جرجي.. مرحلة الحذر والعداء
كما قلت في المقالة السابقة، كان اسم جرجي كافيا لإثارة الشك في نفسي، ممزوجا بشيء من الحيرة تتلاءم مع سني عمري، مع إغراء النص بما يحويه من تشويق ودخول لأول مرة-كما سبق وأن أشرت- إلى عالم الأنثى. وحدث أنني كنت أقرأ إحدى الروايات حين رآني رجل قرأ كثيرا وخبر الأمور أكثر مني، فحذرني بكلمات قليلة حازمة من القراءة لهذا الكاتب؛ ثم استدرك بأنه إذا ولا بد ستقرأ فلا تتأثر أو احذر أن تتأثر بما كتب جرجي، وحدثني عن الدين، مع علمي التام بحاله مع الدين، حيث لم تكن تربطه علاقة قوية بالدين، في أهم أركانه من صلاة وصيام!
ولك أن تستنتج ما جرى، فالتحذير لعب باتجاه معاكس من حيث مواصلة قراءة ما تيسر وتوفر من تلك السلسلة، وهو كثير نسبيا، ومع أنني لم أكن الوحيد الذي استعار منها، ولكن لاحظت أن هناك من استعار بسبب الرسم على الغلاف، مع اكتفاء بتصفح سريع، دون عزم أو رغبة في قراءة كل صفحة وكل سطر.
وقد نجحت الروايات التي قرأتها من تلك السلسلة (ولا أذكر عددها الآن) في تسليتي وتشويقي وإمتاعي متعا جعلتني أنظر بنوع من الاستعلاء الغريب على كل من يشغل نفسه ويضيع وقته في متابعة أو ملاحقة بنات المدارس بفضول غبي، لأنه حسبما رأيت وتبلور في نفسي، لن يلتذ ويستمتع بمعشار ما تحويه هذه الأوراق بين دفتي الرواية من متع تغني عن هذا السلوك المنبوذ من شتى النواحي، والذي رأيت فيه نوعا من (الذّل) أيضا، بل وصل بي الحال إلى درجة تفوق ازدراء السلوك المنبوذ بمتابعة بنات المدارس ومراقبتهن، بل تعدته إلى أن عالم (الأنوثة) لن تجد لذّته إلا فيما خطه (جرجي) فهذا هو العالم أو السرّ الحقيقي للأنوثة!
ولكن وبالتوازي مع هذه المشاعر التي لم أجرؤ على البوح بها وقتها، فإن روايات (جرجي زيدان) لم تفلح في أن تهزّ تصوراتي وآرائي عن التاريخ العربي والإسلامي البتة، وسألت من هو أكبر وبالتالي أكثر معرفة مني فقال لي بوضوح (جرجي زيدان يريد تشويه الإسلام بأسلوب القصة والرواية) كانت العبارة مع ما التقطته ولاحظته في نصوص الروايات كافية لأتخذ موقفا عدائيا منه، لا سيما بعدما قرأت في كتاب أو مجلة تأكيدا لهذه التهمة، مع ذكر لأسماء كتّاب وأدباء آخرين يقومون بنفس الدور، مع استعراض أمثلة.
وستأتي مرحلة أشد في حدة التفكير العدائي لديّ، فأنا قد تبلور في قناعاتي في مرحلة الطفولة بأن وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين(الأونروا) هي أداة تآمر على شعبي وقضيتي أو وسيلة إلهاء مبرمج في أفضل الأحوال وأحسن الظنون، وصار جرجي زيدان محل الشك والاتهام الزائد أو المعزّز لفكرتي عن الأونروا، وانقدح السؤال المستفز في ذهني: لماذا تضع المدرسة التابعة للأونروا في مكتبتها هذا العدد من روايات جرجي زيدان في مكتبتها العامة، والروايات محتواها يغمز من قناة الإسلام والمسلمين؟ كان السؤال وربما ما زال منطقيا وكافيا كي أعتقد بوجوب إزالة هذه الروايات عن رف المكتبة، وأن هذه معركة أخدم بها الإسلام والمسلمين، ناظرا للمطبوعات بأنها تستهدف الأطفال والناشئة، ممن يتقبلون عادة ما يقدم لهم، دون تمحيص وتمييز للغث من السمين.
