جمعة الناجي: المقاوم المثقف الصلب العنيد الميداني ألمبدأي
رشاد ابو شاور
عرفته منذ حوالي خمسين عاما، وتأكدت معرفتي به في دمشق، تحديدا في مخيم اليرموك، وجمعت بيننا رفقة في الأفكار والخيارات والتوجهات، وصداقة أسرية أعتز بها.
على مدى عقود طوّر أبو الناجي من ثقافته ووعيه، ومضى على طريق فلسطين بوضوح لا يحتمل أي التباس، وتصدّى لكل الحجج والمبررات التي تبرر التقاعس بحجة الظروف، وتعقّد المسار، واشتداد الهجمة على الثورة الفلسطينية، لأنه آمن دائما بأن قضيتنا العظيمة لا ينهض بها إلاّ رجال ونساء عظماء، تلهمهم فلسطين بدروسها وثوراتها وانتفاضاتها وعظمة شعبها وضوح الرؤية والعزيمة على مواصلة الطريق مهما صعبت، ومهما بغى الأعداء والمتواطئون، وأصحاب المصلحة في وأد قضية فلسطين حتى لا تبقى ملهمة لملايين العرب، ومحركا ومفاعلاً للوعي وروح المقاومة التي لا تنطفئ حتى يتحقق الهدف الأسمى والأعز والأعظم: تحرير فلسطين.
لم يرتبك أبو الناجي ولم يبدّل ويغيّر عندما هبّت رياح خطاب التسوية على الساحة الفلسطينية، تحديدا بعد حرب تشرين 1973، وبقي ثابتا على عهد فلسطين، ولم يتمكن دعاة ومروجو خطاب التسوية من زعزعته، واستدراجه، وإغوائه، فبقي مع من صانوا عهد فلسطين، ورفضوا تزوير وعي الشعب العربي الفلسطيني، وتضليل الجماهير العربية بحجّة اختلاف الظروف، وتعقيدات الواقع، رافضا ارتهان مسار قضية فلسطين لقدرات من أمسكوا برايتها، واختاروا نهج التنازلات والتسويات مع عدو لا يمكن أن يتنازل عن شبر من أرض فلسطين إلاّ مرغما وبالقوة، وهذا ما أثبتته مسيرة أوسلو التي ضيّعت الأرض وتوّهت الشعب، ومكّنت الاحتلال من سرقة الأرض والهيمنة على الاقتصاد، وزج الألوف من الرجال والنساء والأطفال في سجون الاحتلال، وحوّلت الأرض الفلسطينية في الضفّة نهبا لقطعان المستوطنين.
هناك محطات كثيرة في حياة شعبنا برز فيها مناضلون مقاومون تصدّوا لخطاب التنازلات المبارك رسيما عربيا، والذي دفع بالقيادات الفلسطينية للانخراط في مسار التسوية الذي سمي تضليلاً بمسار السلام، حتى بولغ بوصفه بأنه (سلام الشجعان).
جمعه الناجي حافظ على وعيه بثقافة ثورية عميقة أصيلة منتمية، وهو دائما اختار الانتماء للجماهير، ولم يسع للصفوف الأولى.
حين اهتز إيمان بعض الأخوة والرفاق، فسوغوا لأنفسهم الانحراف لقاء المنصب والحياة المريحة، فإنه واصل بعناد واع، ورغم قلة عدد من حافظوا على إيمانهم فإنه بقي قابضا على جمرة فلسطين في مقدمتهم، ولم يصرخ من الوجع والوحدة، بل عمل على بث الأمل والإيمان والثقة بأن فلسطين ستتحرر، وأن جماهير الأمة العربية لن تخذلها بالتخلّي عنها.
اختار جمعة الناجي لابنه البكر اسم ناجي تيمنا باسم الفنان الكبير الثوري الشهيد ناجي العلي، وهذا الأمر لم يكن صدفة، فهو خيار، وهو بقي مخلصا لناجي وما مثله كفنان ثوري جماهيري إنساني تقدمي.
