الهمس بصوت مرتفع : الأردن بين براثن التغيير الإقليمي
بقلم : د. لبيب قمحاوي*
إن وقوع الأردن بين براثن التغيير الإقليمي ومحددات وضوابط وقيود التحالفات التقليدية التي لا يمكن تجاوزها دون المخاطرة بأمن البلد ، بالإضافة إلى الإنفراد والتفرد في الحكم ، قد تكون بمجملها مسؤولة بشكل مباشر عن ضُعْفِ الخيارات أمام الأردن وعن الأزمات التي يعيشها .
التحديات المتفاقمة التي يواجهها الأردن الآن إبتدأت تنتقل في آثارها من حدود القلق الشديد على مستقبله وإستقراره إلى حدود الخوف على وجوده وبقائه . وفي حين أن المعطيات القائمة حتى الآن لا توحي بوجود قرار أو نية للتخلص من الأردن سواء كدولة أو كنظام ، إلا أن ما يجـري قد وضع الأردن على الطريـق المؤدي لـذلك فيما لو إستمرت الأمـور بالتفاقـم وعلى نفس النهج .
ومع أن البعض قد يميل نحو لوم النظام لما وصلت إليه الأوضاع من سوء ، إلا أن الحقيقة تبقى بأن ذلك قد يشكل فقط جزأً من الصورة الحقيقية ، وأن باقي الأجزاء هي بيد الإخوة العرب وأبناء العم المسلمين وغيرهم ممن يتم تصنيفهم بالحلفاء القدامى أو التقليديين للأردن . وقد يُجادل البعض بأن هذا أمراً متعارفاً عليه في السياسة ، وهذا صحيح ، إلا أنه نادراً ما يصل إلى حد تهديد الوجود عِوضاً عن تهديد المصالح . وقد يُجادل البعض الآخر بأن هذه غمامة وستزول ، وهذا أيضاً صحيح ، ولكننا على أبواب ترتيبات مع عـدو لا يـرحم ، وهو إسرائيل ، وصفقات سيكون لها آثاراً دائمة ومدمرة على مصالح الأردن والمنطقة العربية بشكل عام . وهذا العدو لا يُؤْتمَن جانبه ولا يجوز أن نتوقع منه شفقة أو رحمة ، كما لا يجوز أن نسمح له بلعب دور الصديق أو الحليف في سياسات إقليمية ، أو أن يكون الحَكَمْ في خلافات بين الأشقاء .
إنقلاب الحلفاء التقليديين قد يأتي ولأسباب مختلفة أهمها قد يطفو عندما يتقدم طرف جديد بعرض خدماته بدرجة أعلى وبتكلفة أقل . فمثلاً إذا قررت دولة مثل المملكة السعودية أن تعرض صداقتها وتحالفها على دولة عدوة مثل إسرائيل دون أي تكلفة تذكر على إسرائيل علماً أن السعودية أكبر واقوى وأغنى من الأردن ، فإن إنتقال إسرائيل في تحالفاتها الإقليمية نحو السعودية قد يصبح قضية وقت ، خصوصاً إذا ما كانت مواقف السعودية الإقليمية منسجمة مع مصالح إسرائيل الاستراتيجية مثلاً في عدائهما لإيران . أما الخلافات العربية – العربية مثل الخلاف السعودي – الهاشمي على الوصاية الدينية على الأماكن المقدسة في القدس فإنها تأتي في هذا السياق كأمرٍ تـُرَحِّب به إسرائيل كون أسس الخلاف ليست سياسية وإنما عائلية وأنانية وضيقة مثل نقل تلك الوصاية من الهاشميين إلى السعوديين ، مع أن هذا الموضوع قد لا يعني شيئاً للكثيرين ربما بإستثناء الهاشميين والسعوديين أنفسهم . ومثل هذا الخلاف لا يُكـَلـِّف إسرائيل شيئاً بل على العكس يجعل منها حَكَـماً بين الإخـوة العرب ، وتصبح إسرائيل بذلك قادرة على منح تلك الوصاية لمن تريد وتحجبها عن من تريد .
