المزالق المدمرة في الصراع الفصائلي ( الحلقة الثالثة )
د. خير الدين عبد الرحمن
كثيراً ما راودتني أسئلة منطقية كلما حدث انشقاق أو احتدم صراع حاد تعدى الحوار الملتزم بالمبادئ والأهداف الجامعة داخل أحد مكونات الثورة الفلسطينية ، أو كلما تطور الخلاف بين الفصائل على موقف أو مسألة ما إلى استقطاب وتكتلات متصارعة لا تتورع عن اتهام بعضها بالخيانة أو العمالة وإهدار معظم الجهود والطاقات والإمكانات في صراع فلسطيني ـ فلسطيني بدلا من توجيهها جميعاً ضد العدو الثابت الواضح مغتصب وطننا ! من هذه الأسئلة :
ـ هل كان الانشقاق أو التمرد أو الصراع البيني ليحدث لو توفر داخل كل فصيل على حدة من ناحية ، وداخل الإطار الجامع الذي يفترض أن منظمة التحرير الفلسطينية تشكله من ناحية أخرى ، قدر عال من الإخلاص للمبادئ والأهداف الوطنية المشتركة وتغليبها على المصالح الفصائلية والشخصية ، وممارسة ديمقراطية سليمة ، ونضوج فكري لدى القادة والأعضاء ، واحترام متبادل كاف للحق في التفكير ، واعتماد لحوار موضوعي منزه عن المصالح الشخصية والفردية والفئوية ، وممارسة صادقة لجماعية القيادة داخل كل فصيل ، والتزام مخلص بموقف الأكثرية وبالبرامج والقرارات التي يتم التوافق عليها ، وحصانة كافية تجاه الاستقطابات والتدخلات الخارجية ؟
ـ أليست مدعاة تشققات وصراعات أن يستنسخ السائد في أكثر أنظمة الحكم والأحزاب العربية فيتم اختزال أكثر التنظيمات الفلسطينية بفرد في كل منها تضفى عليه صفات البطولة الخارقة والعبقرية الفذة بحيث يحتكر القرار عملياً إلى حد كبير ويتحول إلى صنم حي أبدي يجعل التنظيم ملكاً شخصياً له ويعتبر المناضلين في فصيله قطيعاً يروج له ويسبح بحمده ؟
ـ هل ينجح انشقاق أو تمرد أو تكتل مضاد إلا بوجود دولة أو عدة دول أو قوى خارجية تدفع إليه أو تتبناه وترعاه وتحميه وتموله ؟
ـ هل يعقل أن تتطور الخصومة السياسية بين فصائل فلسطينية يفترض أن يوحدها هدف تحرير الوطن إلى تعبئة عدائية متبادلة تبلغ حد اعتبار الخصم الداخلي أخطر من العدو الصهيوني ومحاربة بعضها بعضاً بأشد من محاربة العدو الصهيوني !؟
لقد شهدت الجبهة الشعبية انشقاقات وانسلاخات قبل محنة أيلول 1970 أبرزها انفصال الجبهة الشعبية ( القيادة العامة ) وانشقاق الجبهة الديمقراطية ، وعلى الرغم من إعطاء تلك الحالات مبررات عقيدية وفكرية وتنظيمية ، فقد أثبتت وقائع العقود اللاحقة أن تلك العوامل والاعتبارات كانت إلى حد كبير غطاء لنوازع فردية وتدخلات خارجية .
