصالح الإمبريالية! وتدمير أقطار عربية وازنة وإخراجها من التاريخ، مثال العراق وسوريا، ناهيك عن ليبيا واليمن. أما مصر فقد تم إخراجها من التاريخ بمفاعيل داخلية أكثر منها عدوان مباشر من أقطار عربية أو احتلال غربي. لنلاحظ اليوم، تركيا لا تحتاج احتلال كامل سوريا حيث توظف الخليج لصالحها، بينما في عام 1957 حاولت احتلال سوريا فحمتها مصر، وعليه، فإن العروبي هو الذي يسأل :أين مصر اليوم؟
وهنا، تقع مشكلة كاتب أو مفكر أو مثقف يتناول هذه التطورات بمجموعها ويضعها في قالب آخر هو القالب الشامل للتطورات بناء على قانون هام في الديالكتيك، كثيراً ما يهمله العديد من المفكرين وهو “قانون الترابط الشامل”، بمعنى أن الأحداث والتطورات هي مترابطة شئنا أم ابينا وبالتالي علينا اخذها بترابطها لا أن ننحصر في جزئياتها.
هذا المدخل الذي وجدت غالباً طوال عملي السياسي والتنظيمي أن عليَّ اعتماده، ولكنه جند كثيرين ضدي. لماذا؟
لأن الترابط الشامل يعني أخذ كل حدث وموقف ذات أهمية وتحليله واتخاذ موقف منه، وبالتالي يقف اصحاب مواقف ضد طرحي لآنني أخالفهم أو أنقدهم أو حتى أطرح غير ما يطرحون، وأحياناً اشعر كأن البعض يقول لي:إكذب أو لا تكتب لأنك نقدت دولة، نظاماً ، حزباً أنا أرى حتى أخطائه صحيحة! نعم وصلنا إلى هنا ! ولعل هذا يذكرني بما كتبه الشاعر الراحل معين بسيسو:أنت إن نطقت مُتْ، وإن صمتت مُتْ، قلها ومُتْ”.
إن ذكر أخطاء أو جرائم اي طرف ليس من باب المتعة أو التشفي أو الاستعراض، بل من باب التربية النظيفة للجيل القادم كي يقف على أرضية حقيقية ووعيها ليبني حالاً جديداً! ومن هنا لا يكون النقد متعة أو نهشاً أو تحقيراً بل واجباً وخدمة.
وهذا لا يفتح فقط على رفض هؤلاء لحرية الفكر بل يفتح على دكتاتورات فُرادى يشعرون بأنهم ملوك وحين نضع هذه الأطروحات على السوشيال ميديا بالتعدد الملاييني لمستخدميها، نجد أننا أمام جيوش ممن يكتبون بوعي وبلا وعي بأناملهم أو بأقدامهم، من عقولهم أو من عقول موجهيهم…الخ. ومن بين هؤلاء نجد فريقاً يقول في رفض طرح غيره: “مش وقته”! ويجري تعميم الحكم المعيار على كل ما لا يوافق موقفه مما يكشف عن ديكتاتور صغير في داخل العديد من الناس.
فيما يتعلق بالنقد، فلا وقت محدد له، لأنه يمشي مع الزمن والزمن لا يتوقف. يمكن للزمن الفردي أن يتخيل وقوفه الذاتي، وهذا إن صح، ولن يصح، لا ينطبق على الزمن الإنساني العام. فالنقد حوار والحوار ليس حرباً حتى نحكمه بالتكتيك.
لهذا ولغيره، وجدت أن التمسك بالعروبة والدفاع عنها والترويج لها ضرورة مُلحَّة لتجاوز الأزمة التي حلت بهذا الوطن.
وهذا أثار البعض ممن تراجع إلى مقام التخارج لصالح هذه الدولة الأجنبية أو تلك بعضهم لأنه استدخل الهزيمة فصار “طنيباً” على هذه الدولة أو تلك. وأنا أربا بأن اكون متخصصاً ضد هذه الدولة أو تلك بكل هذه البساطة والتبسيط الخبيث والمهزوم، ولكنني لا أحترم ولا أمحض كلمة شكر إلا لمن يُقاتل في ومع فلسطين حين يتعلق الأمر بفلسطين على سبيل المثال.
