“الحكم بالقانون” : كارثة الأردن المقبلة
د. لبيب قمحاوي
ما نحن بحاجة إليه في الأردن هو “حكم القانون” “Rule of law” وليس “الحكم بالقانون” “Rule by law” . وواقع الأردن الآن أحوج ما يكون إلى “حكم القانون” لوضع حد لمسار حكومي متغول يتميز بالبطش والكـَذِبْ وتطويع القانون وكسر إرادة المواطن وإهدار كرامته والإستهتار بها . الفرق بين “حكم القانون” “والحكم بالقانون” كبير وكبير جداً . ما لدينا في الأردن هو “الحكم بالقانون” بعد أن تم تطويع القانون وإخضاع تفسيراته لمزاج السلطة التنفيذية وسياساتها ورغباتها بغض النظر عن روح الدستور ونصوصه وهو من المفروض أن يكون منبع كل القوانين .
يدور الشعب الأردني الآن حول نفسه في حلقة مُفـْرَغة مُرْعِبة . فلا هو قادر على حماية حقوقه الدستورية ، ولا هو قادر على حماية حقوقه السياسية أوالقانونية ، وأصبح القضاء وسيلة لفرض إرادة الحكومة على الشعب عوضاً عن كونه وسيلة لحماية حقوق المواطن الأردني . وأصبحت الحكومة تستند في مخالفتها للقانون إلى أحكام تصدر عن السلطة القضائية وتأخذ صفة القانون للإلغاء الاعتباطي لفعالية القوانين السارية التي لا تتناسب ومفهوم الجباية . وأخيراً أصبح المواطن الأردني الآن غير قادر على حماية ثروته وممتلكاته الشخصية من حكومة مُصِرًّة على الإلتفاف على القانون لتعزيز الجباية ومخالفة الدستور من خلال سن قوانين تتعدى على حرمة المال الخاص وخصوصية الأردنيين والتي أصبح بموجبها بإمكان موظف في الدولة وبكبسة زر الإطلاع عليها أو التعدي عليها أو إستعمالها للضغط على المواطن . فعندما يقوم مسؤول أردني مثل وزير المالية منفرداً بتهديد الشعب الأردني بالإطلاع على معلومات خاصة مثل أرصدتهم في البنوك وإستعمال تلك المعلومات لتعزيز الجباية الضريبية فهو أمر يشكل قمة الإستهتار بخصوصية الأردنيين وحقوقهم وأمراً قد يؤدي إلى طرد مثل ذلك المسؤول أو طرد الحكومة برمتها في دول أخرى تحترم شعوبها . إن إصرار الحكومة الأردنية على إعتبار الحق العام أهم من الحقوق الشخصية وإعتبار أن حقوق الملكية الخاصة مهدورة أمام جبروت الدولة وتغولها على المواطن هو بداية النهاية للدولة الدستورية وإنطلاق دولة الإستبداد والفساد . وعلى الحكومة الأردنية التعهد بإحترام خصوصية المواطن وعدم الإقتراب من ثروته إلا بأمر المحكمة وضمن تشريعات تحفظ حقوق المواطن وكرامته ، كما يتوجب سحب صلاحية أي موظف للحجز على أموال أي مواطن “بكبسة زر” وإقتصار تلك الصلاحية على المحاكم الوجاهية المختصة وضمن ضوابط مُعْلَنة .
يتميز سلوك الحكومة الأردنية مؤخراً بالتعسف الشديد وفقدان الحساسية المفرط تجاه معاناة المواطن والابتعاد عن الشفافية في طرح الأمور والحقائق وفي الإصرار على تجاهل المواطن الأردني بإعتباره كما ً لا قيمة له ، والإكتفاء بإصدار التصريحات التي تسعى إلى استرضاء عواطف الأردنيين مثل المحافظة على مستوى معيشتهم وكرامتهم ، في حين أن الإجراآت الفعلية للحكومة تتغول عليهم وتضعهم في ضائقة مالية ونفسية ومعنوية دفعت الكثيرين منهم إما إلى الانتحار أو الوقوع في براثن الجريمة ومنها القتل والسرقة وتعاطي المخدرات وتهريبها وكلها ظواهر جديدة على المجتمع الأردني ، ترتبط في أصولها بمعاناة المواطن الأردني على يد حكومته . ويبدو أن المواطن الأردني غير القادر على مجابهة الحكومة أو غير الراغب في قتالها إختار أن يقتل نفسه كوسيلة للخلاص من سياسة الافقار والإذلال التي يتعرض لها على يد حكومته وفي غياب أية حماية تشريعية أو قضائية له أو لحقوقه كمواطن .