المسار السعودي الجديد يشير إلى رغبة واضحة تهدف إلى إعادة صياغة السياسة السعودية ودورها الإسلامي الإقليمي والدولي وربط ذلك بمسارٍ إقتصاديٍ جديدٍ للعقود المقبلة . وحتى تكتمل رؤيا السعودية لنفسها في هذا الدور ، يتوجب عليها شطب أي منـَافَسَةٍ لها في تلك المجالات . وهكذا يصبح الهاشميون بالنسبة للسعوديين تماماً مثل أتراك آردوغان وملالي إيران ، أعداءً لشرعيتها ووصايتها الإسلامية العامة . ونظراً لأن النظام السياسي في بعض الدول الاسلامية ما زال يَعـْتـَبر الدين والوصاية الدينية هي أساس شرعية الحكم ، فإن الخطة المستقبلية للسعودية لا تسمح لأي منافسة في هذا المجال وتـَوَد أن تحتفظ بتلك الشرعية لنفسها فقط دون أي مُنافس . والواقع أن أمريكا وإسرائيل لا ترى في ذلك أية مشكلة لأن إقصاء الهاشميين عن هذه الوصاية وإعطائها للسعودية سوف يشكل مزيداً من الإبعاد عن القدس للفلسطينيين اللذين تربطهم بالأردن وَشَائـِجاً لا تخفى على أحد والجميع يعترف بخصوصيتها . والأردن ، على أية حال ، لم يـَقـْبـَل بما جرى للقدس والاعتراف الأمريكي بها كعاصمة لإسرائيل ، ولن يقبل به علناً بل ولا يستطيع حتى لو أراد ذلك .
الأردن لا يريد معاداة السعودية في حين أن السعودية لا تمانع بمعاداة الأردن . ومن الواضح أيضاً أن الأردن لا ينوي أو يخطط لمنافسة السعودية على ما تملكه ، في حين أن السعودية تسير في اتجاه معادٍ لذلك ومناقض له . ويبدو أن المسار الجديد للسعودية يضع الأردن من خلال الهاشميين في مصاف الأنظمة التي لا تحظى بالرضا والقبول في أفضل الحالات ، ولا تتمتع بصفات الصديق بل وتقترب من صفة العدو خصوصاً في مسعى العائلة السعودية الرامي إلى الحلول مكان الهاشميين كأوصياء على الأماكن المقدسة في القدس .
إن الإنفاق السعودي السخي الذي جرى مؤخراً في القدس وعلى بعض المقدسيين لم يسبقه إنفاقاً سخياً مماثلاً للحفاظ على عروبتها وتحريرها ، وما يتم الآن من قبل السعودية يهدف في الحقيقة إلى فرض الوصاية الدينية السعودية على القدس وليس تحريرها . وهكذا تبدأ صفقة القرن الأمريكية في الكشف عن وجهها القبيح من خلال العمل على إعادة رسم أدوار العديد من الدول العربية كشركاء لإسرائيل فيما يجري التخطيط له لإغلاق ملف القضية الفلسطينية ، ولكن دون المساس في كل الأحوال بالدور الإسرائيلي وبالمصالح الاسرائيلية . والجهد السياسي السعودي الهادف إلى شيطنة إيران وإلى إعادة تأهيل إسرائيل من عدو إلى حليف استراتيجي ، يأتي مترافقاً ومتكاملاً مع مشاريع وخطط إقتصادية جديدة تهدف إلى خدمة وتسهيل المسار السياسي “لصفقة القرن” .
فمشروع “نيوم” السعودي بأبعاده الإقتصادية الهائلة وتغطيته السياسية الموسعة كونه يشمل عدة دول عربية ، يهدف بالنتيجة إلى لعب الدور الذي لعبته بعض دول الخليج في استيعاب ذيول وتبعات نكبة 1948 ووفرت فرص العمل لمئات الآلاف من الفلسطينيين . ومشروع “نيوم” هو التجسيد الاقتصادي للأهداف السياسية “لصفقة القرن” والتي تهدف إلى جعل العرب يدفعون ثمن تلك الصفقة بالنيابة عن إسرائيـل ، مما يعني أن “صفقة القرن” ستعطي إسرائيل المكاسب صافية دون إلزامها بدفع الثمن أو بـِتـَحُّمل تبعات تلك الصفقة ولو جزئياً .
إن الأخطار المحيطة بالأردن الآن هي محصلة عوامل داخلية وعربية وإقليمية نادراً ما تجتمع في وقت واحد وفي إتجاه معين . ولكن عندما يتم ذلك فإن تلك العوامل تشكل خطراً مُحْدِقاً لكل من يجد نفسه إما خارج إطارها أو متعارضاً مع مسارهـا ، وهـذا ، على ما يبدو ، ما يجرى للأردن الآن .