معيب وله رائحة تزكم العقول سلوك أولئك الذين يستثمرون في دم شعبنا دون أن ينزف أحدهم بعض العرق. وبصراحة حادة، لا أستطيع احترام اي إنسان اينما كان يرى ما يجري من مذبحة وبإهانة وفظاعة ليأخذ الوضع والصورة إلى التزلف لأي بلد كائناً من كان.
قد يشعر البعض بأن هذا القول شديد الحِدَّة! ونقول:لا هو الصدق يفرض نفسه. كيف لا؟ فحينما ترى على الشاشات عالمياً مئات الجثث تُسحب من تراب المدافن الجماعية كما لو كانت قُمامة، وترى نساءً يصرخن صراخ الوجع المتحدي وشباباً ينزعون صاعق صاروخ أمريكي لم ينفجر زِنَته 1000 كغم من العطوووور! وهو من آلاف الصواريخ التي ألقيت على شعبنا بدءاً من المقاتلين وصولا إلى الأطفال.
وتجد حينها مثقفين يتصيدون منك كلمة لا تمدح دولة ما أو تعتب عليها او تنقدها!
هذا بصراحة مشهد سوريالي، أو تشاهد قائد دولة صديقة لا تشارك في القتال وهو يقول كلاماً يستحيل تطبيقه: “إن على كل المسلمين أن يقفوا مع غزة”! وكلاماً من آخر يستحيل تصديقه: “إن الشهيد قاسم سليماني أعاد الحياة للمقاومة”!! قد يبدو هذا الكلام عابراً، لكنه يزرع في الأذهان خصوصاً إذا ما تم ضخه وتكراره على مدار الساعة بما أن جوهره غمط تضحيات المقاومة العربية منذ قرن وكأن هذا الوطن وهذه المقاومة كانت غائبة أو مستسلمة أو متواطئة! أعلم أن هذا النقد الخفيف يزعج البعض، ولكن ، يا عزيزي، أنت لست الأمة حتى أُعليكَ على انتمائي لها وخدمتي لها.
يمكن له قول ذلك، ويمكن لنا رفض ذلك، ولكن لا يجوز لأحد القول عن ما يكتب غيره: “مش وقته”.
أما الأخطر من كل هذا فموقف 57 دولة عربية وإسلامية في الركوع للسعودية فلا ترى ما يجري في غزة ومع ذلك لا يوجد سوى البعض من فهم حجم هذا الخنوع الخطير.
وبالطبع هناك أنظمة قاتلت مع الكيان وخاصة تركيا والإمارات والسعودية، بينما قطر قاتلت في سوريا ومولت في فلسطين! أما إيران فمولت المقاومة وتمولت من العراق وعلى من يرغب أن يتابع الاقتصاد قبل أن يصرخ! وسوريا سلحت بينما تعلن إيران أنها لم تسلح. أما بقية الأنظمة العربية ففي معسكر التواطؤ، والمقاومة واليمن وحزب العمامة يقاتلون بالدم والمواطنون يُقتلون كما لو أنهم هوام. هذا هو المشهد! ألا يزعجك؟ هل يعقل أنك مرتاح إلى هذا الحد!
ينقسم الناس في قراءة لوحة من لا يقاتلون إلى فرقٍ لا ناجية اياً منها. فيرى البعض أن مجرد طرحها هو أمر خطير يثير الانقسام، لكنهم لا يرون الانقسام على الأرض! ويرى البعض أن مجرد لوم إيران وسوريا هو موقف ضد إيران ولا تحرجهم مشاركة النظامين والجزائر ايضاً في تسييد السعودية على الجميع! قل تقل لي للدول حساباتها. نعم صحيح، ولكن المثقف المشتبك لا يرتبط بدولة اياً كانت بل يرتبط بالطبقات الشعبية ويدفع الثمن بل ويتحول إلى حالة “صيد طراد مقدس” من كثيرين يصلون به حد التخوين، فقط لأنه لم يمدح نظام كذا!.
من جانبنا، نرى الأمر في نقطتين:
الأولى: ان التحليل النقدي يؤسس لصد التخارج الانتمائي ويمنع توسيعه
والثانية: يؤسس لإعادة النهوض العروبي لأننا بموجب مسيل الدم لن يحرر الوطن إلا عرباً.
وهذا يستجر، وخاصة هذه الفترة، ردوداً وتعقيبات وشتائم ضد كل العرب ويخلط الحاكم التابع بالفدائي! وهذا حال من المقرف الرد عليه ومن المؤذي تركه على رَسْله. فهو في أفضل أحواله هُراء اُناس ضد أمتهم والزعم بدونيتها، وهؤلاء ذوي عقول لا تاريخية وحيت يتم حشوها باستدخال الهزيمة تقدم لنا ليس داعشاً واحدة بل طبعات داعشية متراكبة مع قومية وماركسية وشوفينية…الخ.
