المزالق المدمرة في الصراع الفصائلي (الحلقة الثانية )
د. خير الدين عبد الرحمن
كان يفترض أن تؤدي انتكاسة الثورة الفلسطينية في الأردن إلى مراجعة جذرية تتعالى الفصائل معها على الاعتبارات الذاتية والمصالح الضيقة والارتباطات المتعددة المتضاربة وتنصهر جميعاً في جسم مؤسسي واحد يلتزم خطاً استراتيجياً محوره التشبث بالمبادئ والأهداف الوطنية الجامعة ، لكن ما حدث هو تغطية تنافسها واختلافاتها بصيغ قيادية فوقية وتوافقات على اقتسام مقاعد ومخصصات وتوليفات مواقف سياسية لفظية في كثير من الأحيان ، بما لا يغضب قواعدها وتحالفاتها !
كثيراً ما جرى تبرير هذا آنذاك بأنه أفضل ( الممكن) في ظل توزع الشعب الفلسطيني ما بين الوطن المحتل والمنافي التي تخضع المقيمين فيها بدرجات متفاوتة لسياسات ومصالح ورغبات النظام الحاكم في كل منها . فمثلاً ، بينما كانت مصر قد تبنت سياسة محورها دعم حركة فتح وتكريسها قائداً للساحة الفلسطينية ، عقب أول لقاء بين الرئيس جمال عبد الناصر وعدد من قادة الحركة ، فإنها لم تتوانى عن تبني أو دعم تنظيمات صغيرة مثل منظمة فلسطين العربية وسواها ..
وبينما كانت سوريا الرئة الرئيسة للثورة الفلسطينية في سنواتها الأولى ، فإنها عمدت إلى تشكيل امتداد عسكري وتنظيمي عضوي لنظامها الحاكم وأجهزته في الساحة الفلسطينية هو طلائع حرب التحرير الشعبية (قوات الصاعقة ) بدعوى أن حزب البعث الحاكم حزب قومي وليس قطرياً ، وأنه قد جعل القضية الفلسطينية قضيته المركزية منذ تأسيسه . وفي المقابل أسس نفس الحزب الحاكم في العراق والمتصارع مع النظام الحاكم في سوريا جبهة التحرير العربية لنفس المبررات التي أعلنتها سوريا .
لم يخف التنظيمان طموح كل منهما في أن يصبح الفصيل المهيمن على الساحة الفلسطينية ذات يوم ، وكان لا بد لكل منهما أن ينتقد حركة فتح ويتهمها بتهم ثمة أساس لبعضها ، بينما لا أساس لكثير منها ، وأن يتحالف مع فصائل أخرى في مواجهة فتح عند الاقتضاء . ولعبت الجبهة الشعبية ( القيادة العامة ) المرتبطة عضوياً بسوريا ، ثم بليبيا إلى جانب سوريا ، دور رأس حربة في مواجهة حركة فتح في مراحل عديدة . أما الجبهة الشعبية التي اعتبرت نفسها المنافس الطبيعي لحركة فتح فقد تراوح توافقها التحالفي بين العراق وسوريا وليبيا والاتحاد السوفيتي وفقاً لتقلب المواقف والأوضاع والتطورات في الساحة الفلسطينية ، لكن تعامل قادتها التاريخيين جورج حبش وأبو علي مصطفى وأحمد اليماني ( أبو ماهر ) امتاز بالصدق مع الذات حتى في حالات التعارض والتصادم الحاد .. بينما ظلت الجبهة الديمقراطية تعتمد على مظلة حماية فتح لها في المرحلة الأولى لانشقاقها عن الجبهة الشعبية ، ثم استمرت في الحرص الشديد على عدم التصادم جديا مع فتح عندما راحت مواقفها وتحالفاتها تتعارض مع نهج ومواقف فتح ، ولو اضطرت إلى صلات تحت الطاولة معها تخفف من حدة تباين مواقفها السياسية أو مقتضيات علاقاتها الداخلية والعربية والخارجية مع مواقف فتح .
