انتصارات الغوطة الشرقية تُسقط الخطاب “الإنسانوي” الملفق والتهديدات الغربية
د. إبراهيم علوش
لا فرق جوهرياً بين “النصرة” و”داعش” اللذين يدينهما الغرب انتقائياً من جهة، وما يسمى “جيش الإسلام” و”فيلق الرحمن” و”أحرار الشام” و”فجر الأمة” وغيرها من مسميات العصابات التكفيرية الإرهابية في الغوطة الشرقية من جهة أخرى، وإن وجدت فروقٌ فيما بينها، فهي فروقٌ في الدرجة، لا النوع، وكلها فروعٌ من فروعٍ منبثقةٍ من صلب الفكر الوهابي المتزمت، تلتف على بعضها وتفترق، لتتنافس على قاعدة مرجعيته البترودولارية، ولتفرض تأويلاته السقيمة بقوة الإرهاب الوحشي في المناطق التي تتخذ من أهلها دروعاً بشرية، ولتمارس ألوان الإقصاء والتذابح التكفيري حتى فيما بينها، وكلها موضوعياً جزءٌ من العدوان الكوني على سورية بشراً وحجراً ودولةً وحضارة، وإن ذلك الوباء الاجتماعي-السياسي هو بالضبط ما يواجهه الجيش العربي السوري وحلفاؤه في الغوطة الشرقية وبعض سورية في هذه اللحظات.
لذا فإن التوازنات الدولية في مجلس الأمن التي جعلت من غير “النصرة” و”داعش” من الإرهابيين الدمويين والتكفيريين “معارضةً معتدلةً”، ليست أكثر من تعبيرٍ آخر عن النفاق الذي تمارسه الدول الغربية في تلفيق فروق بين الإرهابيين “تبرر” صلاتها معهم وتغطيهم سياسياً، حتى وهي مستمرة بحماية فلول “داعش” شرق سورية، وبتغذية “النصرة” مالياً وإعلامياً عبر أكذوبة “الخوذ البيضاء” وفصيل ما يسمى “فجر الأمة” في الغوطة الشرقية (المحسوب على ما يسمى “الجيش الحر”) وغيرها من القنوات.
الإيحاء دولياً بوجود مثل تلك “الفروق” المزعومة بين فصائل الإرهابيين التكفيريين لا يعدو كونه تعبيراً عن ميزان قوى عالمي مختل، ما برح يميل لمصلحة سورية وحلفائها، لا سيما بعد اضطرار الدول الغربية للإقرار بوجود مشكلة إرهاب تكفيري في سورية لم يعد بالوسع إنكارها بعدما طالت شظاياها مدن الغرب وعواصمه… غير أن مثل تلك “الفروق” بين الإرهابيين لا تعبر عن الواقع بتاتاً، لأن كل المليشيات الخارجة عن الدولة السورية إما إرهابية تكفيرية، أو مرتبطة بالنظامين الأمريكي والصهيوني، والأغلب هو الاثنان معاً، ما عدا في مناطق سيطرة الميلشيات الكردية المرتبطة بالأمريكان (والمستعيضة عن الإرهاب التكفيري بشوفينية معادية للعروبة)، كما أن الصراعات المحمومة والتناحر المدمر بين تلك الفصائل لا يغيّران من حقيقة ذلك الواقع شيئاً.
مشكلة الخطاب “الإنسانوي” إذاً بصدد الغوطة الشرقية، وأي منطقة أخرى يسيطر عليها الإرهابيون التكفيريون، هي أنه خطاب يقلب الصورة رأساً على عقب، فالإرهابي الذي يقصف دمشق ويمنع أهل الغوطة الشرقية من الخروج عبر الممرات الآمنة يتم تصويره “ضحية”، والجندي العربي السوري الذي يقاتل الإرهاب يتم تصويره “معتدياً”، والشعب السوري الذي يقاسي الإرهاب التكفيري في دمشق وريفها (وبقية سورية) تتم “مصادرته” سياسياً كأنه “في حماية” الدول الغربية التي تدعم الإرهاب التكفيري، وذلك في مسعى لفرض “الإنتداب” مجدداً على سورية في العقول والقلوب بالتوازي مع محاولة فرضه عبر مشاريع قرارات الدول الغربية والرجعية العربية في مجلس الأمن الدولي! فالخطاب “الإنسانوي” إزاء الغوطة الشرقية وغيرها، بهذا المعنى، ليس خطاباً “إنسانياً” ولا “محادياً” على الإطلاق، بل خطابٌ مسيّسٌ ذو أجندة إمبريالية مبيتة، لأنه يسعى لتأسيس ما يسمى بـ”حق التدخل بذرائع إنسانية” من قبل الدول الغربية واتباعها وأدواتها، ضمن برنامج لسحق الدول المركزية المستقلة وتفكيكها، أسوة بما جرى في يوغوسلافيا في التسعينيات وفي ليبيا عام 2011 وفي العراق وفي غيره.