الصمت الأردني الرسمي الحالي والناتج غالباً عن الضعف وعن الإحساس بالضياع اللذين يُرافقان فقدان الدور التقليـدي والحلفاء التقليديين والدعم التقليـدي ، كل ذلك يضع صانع القرار الأردني في دوَّامة يعود معظمها إلى إنفراد الحاكم بالقرار ، الأمر الذي يسمح للآخرين بممارسة الضغوط عليه بسهولة أكثر فيما لو كانت عملية إتخاذ القرار مؤسسية ترتبط بقواعد جماهيرية واطارات دستورية . وهكذا ، تدور الدولة الأردنية الآن حول نفسها دون أن تملك نقطة بداية أو نقطة نهاية بعد أن تم إفراغ كافة مؤسسات الدولة الدستورية من أي مضمون حقيقي وتم تجريدها من إستقلالها وولايتها الدستورية وتم تجميع كل ذلك في مؤسسة العرش دون معرفة الأسباب الحقيقية الموجبة لذلك حسب ما ينص عليه الدستور عند طلب إجراء أي تعديل دستوري .
إن إنفراد الحكم في الأردن في عملية إتخاذ القرار وإبتعاده عن الشفافية والتواصل مع الشعب ، قد أفقده القدرة على الإعتماد على التفهم والدعم الشعبي ، خصوصاً في الأزمات ، مثل تلك الناتجة عن قطع المساعدات عن الأردن وإغراقه في مستنقع العجز المتفاقم ، وارتفاع الأسعار والضرائب والمديونية مما جَعَلَ الشعب يتصرف من منطلق أن السبب في كل ذلك هو الحُكـْم وتفرده وسياساته الغامضة والفساد الشرس ، متناسين ، أو غير راغبين في إستشراف المزيد من الأسباب الحقيقية وراء تلك الأزمات .
لقد سمح الأردن لنفسه ، على مر العقود الماضية ، بأن يتحول إلى دولة إقتصادها مبني على المساعدات والإستجداء خصوصاً بعد أن تمت خصخصة استثماراته الوطنية وسُمـِحَ لمجموعة من المسؤولين أن يتولوا تلك العملية وأن يغتنوا من خلال التلاعب بعملية الخصخصة وعوائدها . لقد أضعف هذا الوضع الأردن وسحب منه قدرته على المناورة وجعله قابلاً للإنحناء وأحياناً الكسر أمام الضغوط والعواصف .
وهكذا وفي ظل تزايد التحديات والأخطار على الوطن الأردني ، يتساءل الأردنيون بإستمرار عن الحكمة من وراء عزل الشعب وإبعاده عن الانخراط في الحياة السياسية والتأثير الفعلي في حلقات القرار السياسي ، والإصرار على إضعاف مؤسسات الدولة الدستورية والإنفراد في عملية إتخاذ القرار . التفسير الوحيد لذلك يتلخص في أن النظام يريد الإنفراد في الحكم وفي عملية إتخاذ القرار وأن يفرض على الشعب تحمل تبعات سياساته وأخطائه دون أن تتم محاسبته . ولكن هذا من شأنه أن يخلق فجوة ملحوظة في التواصل بين الشعب والنظام لا يـُعَوِّضها لقاءٌ هنا أو غداء عمل هناك مع مجموعة صغيرة مختارة من المتقاعدين سواء السياسيين أو العسكريين أو كبار الموظفين ، أو الإصرار على تقديم المكرمات والمنح الموسمية لشراء الدعم والتأييد المؤقت .
التواصل المطلوب هو تواصل مؤسسي دائم وعابر للأجيال والمناصب ويسمح بالأخذ والعطاء والقبول والرفض والمحاسبة والمساءلة ، ويفرض ما يلزم من ضوابط على عملية إتخاذ القرار وما قد يتمخض عنها . إن إستمرار عملية إتخاذ القرار المصيري كأمرٍ فرديٍ بيد شخص واحد بغض النظر عن تبعات ذلك القرار على الملايين من المواطنين يبقى أمراً مرفوضاً حيث أن الروابط والمصالح الوطنية أو القومية أو الدينية غالباً ما تنسحب أو تختفي أو تـُسحَقْ أمام رغبات الفرد الحاكـم المتسـلط .
* مفكر وسياسي
2018 / 03 / 14