أدار ياسر عرفات العلاقات الفلسطينية الداخلية ببراعة في كثير من الأحيان مستخدماً تكتيكات ووسائل متعددة ليبقي الخيوط في يده ، فاخترق مثلاً كافة الفصائل بلا استثناء رابطاً بعض قيادات الصف الأول وما دونه بالمال أو الارتباط الأمني أو توفير الحماية أو دغدغة الطموحات الشخصية أو التلميع ، وكرس في الوقت نفسه علاقات صحية إلى حد كبير بين الوحدات الفدائية المقاتلة لمعظم الفصائل ، بحيث كانت تنسق في المعارك وتحمي بعضها بعضاً … كانت تلك براعة قيادية بالتأكيد في إدارة أوضاع مريضة ، لكنني تمنيت في ذلك الوقت لو كانت المعالجة أكثر جذرية بحيث تركز على توحيد الشعب وطاقاته البشرية والكفاحية في مؤسسة لا تبدد الصراعات البينية طاقاتها وجهودها بما يخفف الوطأة على العدو . كانت الأعذار المتداولة آنذاك أن الوضع العربي المتشرذم ينعكس على ساحتنا ويتدخل فيها ، بل ويعبث بها ، رغماً عنا وبما لا نملك منعه بمثل حسم الثورة الجزائرية مثلاً لمحاولات تدخل أجهزة الدولة التونسية أو المغربية فيها . وكثيراً ما ضرب بعض من ناقشتهم مثالاً واقعياً بالقول كيف لنا أن نوحد الامتدادين العضويين لسوريا والعراق في الساحة الفلسطينية عندما تكاد علاقات النظامين الحاكمين في البلدين تبلغ حد الصدام المسلح بينهما في أعقاب اغتيالات واتهامات متبادلة بالعمالة والخيانة ومحاولات انقلابية متبادلة وصولاً إلى حد أن توضع في جوازات سفر المواطنين السوريين عبارة ( يسمح بالسفر إلى كافة البلدان عدا العراق ) !
تجاوزت تأثيرات التشرذم والتدخلات الخارجية عبر بعض الفصائل المتعايشة حدودها التقليدية عندما نجح الاتحاد السوفييتي من ناحية ونظام أنور السادات من ناحية أخرى في إقناع عدد من القادة الفلسطينيين الفاعلين بالدخول التدريجي في لعبة التسوية السياسية مع العدو الصهيوني مما تجسدت بدايته المعلنة ببرنامج النقاط العشر ، وأهمها : إقامة سلطة وطنية فلسطينية على كل أرض يتم تحريرها ! دغدغ الحديث عن ( إقامة سلطة ) كثيرين وأغوتهم عبارة ( يتم تحريرها ) بحيث لم يقفوا عند سؤال هام : كيف سوف يتم تحريرها ، هل بانتزاعها من العدو قتالاً ، أم عبر صفقة تبادل بعض أرضنا بالتنازل عن معظمها ؟ ;
كان سؤال عبد الناصر لقادة فتح منعطفاً حساساًعندما التقاهم سنة 1968 : هل تمانعون في استعادة أرضكم التي احتلت سنة 1967 بالوسائل السياسية دون تنازل عن بقية أرضكم وحقوقكم ؟
كتبت وقلت آنذاك مراراً : نعم لأرض نجعلها جسراً نعبر فوقه لتحرير باقي أرض وطننا المغتصبة منذ العام 1948 ، ولكن حذار من تحويلنا بوعي أو دونما وعي إلى جسر تدوسه أقدام الغزاة الصهاينة لتهيمن دونما مقاومة تذكر على ما بين محيط العرب وخليجهم بذريعة أنهم لن يكونوا فلسطينيين أكثر من الفلسطينيين أنفسهم !
وللحديث بقية !
المزالق المدمرة في الصراع الفصائلي (الحلقة الأولى)
المزالق المدمرة في الصراع الفصائلي (الحلقة الثالثة )
المزالق المدمرة في الصراع الفصائلي (الحلقة الرابعة )