لماذا تقدم الكيان الصهيوني وتأخرنا يا ترى؟
عميرة أيسر
بالرغم من أن الكيان الصهيوني هو كان سرطاني قد تمَّ غرزه في جسد الأمة العربية لتقسيمها ومنع التحام وحدة دوله القطرية، وذلك بعد أن أيقن الاستعمار الغربي بأن دوله، لا محالة سوف تأخذ استقلالها عنه، بعد تغير المعادلات الجيواستراتيجية الدولية، بعد نهاية الحرب العالية الثانية، وتراجع دول الاستعمار التقليدي المتمثلة في بريطانيا وفرنسا، وبروز قوى جديدة فاعلة تقاسمت النفوذ في منطقتنا العربية على مدى نصف قرن، ولكن هناك سؤال يطرح الكثير من العرب، ألا وهو لماذا تقدم الكيان الصهيوني، وتأخرت الدول العربية يا ترى؟
صحيح بأن الكيان الصهيوني قد عملت الدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، على تقويته وتطويره و حمايته سياسياً، واقتصادياً وعسكرياً، ولكن على العكس من دولنا تماماً، التي عجزت الأنظمة السِّياسية فيها طوال عقود عن بناء مجتمعات حضارية ومنتجة ثقافياً وعلمياً ومادياً، بل ركزت هذه الأنظمة على نشر التخلف والجهل والأمية وتقديس الحاكم، ونشر التدين المحرف المغلوط، وإفقار شعوبها ونهبها، للبقاء لأطول مدة في الحكم، والتجارب التاريخية قد أكدت بأن هذه الأنظمة القمعية التسلطية، لا ترحل إلاَّ عن طريق الانقلابات العسكرية، أو الانتفاضات الشعبية، فهي في معظمها أنظمة قبلية أو عشائرية أو عسكرية، أو ملكية أو طائفية للأسف الشديد، وهذا ما جعلها تركز على ترسيخ مفاهيم الولاء للفرد أو الجماعة الحاكمة، بدل الولاء للوطن والأمة والشعب.
عمل الكيان الصهيوني الغاصب على بناء كيان مؤسساتي يقوم على تكريس مبدأ المواطنة، حتى وإن كانت خاصة بالمواطنين اليهود دون سواهم في معظم الأحيان، ولكن في تل أبيب هناك نظام ديمقراطي تعددي، حيث من حقِّ الجميع أن يختاروا من يحكمهم، دون ضغط أو أكراه من أحد، ودون وجود عمليات تزوير فاضح في نتائج الانتخابات الرئاسية أو البرلمانية، كما يحدث ذلك دائم في دول العالم العربي،أو لنقل في معظمها.
بالإضافة إلى أن الكيان الصهيوني يوجد به قضاء مستقل، لا يخضع للابتزاز أو المساومة السِّياسية عندما يتعلق الأمر بالتحقيق في قضايا فساد داخلي، تورط فيها كبار المسئولين المتواجدين في أعلى هرم السلطة، و سجن أيهود أولمرت رئيس الوزراء السَّابق، وقبله موشي كتساف رئيس الكيان المحتل، و فتح تحقيقات أمنية معمقة قد تطيح برئيس الوزراء الحالي بن يامين نتنياهو مؤخراً تبين مدى الجدية والصرامة التي يتعامل بها القضاء الصهيوني، مع قضايا الفساد السّياسي والمالي في تل أبيب. وهذا لا ينفي إطلاقاً بأن نفس هذا القضاء هو من يحاكم المتعلقين، من أبناء الشعب الفلسطيني بالسجن ولسنوات طويلة، ويمنع عنهم حتى الزيارات العائلية، وحتى تلقيهم العلاج المناسب في مستشفيات الاحتلال الصهيوني، وهؤلاء بالنسبة لتل أبيب ليسوا يهوداً، ويعتبرون أعداء بالنسبة لهم. وبالتالي لا تشملهم قوانين هذا الكيان المجرم والعنصري.
وبالرغم من أن الكيان الصهيوني قد قام على القتل والذبح، وارتكاب المجازر الجماعية وتهجير مئات الآلاف من المسلمين، والمسيحيين العرب من أراضيهم التي استولى عليها، ولكن إسرائيل عملت على بناء منظومة تعليمية وصحية، وتكنولوجية وعسكرية متطورة، و استقدمت الخبراء والعلماء اليهود من مختلف أصقاع الأرض ومنحتهم امتيازات خالية، فأصبحت جامعاتها تحتل المراتب الأولى في منطقة الشرف الأوسط، ومراتب متقدمة في التصنيفات العلمية، والأكاديمية البحثية العالمية، كجامعة تل أبيب التي تحتل المرتبة الأولى في الشرق الأوسط، والمرتبة 165 في التصنيف العالمية لسنة 2018م، ومتواجدة بصفة دائمة ضمن تصنيف أفضل 500 جامعة على مستوى العالم، بالإضافة لجامعة القدس التي تحتل المرتبة 2 في الشرق الأوسط، والمرتبة 195 عالمياً.