وبينما تفاخر العديد من قادة فتح الكبار طويلاً بأن الحركة غير قابلة للانقسام ، أثبتت الوقائع أنه ما من حصانة مطلقة ، وهكذا توالت الانقسامات والانشقاقات والشروخ فيها ، وكان بعضها كبيراً وخطيراً ودموياً ، بحيث لا يجدي الاستهتار بها أو التهوين من شأنها والمكابرة إزاءها ، ولا استسهال اتهام بعض رموزها بالعمالة والخيانة وما إلى ذلك . هنا أذكر وقائع أعمق من انسحاب د. عبد الله الدنان ورفاقه منذ إطلاق الكفاح المسلح ، وخلاف محمود مسودة (أبو عبيدة) وفتحي عرفات ورفاقهما مع أبي عمار ، وانسحاب عصام السرطاوي ومجموعته التي تحولت إلى الهيئة العاملة لتحرير فلسطين ثم عودته وإياها إلى الحركة . من تلك الوقائع التي عشتها شخصياً واحدة أواخر العام 1970 عندما دار نقاش واسع حول إصلاح الحركة وتثوير نهجها وقيادتها على ضوء محنة الثورة في الأردن . فقد كلفني بعض الأخوة وضع مسودة خط سياسي وبرنامج سياسي لاعتمادهما من قبل مجموعة من قادة الصف الثاني أجمعت على ضرورة إعادة البناء واجتثاث العوامل الداخلية التي سمحت بتلك المحنة . لمست أن المسألة تتعدى التحرك ضمن الأطر التنظيمية التي رأت أغلبية هؤلاء الأخوة أنها خاضعة لهيمنة من اعتبروهم المسؤولين عن أزمة الحركة وانتكاستها في الأردن . بعد تفكير عميق رأيت لإراحة ضميري أن أحاول إقناع أبي عمار باتخاذ خطوات إصلاح جذرية تلبي معظم مطالب واقتراحات هؤلاء الأخوة ، دون إشعاره بتحركهم أو بما توافقوا عليه . بدأت حديثي معه ببراءة مستخدماً أقصى ما لدي من ذكاء وحكمة وحرص لكي لا يلتقط ما يجعله يشك بذلك التحرك . سمعني أبو عمار مبتسماً طول الوقت ثم قال لي : ” يا أبو الخير هات من الآخر ، أنت تتكلم وفي ذهنك خوف على الحركة من الانقسام وأنا أحترم حرصك ، إنما خذها مني : لن يكن هناك انقسام .. الجماعة بتوع التحشيش الفكري اللي قاعدين يشاغبوا ويتفلسفوا ما فيش منهم غير الكلام … سيبك منهم دول ما بيعملوش حاجة ..” . لكن تلك الثقة المفرطة كانت في غير محلها ، فسرعان ما تلاحقت الهزات وصولاً إلى انشقاق صبري البنا وناجي علوش ، وانشقاق أحمد عبد الغفور ، ناهيك عن عدة حالات تمرد أقل شأناً ، وصولاً إلى الانشقاق الأخطر والأكبر ، فتح الانتفاضة عقب الخروج من لبنان في العام 1984.
قبل ذلك الحوار مع أبي عمار بأسابيع ، وتحديداً يوم 28/9/1970 ، رحت أقيم مع الأخ أبي السعيد (خالد الحسن) النتائج البائسة لمؤتمر القمة العربية الذي توصل إلى اتفاق بين الملك حسين وياسر عرفات ، وتوافقنا على مهاجمة نتائج تلك القمة، ولما قلت أنني سأنشر موقفه باسمه في عدد الغد من صحيفة فتح قال : لا .. لا .. إذا ظهر اسمي ستنفجر فتح إلى عشرين شظية على الأقل ! وجاءت وفاة عبد الناصر في ذلك اليوم فألغيت النشر ، إنما ظلت كلمات أبي السعيد تقلقني ، إذ أنه كان ممن تباهوا سابقاً بأن فتح غير قابلة للانقسام قبل أن ينذر بتشظي الحركة لمجرد إظهار اسمه لدى نشر موقف .. تكرر الأمر في سياق آخر أواخر السبعينيات مع أبي إياد ( صلاح خلف ) الذي كان هو و أبو عمار الأكثر تكراراً في خطاباتهما وتصريحاتهما وحواراتهما لمقولة أن فتح غير قابلة للانقسام ، فقد اشتكى يوماً بمرارة من تفرد أبي عمار وتهميشه أعضاء اللجنة المركزية ، فحاولت تخفيف مرارته على مسمع من أربعة أخوة ، رحل اثنان منهما عن دنيانا ولا يزال اثنان ، وإذ به يقول : ما دام أبو عمار لا يكترث فلنقسم الحركة بيننا ! فقلت :هل هي ورثة أم قطيع ؟