مزاعم “استخدام النظام السوري للأسلحة الكيماوية ضد شعبه”، التي تجري إعادة تدويرها وترويجها كلما حقق الجيش العربي السوري وحلفاؤه تقدماً ملموساً ضد العصابات التكفيرية المسلحة في الميدان، هي الثمرة النجمية لمثل ذلك الخطاب “الإنسانوي” المنافق، فهي تزيّن التدخل الغربي لدعم الإرهابيين ومساعي “تمرير مشاريع انتهاك السيادة السورية”، وتجمّله، وتجعله “مطلباً دولياً إنسانياً”، وقد اصبحت خلال حملة الغوطة الشرقية في الأيام الفائتة مدخلاً أمريكياً وفرنسياً وألمانياً لـ”توجيه تهديدات” عسكرية لسورية، ولمشروع قرار بريطاني في جلسة لـ”مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة”، عُقدت خصيصاً لحماية التنظيمات الإرهابية في الغوطة الشرقية، افتتحها زيد بن شاكر، مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان، بالحديث عن “جرائم حرب” دعا لـ”تحويلها إلى المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي”!
لكن الذريعة “الإنسانية” في الغوطة ساقطة حكماً كقناعٍ مهترئ، أولاً لأن الدولة السورية تسهّل، ولا تعيق، وصول المساعدات الإنسانية إلى الغوطة الشرقية، مع تحفظها المشروع على عدم وقوعها بأيدي الجماعات التكفيرية الإرهابية التي تتاجر فيها وتحجبها عمن تشاء، وثانياً لأنها “ذريعة” لا تفسر لماذا سعى مئات آلاف المواطنين منذ بداية سيطرة العصابات المسلحة على الغوطة الشرقية لمغادرتها حتى فرض الإرهابيون حظراً على مغادرتها من قبل المدنيين ليجعلوهم دروعاً بشرية، وثالثاً لأنها تتعامى عما يقوم به الإرهابيون التكفيريون ضد دمشق وأهالي الغوطة الشرقية نفسها، أو تحاول التقليل من شأنه بشدة.
وبالتلازم مع الحملة الإعلامية، والتهديدات المباشرة، أصيبت الدول الغربية والكيان الصهيوني بالذعر من تقدم الجيش العربي السوري في الغوطة الشرقية، فبدأت مناورات عسكرية أمريكية-“إسرائيلية” عنوانها المعلن مواجهة محور المقاومة، وطار نتنياهو إلى واشنطن لحض واشنطن على التدخل بصورة أوسع في سورية، بالإضافة لملفات أخرى، وراح الفرنسيون يتصلون بالروس والإيرانيين مناشدين، وطار وزير الخارجية الفرنسي إلى طهران حيث لا شك في أنه حاول طرح موضوع الغوطة الشرقية على هامش هدف محادثته المعلن حول برنامج الصواريخ البالستية الإيرانية، وطار ولي العهد السعودي محمد بن سلمان إلى القاهرة حيث لا شك في أنه حاول فتح موضوع الغوطة الشرقية، لا سيما أن ضباطاً مصريين شاركوا في المفاوضات المتعلقة بالغوطة الشرقية الشهر الفائت.
أما من سعوا للعب الورقة “الإنسانية” في الغوطة الشرقية، ومن راحوا يهوّلون من التهديدات الغربية لسورية، فيبدو أنهم نسوا مع من يتعاملون، لأن من صمد في وجه عدوانٍ كونيٍ ألقت فيه دولٌ غربيةٌ وإقليميةٌ كبرى بكل ثقلها، من واشنطن إلى لندن، ومن باريس إلى برلين، ومن تل أبيب إلى أنقرة، ومن الرياض إلى الدوحة (بأموالها)، ومن جماعة “الإخوان المسلمين” الدولية إلى التيارات التكفيرية ما بين شرق الصين والشيشان، لا تفت في عضدها التهديدات ولا العدوانات المتلاحقة من الجو أو من البر، وهي أكثر من قادرة على ردها وتجاوزها، وقد جاء الرد واضحاً صافياً هادئاً واثقاً، على لسان السيد الرئيس بشار الأسد الذي قال أن حملة الغوطة الشرقية يجب أن تستمر، وبالانتصارات والاختراقات الواسعة التي حققها الجيش العربي السوري والقوات الحليفة والرديفة في أعماق مناطق سيطرة العصابات التكفيرية الإرهابية في الغوطة الشرقية التي راحت تتقطع الواحدة تلو الأخرى كخيوط العنكبوت، وهي مسيرة مظفرة تمثل تتمةً لما تحقق شرق حلب وفي تدمر ودير الزور وعموم سورية من قبل، مسيرة لن تتوقف حتى إجلاء آخر إرهابي من الغوطة الشرقية أو دخوله في مصالحة، وباختصار، لن تتوقف حتى يعود كل شبر من الأرض السورية إلى حضن الدولة صاحبة السيادة عليه، الدولة العربية السورية وجيشها وأسدها.
7 آذار 2018
“تشرين”