وقد غادرت المدرسة التابعة للأونروا بحكم الترفيع (مدة الدراسة فيها 9 سنوات) في ظل انتفاضة الحجارة، وطبعا لم يكن لموضوع الثقافة والقراءة حظ يذكر كثيرا أثناءها، نظرا لطبيعة الظروف الساخنة وإغلاق المدارس فترات طويلة بقرار من سلطات الاحتلال، ثم السماح بافتتاحها فقط كي يتم إنهاء المقررات السنوية بطريقة (السلق) السريع حيث يختزل المنهاج المقرر في كل مادة، وتلغى حصص الرياضة والفن وبالتأكيد تلغى الساعات المكتبية.
وحين بدأت الدراسة تنتظم رويدا رويدا، ومع أنني كنت كما قلت قد غادرت مدارس الأونروا فإن معركتي مع جرجي زيدان كانت مستعرة، فقد توسعت في القراءة، وكثرت المواد والمواضيع التي أطلع عليها، وكان من ضمنها مواد مكتوبة واضحة باتهام جورجي زيدان (هكذا صرت أقرأ اسمه لاحقا) بالسعي لتشويه الإسلام، والنيل من تاريخ المسلمين.
هنا قمت بتحريض نشطاء على كتبه المصفوفة على أحد الرفوف في المكتبة التي لم أدخلها منذ غادرت مرحلة الدراسة في مدارس الأونروا، أو، وللدقة منذ اندلاع انتفاضة الحجارة وحتى الآن. وفي الأمور التي تمس الدين والمعتقدات، فإن بيئة منطقتنا ومخيمنا (مخيم جنين) لديها حساسية كافية بحيث تجعل من هذا الموضوع عنوانا للوحدة الوطنية خاصة أنه يمس الدين والمقدسات ولا يتعلق بحزب أو حركة أو جماعة فقط.
وفي منزل الأستاذ الذي صار أمينا أو مسؤولا عن مكتبة المدرسة، بعد أكثر من عقد من الزمن، وقد جمعتنا ظروف علاقات متشابكة، كما هي حالة شعبنا وعلاقاته، وفي حضرة عدة زملاء، وجدنا الأستاذ متعاونا أو مؤيدا لطرحنا حين أتينا على ذكر السموم التي تحويها روايات(جرجي زيدان) لدرجة أنه وضع الكتب خارج قائمة الإعارة، ولكنه استدرك باستنكار وانتقد معلمات مدرسة الإناث التابعة للوكالة (المكتبة مشتركة وتوزع فيها الساعات للمدرستين) فقال: أنا ليس عندي جرجي زيدان، كلها وضعتها في المخزن/الأرشيف، ولكن جاءتني مجموعة من الطالبات أرسلتهن المعلمة ليبحثن عن هذه الروايات تحديدا لكتابة موضوع.. فماذا أفعل أنا؟ قلت لهن: لا يوجد هنا.
طبعا استنكرنا فعل المعلمة الذي رأيناه قبيحا مضرا بالدين والوطن، وسأل أحد الحاضرين-وهو من أنصار حزب التحرير-: يعني يا أستاذ المعلمة لا تعرف من هو جرجي زيدان كي تشير على طالباتها، بالبحث عن كتبه باعتبارها مرجعا موثوقا؟ السؤال طبعا يحظى بتفاعل الجميع والإجابة عنه: إما أن المعلمة تجهل ماهية جرجي زيدان، وهذه مصيبة، أو تعرف عنه فتسعى لنشر أفكاره المنفوثة في طيات رواياته وتلك مصيبة أكبر وأعظم!
فامتعضنا وحسبنا وحوقلنا، ولكن نوعا ما شعرت باطمئنان، بأن الروايات لن تسمم عقل أحد من المنطقة التي اعتبرتها ثغرا أنا أقف عليه مرابطا، فالمكتبة في أيد حريصة أمينة واعية. ومضت الأيام وتغيرت الظروف وتبدلت الأحوال، وصار الكتاب، سواء روايات جرجي أو غيره يشكو قلة القراءة، بل يتوسل تصفحا سريعا ونظرة أو لمسة.. وبخصوص جرجي زيدان، انفتح بمرور الزمن أشياء أخرى، وزوايا نظر مختلفة، سآتي عليها في مقالة لاحقة إن شاء الله.