من جانب آخر ، بينما كان الخلاف الحاد بين النظامين الحاكمين في سوريا والعراق يؤثر بعمق على الساحة الفلسطينية ويجعل فصائلها مضطرة إما إلى الاصطفاف مع أحد النظامين أو السير الحذر على حبل مشدود ، جاءت فترة قصيرة جداً من تفاهم النظامين مواكبة زمنياً لعقد دورة للمجلس الوطني الفلسطيني في دمشق ، ووصلت معلومات بأن تفاهماً قد تم على تحجيم ياسر عرفات وحركة فتح في منظمة التحرير لكي يهيمن تحالف بين الصاعقة وجبهة التحرير العربية وفصائل أخرى تعارض برنامج النقاط العشر الذي تم تمريره في دورة سابقة للمجلس بالقاهرة سنة 1974. أقيمت غرفة عمليات قادها عبد الحليم خدام وطارق عزيز وزهير محسن وعبد الرحيم أحمد في فندق ميريديان الملاصق لمقر اجتماع المجلس الوطني الفلسطيني في مقر اتحاد نقابات عمال سوريا ، وتوالت معلومات بأن هذه التحالف قد ضمن من الأصوات ما قد يسمح بتحقيق هدفه ، إلا أن مناورة ياسر عرفات في الجلسة الأخيرة التي كان يفترض إجراء انتخابات اللجنة التنفيذية فيها قد أجهضت التحرك المضاد باعتراض عرفات على دعوة رئيس المجلس خالد الفاهوم إلى بدء عملية الترشيح والانتخاب قائلاً إن اللجنة التنفيذية ـ التي وصفها بأنها أنجح لجنة في تاريخ المنظمة والأكثر انسجاماً وإنجازاً ـ لم تتقدم باستقالتها وبالتالي لا يجوز إجراء الانتخاب .. سرعان ما ساد الهرج والمرج وانطلقت أناشيد وهتافات معظمها من مراقبين وإداريين ومرافقي قادة فتح ، أبرزها ( غلابة فتح يا ثورتنا غلابة ) .. وبدا أن صداماً حاداً سوف يقع، فبدأ عدد من الأعضاء المستقلين يغادرون القاعة تباعاً نأياً بأنفسهم ، وبات واضحاً أن التحرك الذي خطط له خدام وعزيز قد فقد أصوات الأعضاء الكفيلة بإنجاح خطتهما ، وهنا غادر القاعة أكثر الأعضاء فاضطر رئيس المجلس إلى إعلان انتهاء دورة المجلس وبقاء اللجنة التنفيذية على حالها ! حاورت زهير محسن في ذلك الجو معاتباً ومحذراً من انهيار الحد الأدنى من التوافق الذي يحفظ وحدة الساحة الفلسطينية ، فكرر القول إن أبا عمار هو الذي دفع الأمور إلى هذه الحافة الخطرة . عدت وناقشت تلك التجربة المرة وسواها مع زهير مجدداً في حوار صحي على امتداد ساعات قبل ثلاثة أيام من اغتياله ، بعدما كانت الظروف قد اختلفت بانهيار التفاهم العابر بين دمشق وبغداد ، فتحدث عن تدخل اعتبارات وعوامل غير فلسطينية على امتداد مسار القضية الفلسطينية .
قال لي السفير السعودي في باكستان سمير الشهابي في العام 1981 :” لقد تضخمت قوتكم كثيراً بما لا يمكن للمعادلتين الدولية والإقليمية أن تتحمله . صار عندكم صواريخ وطيارين وطائرات وقوة بحرية وألوية وشبكة على امتداد العالم . طبعاً أنتم لن تقبلوا بالعودة طوعاً إلى الحجم الذي تتحمله المعادلتان الدولية والإقليمية ، ولذلك صار لا بد من عملية جراحية تعيدكم إلى الحجم المقبول دولياً وإقليمياً..” ، سألته على الفور : ” هل تقصد بالعملية الجراحية اجتياحاً لجيش العدو يقوده أرئيل شارون ؟ ” ، فأجاب : ” هذا هو الحل الوحيد ، فقد قاتلكم الجيش الأردني ، والجيش اللبناني ، والجيش السوري ، والميليشيات المسيحية اللبنانية ، لكنكم كنتم تخرجون من القتال أقوى في كل مرة لأنكم تستنفرون شعبكم والشعوب العربية إلى جانبكم . ” .
تم طرح (مبادرة) لإنهاء الصراع العربي ـ الصهيوني نسبت إلى الأمير ( الملك لاحقاً ) فهد بن عبد العزيز ، بينما كانت المعلومات تؤكد أن إدارة الرئيس الأمريكي ريغان قد وضعت خطوطها وصياغتها لتجريع العرب قبول التعايش مع الكيان الصهيوني والتخلي عن المطالبة بأربعة أخماس أرض فلسطين التي احتلها الغزاة الصهاينة في العام 1948 ، بل وحتى عن أجزاء من باقي الأرض التي احتلها الصهاينة في العام 1967! كان طبيعياً أن ترفض تلك ( المبادرة ) من قبل قوى الثورة الفلسطينية والشعب الفلسطيني عامة ، إضافة إلى العراق وجبهة الصمود والتصدي ( سوريا ، ليبيا ، الجزائر ، اليمن الديمقراطية ، منظمة التحرير الفلسطينية ) .