بالمقابل يدهشني حقاً مشهد طالبات وطلاب من جامعات امريكية تقيدهم الشرطة لأنهم مع فلسطين ويخرجون بالكوفيات رافعين رؤوسهم/ن إكباراً لدم المقاومة، بينما يهرف مثقفين وأكاديميين عرباً وفلسطينيين ضد العروبة ويقولون لولا كذا لضاعت سوريا وفلسطين…الخ. وكأن الجيش العربي السوري والمقاومة مجرد طحالب.
لن اشرح طويلاً لأن توضيحي هذا موجه لمن يقرؤون الكتب والمقالات الموسعة وليس لمتابعي التغريدات الخفيفة التي تُشوِّه ولا تبني لأن ضرر هذه أكثر من نفعها إذا ما حصر المرء نفسه بها. بل لقد أوصلتني التغريدات إلى أنها تنفخ كثيرين ليصل البعض إلى اعتبار نفسه ملكا لا يُناقَش وبالتالي أنت مُدان لأنك لست مثله!
باختصار، العروبة هي مشروع نهوض عبر بلورة إطار كفاحي ثقافي اجتماعي سياسي اقتصادي نفسي قومي ومقاوم لمواطني الوطن الكبير هم/هنَّ بكل من فيه وليس العرب فقط، باستثناء الكيان الصهيوني. وعلى ضوء الحال الراهن الهالك لهذا الوطن، فإن العروبة كما نطرحها هي مثابة فرش فكري توعوي نقدي يُضيىء وبشكل خاص يكشف الجوانب والأعمال الغامضة والخبيثة التي تستهدف العروبة ويتم تمريرها الأمر الذي يجعل منها ألغاماً تنفجر لتدمير هذا المشروع وهو في بواكيره. إن الهجوم على العروبة اليوم هو الأخبث لأنه يخشى أن يكون فيها شريان قد نجا من القطع مما يثير رعبه وحُنُقه.
الهجوم على العروبة أو إنكار وجودها هو تبرعات ذهبية للكيان الصهيوني لأنه الأدرى بأن مصيره معلق وينتهي بالوحدة العربية. ولذا، فكل من يقتلع فلسطين من عمقها العربي يخدم العدو حتى لو كان بريئاً وساذجاً.
والعروبة كما أرى ليست الأطروحات القومية القديمة للبعث القوميين والعرب والناصريين، وليست ضدها أو نقيضها، بل تطوير لها وبالتالي هذه العروبة تقف نقضاً وضداً لأي طرح شكله قومي وجوهره قطري، وضد اي طرح قومي برجوازي يكرِّس الفكر والممارسة الطبقية الاستغلالية للطبقات الحاكمة/المالكة التي تُعيق التنمية وتعيق الوحدة.
العروبة هي تعبير عن المصلحة المادية المعيشية الكراماتية للطبقات الشعبية في كامل الوطن الكبير في الوحدة والتحرر والتحرير وصولا إلى الاشتراكية أو اي نظام اجتماعي اقتصادي ثقافي نفسي أرقى من الاشتراكية على تنوع المدارس الاشتراكية.
لذا، موقفي هو مقاومة لصالح العروبة، دفاع عنها وليس هجوما على غيرها إلا بمقدار تبخيسه لها. نعم، أنا أُساهم قدر طاقتي في تكريس هذا المشروع كي يتبلور في حركة سياسية تنظيمية على صعيد كامل الوطن الكبير، ولا أتوهم أنني حامله الوحيد ولا الاقدر على تجسيده تنظيميا وحدي، وقد لا ابقى حتى يتبلور.
لكن لهذا الهدف بل عليه الكثير من الواجبات وبالتالي الكُلفة، لأنه مشروع دفاع ومقاومة عن هذا الوطن في مواجهة كافة اشكال التناقض معه سواء المباشرة أو غير المباشرة بل إن غير المباشرة أخطر لأنها تمشي تسري من تحت الجلد إلى أن تخترقه فتظهر عليه كتقرحات خطيرة.