لقد جسد جمعة الناجي دائما سلوك وبسالة المثقف الثوري الميداني الذي لا يتخلّى عن دوره وسط الجماهير، فكان نموذجا حيّا على المثقف العضوي.
تابع أبو الناجي ما تصدره الحركة الثقافية الفلسطينية والعربية، وراقب ما يطرح من أفكار، وانخرط في الحوار دائما، منافحا عن عروبة القضية الفلسطينية، وواجه عمليات الخلط والتعمية التي هدفت دائما إلى عدم تمكين الجماهير من القدرة على التفريق بين العدو والصديق.
عمل أبو الناجي دبلوماسيا لمرة واحدة..وأين؟ في أفغانستان حيث الموت والفوضى والاقتتال، وهيمنة قوى الرجعية والتخلّف والعمالة، وعندما تم الانقلاب على الرئيس نجيب الله بذل أبو الناجي أقصى الجهود لإنقاذه من حبل المشنقة، واستخدم ثقل حضوره كسفير لفلسطين حتى انتزع موافقة الانقلابيين الرجعيين على السماح له بزيارة نجيب الله في سجنه، والذي رأى في مافعله أبو الناجي مخاطرة بحياته، وقدّر له وللشعب الفلسطيني هذا الوفاء..والوفاء من أبرز صفات أبي الناجي.
في تونس عاد إلى الخارجية الفلسطينية التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية، وبقي لسنوات قبل أن يقرر التوجه إلى القاهرة حيث تقيم أسرته، وكأنه أدرك قرب النهاية، فاختار أن يرحل بين أفراد أُسرته.
بعد مغادرة قيادات وكوادر الثورة الفلسطينية وتوجهها إلى غزة ورام الله بعد أوسلو، رفض ابوالناجي هذه العودة، وواصل حياته مع من تبقوا في تونس، معلنا معارضته لأوسلو، محذرا من كارثيته.
عرف في تونس، في المدن التونسية، وبين التجمعات والقوى والأحزاب التونسية، رافعا راية فلسطين، مبشرا بفجرها، حاضا على تبنيها كونها قضية الأمة كلّها مشرقا ومغربا.
فجأة، ويا للأسف، تم بقرار فلسطيني رسمي إغلاق مكتب وزارة الخارجية الفلسطينية، فما عاد للمناضلين الفلسطينيين مكان يلتقون فيه، ولقد استدعي أبوالناجي إلى وزارة الخارجية التونسية – وهو من أخبرني بهذا مباشرة – وأبدى الأخوة التوانسة استغرابهم لإغلاق مبنى الخارجية الفلسطيني، ومن الأسئلة التي وجهت لأبي الناجي: هل هناك من ضايقكم؟ أأنتم عاجزون عن دفع تكلفة المكتب؟ إذا كان الأمر كذلك فنحن جاهزون لتغطية كل الاحتياجات. يجب أن تبقوا في تونس التي أحتضنتكم واحترمتكم والمنحازة لفلسطين شعبا ودولة وقوى سياسية.
ولكنها سياسة إنهاء حضور المنظمة خارج مناطق السلطة، واأسفاه!
لم ييأس أبوالناجي بعد إغلاق مكتب الخارجية الفلسطينية، فضاعف من نشاطه وحوله عدد من المناضلين الذين كانوا يرفعون علم فلسطين في كل مناسبة على امتداد أرض الجمهورية التونسية.
تنقل أبوالناجي في أرجاء تونس، مُحييا كل المناسبات الفلسطينية، مشاركا الأخوة التوانسة في كل احتفالاتهم، كاتبا في صحيفة الشروق المحترمة المقالات، ناشرا التصريحات والبيانات، وهكذا تحوّل إلى مؤسسة يؤازرها عدد من الفلسطينيين الذين بقوا في تونس، والمثقفين العرب والتوانسة الذين رأوا فيه رمزا صادقا واعيا شريفا يرفع راية فلسطين ويبشّر بنهوض الأمة.