وعلى المستوى الصحي تعتبر المستشفيات في إسرائيل، متقدمة جداً بالمقارنة مع نظيراتها في الدول العربية، بل بعضها مثل مستشفى رمبام الحكومي في مدينة حيفا شمال إسرائيل، وهي المنطقة الجغرافية التي بلغ عدد سكانها 2 مليون نسمة في المتوسط، والذي تأسس سنة 1938م في عهد الاحتلال البريطاني. هذا المستشفى الذي عالج فيه حوالي 500 ألف شخص من سكان تلك المناطق، منذ افتتاحه حتى مطلع هذا العام، حاصل على جائزة نوبل للطب، بالإضافة عدد لا يحصى الاختراعات والابتكارات الطبية، والعلاجية المسجلة باسم طاقمه الطبي.
أماَّ على مستوى التقدم التقني والعلمي والتكنولوجي، فهي تحتل المرتبة 3 في الشرق الأوسط في هذا المجال، ويولي الكيان المحتل اهتماماً بالغاً بالتعليم، حيث يوفر كل سبل الراحة المادية والمعنوية لأساتذته. حيث يبلغ متوسط راتب الأستاذ هناك 2500 دولار شهريا، وتحتوي مدارس وجامعات الكيان الصهيوني على أحدث المناهج التعليمية والدراسية في شتى المجالات ومناحي التعليم، بما يضمن اطلاع طلاب الكيان الصهيوني على أحدث ما توصلت إليه أساليب التعليم الحديث في العالم.
وتولي تل أبيب أهمية خاصة للصناعات العسكرية والحربية، وتعتبرها من أهم فروع الاقتصاد الإسرائيلي، ومن أهم مصادر الدخل بالعملة الصعبة، حيث تبلغ صادراتها من الأسلحة حوالي 6.5 مليار دولار سنوياً، وتعتبر إسرائيل من أهم الدول المصنعة والمصدرة لطائرات درونز المسيرة منذ سنة 1985م، ومن ضمن الدول المستوردة لطائرات الدرونر هناك دول غربية مصنعة للأسلحة مثل فرنسا، وروسيا، بالإضافة إلى كوريا الجنوبية.
وبحسب ما ذكرته صحيفة واشنطن بوست، فإن المنظومة العسكرية الصهيونية، عملت على إنتاج وتصدير مختلف أنواع الأسلحة، بما فيها الدوريات الحدودية الروبوتية، ومنظومة آرو الصاروخية الدفاعية، والصواريخ الحرارية الموجهة، وأقمار التجسس الصغيرة، بالإضافة لدبابات الميركافا، وهذا ما يجعل الصناعات العسكرية الإسرائيلية، في تقدم وازدهار دائم لأن تل أبيب استطاعت أن تدخل السوق الدولية، وبقوة وتنافس الكبار في هذا المجال على عكس دولنا العربية التي تستورد معظم أسلحتها من دول الغرب.
ولأن فلسطين المحتلة تعتبر تاريخياً وحضارياً أرضاً مليئة بالآثار التاريخية، والدينية والثقافية ومحجاًّ لأتباع الديانات السَّماوية الثلاث، فإن وزارة السِّياحة الصهيونية عملت على استغلال والترويج لذلك، في مختلف دول العالم، وهذا ما سمح للوكالات السّياحية الحكومية والخاصة في إسرائيل، بجلب حوالي 4 مليون سائح سنوياً، و الذين يأتي معظمهم لزيارة حائط البراق المقدس، أو معلم الرابي شمعون، أو كنيسة السيَدة مريم العذراء أو المسجد الأقصى المبارك.
ولهذا استثمرت تل أبيب الملايين من الدولارات من أجل بناء بنية تحية هيكلية تستوعب هذا الكم الهائل من السّياح الأجانب، فقامت بناء أكثر من 900 فندق على طول منطقة القدس- تل أبيب- إيلات، مع التكفير مستقبلاً في بناء ناطحات سحاب في منطقة الجولان السوري المحتل، وبناء مدن ثقافية و تكنولوجية متطورة، لزيادة مداخيل الكيان من العملة الصعبة، وتقوية الاقتصاد الإسرائيلي.
فالتطور والتقدم التي يحظى به الكيان الصهيوني لم يأتي من فراغ، وإنما بفضل إستراتيجية تنموية نهضوية ورؤية استشرافية، عملت على إعادة بناء المنظومة السّياسية والاقتصادية والفكرية الثقافية للكيان ككل، واهتمت المؤسسة المجتمعية بالفرد في إسرائيل على جميع الأصعدة والمستويات، على العكس من دولنا العربية التي ينخرها الفساد والرشوة، والبيروقراطية والطائفية، والتي تعمل على تهجير المواطنين قصراً من أوطانهم، وتهمش الكفاءات المبدعة وتدمرها، وهذا ما أوصلنا إلى القاع، وأصبحنا محل سخرية من جميع الدول والشعوب بالتالي.
*كاتب جزائري