إن إستهتار الحكومة والسلطة التنفيذية المعلن بالشعب الأردني وما يريده وما يقبل به أو يرفضه إبتدأ بالتفاقم بعد أن إكتملت سيطرة تلك السلطة على كـُلٍّ مِنْ السلطة التشريعية والسلطة القضائية ، والتي ساهمت بعض الأجهزة في تحويلها إلى واقع من خلال التلاعب بالإنتخابات والسيطرة على التعيينات والتنقلات والاحالات على التقاعد في الوقت نفسه . وفي مخالفة صريحه للمبدأ الدستوري الأهم والقاضي بالفصل بين السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية ، تقوم السلطة التنفيذية الآن من خلال الحكومة بخطوتها الأخيرة في تطويع الشعب الأردني ومصادرة إرادته وكرامته ودخله بعد أن سلبته القدرة على محاسبتها من خلال السلطة التشريعية ، وكذلك القدرة على اللجوء إلى القضاء للحماية من تعسف الحكومة وإساءة تفسيرها للقوانين والتلاعب بها من أجل تقنين كل مخالفاتها بعد أن تمت سيطرتها على السلطة القضائية ، وإكتملت الحلقة بالمحكمة الدستورية التي من المفروض أن تحكم بدستورية القوانين وفيما إذا كانت منسجمة أو مخالفة لأحكام الدستور أو روحه .
إن المطلب الشعبي بوجود محكمة دستورية كان يهدف أصلاً إلى حماية الشعب وحقوقه من خلال منع سن قوانين تتعارض وروح الدستور أو أحكامـه . أما أن يتم التلاعب بوضع تلك المحكمة ودورها من خلال الحد من قدرة العديد من قطاعات المجتمع المدني على اللجوء مباشرة لتلك المحكمة قد جعل منها في الواقع أداة إضافية لتعزيز هيمنة الحكم على مختلف السلطات في الدولة بل وتشريع تلك الهيمنة . وهكذا أصبح الشعب بدون أي قدرة على الاحتكام للسلطة القضائية ضد تعسف الحكومة وتفسيرها للقوانين كما تريد وترغـب ، مما وضع الكثيرين منهم في كرب شديد وخَلَقَ حالة من الغضب الصامت التي تطورت لدى البعض إلى عدوانية واضحة زادت من معدل الجريمة ولدى البعض الآخر إلى اكتئاب زاد من حالات الانتحار ، في حين أن العديدين ما زالوا في إنتظار الفـَرَج ولكن ضمن أجواء من التوتر الواضح .
وبالرغم من كل ذلك ، مازال الإنفاق العام في الأردن يخلو من الحساسية تجاه معاناة الأردنيين ، ولا ينسجم في الوقت نفسه مع إدعاء الحكومة المتواصل بوجود عجز متفاقم تستعمله الحكومات الأردنية كعذر لتبرير تعسفها الواضح في فرض الجباية والأتوات والزيادات غير المبررة في الأسعـار والضرائب على الأردنييـن . إن الإنفاق العام للحكومة، والرواتب والمكافئات المرعبة التي تدفعها العديد من المؤسسات العامة كمؤسسة الضمان الاجتماعي والشركات المساهمة العامة التي تتلقى دعماً حكومياً مباشراً أو غير مباشر لتعويض خسائرها المفترضة ، مثل شركة الكهرباء الأردنية وشركة الملكية الأردنية لمدرائها وكبار موظفيها لا تنسجم إطلاقاً مع سياسة إفقار الشعب الأردني التي تمارسها الحكومة بحجة نضوب الموارد ، وهذه فقط أمثلة بسيطة .