لقد ملأ أبوالناجي الفراغ الذي تُرك في تونس بعد إغلاق آخر مواقع منظمة التحرير الفلسطينية، وهذا أمر عجيب حقا، فالاستيطان يلتهم أرض الضفة التي يفترض أن تكون أرض الدولة الموهومة، والرّد على وحشية الاحتلال يقتضي إعادة بناء مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية لمواجهة غطرسة العدوان ونهبه، وجشعه، وعنصريته،وعدوانيته وإدارته الظهر لكل الاتفاقات والوعود، وهذا ما يمارسه يوميا ويتجلّى قتلا وسجنا وهدما للبيوت ومصادرة للأراضي…
مهما تكلمت وحاولت أن أُعرّف بأبي الناجي وشخصيته وثقافته وانتمائه الصلب، فإنني حتما سأقصّر..ولذا فإنني أعتذر له.
وحتى لا أطيل فإنني أنبه إلى هذه الأمنية، من أجل التعريف بابي الناجي ومحطات حياته الكفاحية الثورية، وأتوجه بها إلى صديقي الروائي جمال ناجي، وناجي ابن جمعة وهو قاص وإعلامي ومثقف، أن يتواصلا بالطريقة التي يريانها مناسبة مع جريدة الشروق التونسية، ورئيسة تحريرها الصديقة فاطمة بن عبد الله كرّاي، حيث نُشرت عشرات المقالات والتصريحات والخطابات على صفحات الشروق، والعمل على جمعها وإصدارها في كتاب حتى يقرأها شعبنا، ويعرف من هو جمعة الناجي، وما هو فكره، وما هي ثقافته، وحتى تبقى أفكاره زادا ثقافيا ومعرفيا ووطنيا وقوميا.
قبل أيام ، وكالعادة، سارت الجماهير التونسية في شارع بورقية في قلب العاصمة التونسية، بمناسبة يوم الأرض، وكانت أيد تونسية تعبّر عن الوفاء لهذا المناضل المقاوم الكبير جمعة الناجي برفع صورته، بأيدي مثقفين وإعلاميين فلسطينيين وتوانسة ومن أقطار عربيّة.
لقد تكرّس أبواناجي قائدا ثوريا ميدانيا لمصداقيته وثوريته وميدانيته وأخلاقه العالية، ولوعيه ولتلمسه لكل قضايا أمتنا العربية من المحيط حتى الخليج.
صديقي ورفيق جمعة الناجي، أبوالناجي: خسارتنا برحيلك فادحة، خسرنا قائدا ميدانيا مجربا ملهما ترك أعظم الأثر حيثما عاش وتنقّل، من الأردن إلى سورية إلى لبنان إلى تونس إلى مصر…
خسرنا جديتك وعمق تحليلاتك ووضوحها..وخسرنا سخريتك اللاذعة من كل ما هو زائف في حياتنا، سواء أكان هذا الزيف أفكارا أو أشخاصا.
لقد رحل المناضل الوحدوي جمعة الناجي الذي حظي باحترام كل المناضلين الذين عرفوه عن قرب، ومن كل الفصائل والأحزاب والقوى السياسية الفلسطينية والعربية، والذين قرأوا كتاباته وتابعوا نضالاته، فأصالته لم تنقص يوما، بل ازدادت وتحولت إلى إلهام لكل من عرفه، أو عمل معه، أو رفعت يده مع يده علم فلسطين.
لروحك السلام يا أبا الناجي.
سنتذكرك فكرا وثقافة وأخلاقا وقيما ومثلاً عليا وصلابة ومبدئية تليق بفلسطين، وبانتمائك لأمتك العربية وللإنسانية وقضياها وكفاحها.
* كلمة الكاتب في حفل تأبين المناضل الكبير جمعة الناجي في رابطة الكتاب الأردنيين يوم الأربعاء 18 نيسان 2018
نشرة “كنعان” الإلكترونية
رحمه الله و أكرم مثواه..
وستبقى روحه بيننا وفينا ..خيارنا المقاومة
شاء من شاء وأبى من أبى.
اللهم آمين