لكن ياسر عرفات والعديد من قادة فتح رأوا أن الرفض المطلق سيؤدي إلى تدخل عسكري صهيوني لتصفية قوات الثورة الفلسطينية بدعم أمريكي وصمت عربي ، وأن من الحكمة المناورة في التعامل مع هذه المبادرة ، حدث هنا استقطاب حاد في الساحة الفلسطينية . عقد مؤتمر قمة عربية في فاس لإقرار المبادرة ، لكن اعتراض دول عربية قوية واعتراضات عدة فصائل فلسطينية أوصلت نقاش القمة إلى طريق مسدود ، وتصرف الملك المغربي الحسن الثاني على نحو غريب إذ لم يعلن انتهاء أعمال القمة كما جرت العادة ، وإنما أعلن تعليق اجتماعاتها إلى موعد آخر . عاد أبو عمار إلى لبنان وراح يحذر يومياً بجملة مشهورة : ( قمة فاس ستكون لنا ضربة في الرأس ) ! وبدأ يعدّ قواته لمعركة باتت حتمية ، متوقعاً أن جيش العدو الصهيوني سوف يجتاح جنوب لبنان لمسافة أربعين كيلومتراً ، وأن الميليشيات اللبنانية سوف تصعد ضربها لقواتنا بدورها من الشمال في عملية ( الأوكورديون ) . سمعت تفاصيل من أبي عمار عن آخر توقعاته واستعداداته أثناء محادثاته الرسمية مع الرئيس الباكستاني الجنرال محمد ضياء الحق بحضوري في نهاية الشهر الخامس من العام 1982 ، حيث تحدث بمرارة عن خيبة أمله إذ لا يتوقع دعماً عسكرياً عربياً جاداً ، بينما تعهد ضياء الحق بتقديم بعض الدعم !
بدأ الاجتياح الصهيوني بعد ذلك بأسبوع في الرابع من الشهر السادس، واستمرت المعارك وصولاً إلى إطباق حصار على العاصمة بيروت وأبدت القوات الفلسطينية وحلفاؤها اللبنانيون مقاومة بطولية شرسة ، بعد معارك على طول تقدم جيش العدو من الجنوب تميز بعضها ببطولة خارقة لقوات الثورة الفلسطينية ، كما في قلعة الشقيف وصيدا ودوار خلدة ومواقع أخرى ، في حين انسحبت قوات أخرى من مواقعها ! على الرغم من هذه المقاومة المستميتة التي امتدت لنحو شهرين ونصف فقد انتهت الأمور إلى خروج القوات والمؤسسات الفلسطينية من لبنان وتوزعها في سبعة أقطار عربية بعد وساطة أوربية وأمريكية قادها فيليب حبيب . سئل أبو عمار إلى أين أنت ذاهب بعد لبنان فأجاب : إلى فلسطين ! ولئن أخذ بعض الصحفيين وسواهم جوابه على أنه محاولة لرفع معنويات الناس واللعب بأعصاب العدو ، فقد راودني هاجس قوي آنذاك بأن العقل الباطن لأبي عمار قد أوحى له بذلك الرد انعكاساً لصفقة تم وضع خطوطها العريضة تتضمن انخراطاً في تسوية مع العدو في مقابل إنهاء الوجود الفلسطيني المسلح في لبنان مما نشر كثيراً من الإحباط وأجج عوامل غضب قاعدي تنذر بتمرد !
لم تكد عملية الخروج تكتمل حتى أعلن الملك الحسن الثاني عن استئناف قمة فاس ، وكان لا بد من ضربة موجعة أخرى تسبق استئنافها ، فجاءت المجزرة الرهيبة في مخيم صبرا يوم 16 أيلول عندما تم قتل وذبح آلاف المدنيين ، غالبيتهم الساحقة من الأطفال والنساء ، بينما كان أبو عمار في طريقه إلى فاس ، حيث تم تمرير مبادرة فهد الذي كان قد صار ملكاً بعد وفاة أخيه الملك خالد ، وهكذا لحق النظام الرسمي العربي ، وضمنه قيادة منظمة التحرير ، بالنهج الذي دشنته ردة الرئيس المصري أنور السادات!