لن أُطيل بعد، ولكن اُضيف لكل من ينتقد سلبا أو إيجاباً ما أطرحه أن: على مهلك، أرجو أن تسحب تلك العبارة المزعجة:” يا أخي هذا ليس وقته”!
لا يوجد وقتاً محدداً للنقد، لأن الناقد نبيّْ وعليه ان لا يكذب أهله. وحينما ينقد المرء موقفاً ما، فليس شرطاً أنه عدو لذلك الموقف فربما يهدف وقف خلل ما قبل أن يصبح مستعصياً على التغيير.
كثير ممن يقولون ليس وقته يتصرفون، غالباً بلا وعي بأنهم يعتبرون هذه الأمة قاصرة عقلياً، ولذا فاي نقد أو توضيح هو عمل تخريبي أو خروج على موقف حاكم أو كاتب يرون أطروحاته مطلقة الصحة، وهذا بصراحة يقين العجائز.
النقد بتعبير شعبي هو البحث عن “البناشر” في الأطروحات وسدَّها أو نقض الأطروحة بمجملها والرد عليها بأفضل.
وببساطة، أنظروا للغرب والكيان: لماذا يتم نقد السلطة أو الجيش حتى وهما في الحرب! بينما نحن نرفض نقد هذا الحزب أو تلك الدولة في مطلق الأحوال! بل حتى وهي ربما تخون!
أختم بملاحظتين:
الأولى: كيف أثق بشخص، كاتب، مثقف، حزب، إعلامي، محلل.. الخ لم يبدأ منذ صباح 7 تشرين/أكتوبر بدعوة الطبقات الشعبية العربية لحرب الشعب ضد الأنظمة لأنها وقفت ضد 7 تشرين! لماذا يصمت هؤلاء وينتظرون حتى تسمح الأنظمة ببعض هذا، وهي لن تسمح؟ ثم يقول البعض ” يا اخي مش وقته” . وأقول هنا ان في تاريخ حياتي سلسلة لا تنتهي من “مش وقته” ومع ذلك كان وقته وأكثر، وثبتت صحة العديد من مواقفي. بل إن الذي “مش وقته” هو العزوف عن النقد لأسباب عديدة منها سطحية التفكير، الخبث، الارتباط بالوظيفة أو الأعطيات، الانغلاق الطائفي أو العقيدي وأخطرها الخيانة القومية…الخ.
والثانية: اذكر عام 1979 حيث طُلبت إلى مخابرات الكيان الصهيوني في رام الله، ومنذ دخلت الغرفة رأيت على طاولة في زاوية الغرفة كومة من الأوراق وبجانبها نسخة من مجلة “البيادر الأدبي” التي كنت من مؤسسيها وتُطل منها ورقة. فهمت لماذا طُلبت فالأكوام هي ما كتبت..
قال: إنتي شو بدِّك؟
قررت التلاعب به،
قلت: أنا! لم أحضر أنتم طلبتموني!
قال: اسمع ما تتخوَّث، شو بتفكر.
قلت: وأشرت بإصبعي إلى المجلة، هذا، وإذا بقيتم هنا بعد ثلاثين سنة ستعرف ما أريد.
قال: ولكن كل الفلسطينيين لا يحبونك،
قلت: أنا لا اتقيد بآراء التعصب الفصائلي بل يهمني الناس.
قال: قوم انصرف.
كنت قد كتبت في عدد تلك المجلة أن مشروعنا هو حزب شيوعي عروبي لا يتبع للسوفييت ولا للغرب ليحقق الوحدة والتحرير والحرية والاشتراكية. وبالطبع، من كان يجرؤ ألا يمدح السوفييت حينها! ودفعت ثمن ذلك وسقط السوفييت، وأنا بكيت، بينما الذين هاجموني ولقبوني “اليسار الأسود” Black left، تخلوا عن الماركسية، ويعودون إليها مؤخراً كاسم وليس كمضمون. وأتحدى إن كان على الأقل فلسطينياً اي تنظيم يؤكد اليوم وعياً ونضالاً أنه ماركسي – لينيني. أما أنا فبقيت كما أنا وعروبي ايضاً بل وقبل الماركسية. هذا مجرد مثال على وقته وما أكثرها.
ملاحظة: يتضمن كتابي الجديد قراءة 1994 لقاعدة حماس الوطنية/العربية/المتدينة ساشير إليها مرتكزاً على تغييرها الموقف من أسفل إلى الأعلى ما تأكد يوم 7 تشرين وهذا نمط العمل الثوري الحقيقي.