إن تقنين التجاوزات الحكومية بقوة القانون من خلال جهاز تشريعي مسلوب الإرادة هي أقرب ما تكون إلى حماية الفساد بالقانون بمعنى أن حماية الفساد تصبح تطبيقاً للقانون ومحاربته تصبح مخالفة للقانون . وكذلك هو الحال الآن فيما يتعلق بإعطاء السلطة التنفيذية القدرة والقوة على فرض قوانين تتعارض والمبادئ الدستورية وبشكل يجعل من الإعتراض على تلك المخالفات تجاوزاً على القانون الذي يحميها ويحولها من مخالفة قانونية بحد ذاتها إلى إعتبار من يخالفها مخالفاً للقانون . كل هذا في الوقت الذي تترك فيه الحكومة الأردنية الفساد والفاسدين يرتعون في البلد لأنهم أقوى من الحكومة في قدرتهم على حماية مصالحهم وفسادهم ، هذا بالإضافة إلى كيل الاتهامات من قبل الحكومة للشعب الأردني بأنه يتهرب من مسؤولياته الضريبية في الوقت الذي تتهرب فيه الحكومة نفسها من مسؤولياتها وواجباتها تجاه الشعب ، ولا يملك الشعب أي وسيلة فَعـَّالة لمحاسبتها . أمر عجيب وغريب يبعث على الحزن والإكتئاب بل والغضب على من حَوَّل الأردن من بلد هانئ ومجتمع مسالم إلى بلد حزين تعيس وشعب غاضب.
تجري الآن معاملة الشعب الأردني وكأنه مجموعة من اللصوص أو المتهربين من دفع ما يترتب عليهم من ضرائب والتزامات ويجري إستعمال ذلك كتبرير لقانون ضريبة جديد وجائر يجري تسويقه الآن في الوقت الذي يفتقر فيه الشعب إلى أية آلية أو أداة لمحاسبة الحكومة على أخطائها وتَسَيُّبها وفشلها في إدارة شؤون الدولة وضعفها أمام الفساد الكبير أو حمايتها له مما أدى بالنتيجة إلى إفلاس الدولة . إن هذه أمور يجب أن لا يتحمل الشعب وزرها ، وكان من المفروض أن يقوم مجلس النواب بمحاسبة الحكومات على تقصيرها عوضاً عن الاستسلام الواضح لرغبات تلك الحكومات وادارتها الفاشلة لشؤون الدولة ، وهجومها الشرس على المواطن من خلال سياسة جباية متفاقمة فاقت كل الحدود عندما تتم مقارنة مداخيل الأردنيين (بإستثناء اللصوص والفاسدين منهم) بالأحمال الضريبية بأشكالها المختلفة والزيادات المرعبة في الأسعار والتي يخلو فرضها من الشفافية اللازمة وخصوصاً الزيادات في أسعار المشتقات النفطية والكهـرباء والميـاه . كل ذلك يؤكد أن مستويات الفقر في الأردن هي في إزدياد وتآكل الطبقة المتوسطة ، وهي عماد الإستقرار الإقتصادي والسياسي ، قد أصبح الآن أمراً شبه كامل.
ولكن لمصلحة مَنْ تتم عملية إفقار الشعب الأردني وإغضابِهِ إلى هذا الحد ؟ وهل اللامبالاة التي نشهدها الآن تجاه التغوُّل الحكومي المفرط على الشعب أمراً معقولاً؟ وأين أولي الأمر من كل هذا وذاك ؟ ولماذا يُفرَض على الشعب حكومة لا تحترم الشعب ووزراء يتعاملون مع الشعب ومع القانون بفوقيه وبإستخفاف لا يمكن تبريره إلا من خلال إفتراض الكثير والكثير جداً !
مرة أخرى ، لمصلحة من تتم عملية إفقار الشعب الأردني وإغضابِهِ إلى هذا الحد ؟
2018 / 05 / 13