بعد شهور قليلة من حرب العام 1982 وإخراج معظم مقاتلي الثورة الفلسطينية ومؤسساتها من لبنان ، كنت في دمشق عندما جاءني صديق قائلاً أنه حضر في اليوم السابق اجتماعاً سرياً دعا إليه عبد الحليم خدام ، نائب الرئيس السوري ، محوره ضرورة التحرك الفوري لإسقاط ياسر عرفات بالقوة وتوفير الاحتياجات الكفيلة بهذا . وقد أعطاني محضراً للاجتماع كتبه من الذاكرة عقب عودته إلى بيته . قررت مقابلة أبي عمار على الفور و إيجاد سبيل لإقناعه بإجراءات جادة تعالج عوامل التذمر والاعتراضات السياسية والتنظيمية على نهجه وإجراءاته . ذهبت إليه بالرغم من جفوة كانت الأولى بيني وبينه منذ عرفته ، وإذ بمدير مكتبه يطلب مني الانتظار لحظات لكي يبلغه . كانت تلك المرة الأولى التي يقال لي هذا ، إذ كنت حتى ذلك الحين من القلائل الذين يدخلون عليه دون استئذان في كل ظرف. عاد مدير مكتبه ليقول : الأخ أبو عمار سيقابلك بعد دقائق . امتدت الدقائق طويلاً ، وتكرر دخول مدير مكتبه عليه مراراً لإبلاغه أنني لا زلت بالانتظار ، وكان يعود بنفس الجواب ! خرج أبو لطف وعبد المحسن أبو ميزر من غرفته فتبادلنا التحية ، وسحبني أبو لطف من يدي ودلفنا إلى الشارع حيث همس في أذني قائلاً : شو بدك منه.. سيبك ! قلت أن هناك موضوعاً مهماً ، فكرر القول : سيبك منه ! ثم ودعني .. قررت أن أعود ، وإذ بالجواب يتكرر مجدداً مرات ومرات : سيستقبلك بعد دقائق ! مرت ساعتان ، وإذ بأحد الذين حضروا الاجتماع مع عبد الحليم خدام وتحمس لإسقاط عرفات وطلب تأمين الغطاء المالي للتحرك يدخل طالباً لقاء أبي عمار . عندئذ كتبت لمدير مكتبه ملاحظة تفيد بأن لهذا الشخص صلة بالموضوع الذي أريد بحثه ، ومن الضروري جداً أن أدخل قبله . دخل مدير المكتب ليبلغ أبا عمار بهذا ، وإذ به يعود قائلاً لذلك الشخص : تفضل ، أبو عمار بانتظارك . عند هذا الحد غادرت المكتب ، وسافرت إلى مقر عملي بعد أيام ، ولم أقابل أبا عمار إلا بعد نحو سنة ونصف في تونس!
كنت أتابع تذمر واعتراضات كثير من القادة والقواعد ، وكانت وجهة نظري أن أبا عمار يتمنى أن يرتاح من المعترضين والمتذمرين إن تورطوا بانشقاق ، فهو قد رتب أوضاعه داخل حركة فتح والمنظمة وعربياً ودولياً بما يمكنه من المضي في نهجه ، وخاصة بعد الوعود التي تلقاها قبيل الخروج من بيروت ، وبالتالي كررت مراراً القول إن فرص التصحيح وتصويب المسار سياسياً وتنظيمياً هي أكبر من خلال الأطر الحركية لا بالخروج منها .
عندما حدث الانشقاق الكبير بقيادة عضوي اللجنة المركزية نمر صالح ( أبو صالح) وسميح أبو كويك (قدري) والعقيدين سعيد مراغة (أبو موسى ) وموسى العملة ( أبو خالد) ، بعثت برسالة شفوية إلى أبي صالح وقدري مع أخ اسمه وديع قلت فيها : لقد استقطبتم بشعاراتكم المئات وربما الآلاف من أفضل أبناء الحركة ، وخاصة بطرحكم شعار استمرار الكفاح المسلح ، لكنكم لن تتمكنوا من تحقيق أي من شعاراتكم فأنتم محكومون بالجغرافيا . لقد تقلصت فرصة تصويب النهج وتصحيح الأوضاع نتيجة تحرككم هذا .كان أبو عمار مستعداً لدفع الملايين للتخلص من معظم الذين التحقوا بكم ، إذ كانوا يشكلون له صداعاً بانتقاداتهم واعتراضاتهم ، فقدمتم له هذه الخدمة على طبق من ذهب .
في هذه الأثناء كان قد تكرس تشكيل جبهة في دمشق من عشر فصائل معارضة لقيادة ياسر عرفات ونهجه ، بدعم من سوريا وليبيا ، ودخل الصراع الفلسطيني ـ الفلسطيني مرحلة شديدة التفجر ،
أقف عندها في الحلقة القادمة ..
المزالق المدمرة في الصراع الفصائلي (الحلقة الأولى)
المزالق المدمرة في الصراع الفصائلي (الحلقة الثانية )
المزالق المدمرة في الصراع الفصائلي (الحلقة الرابعة )