أقلام الوطن
الخطاب الفلسطيني بين المعلن والمستور
(تحليل الخطاب السياسي بين البراغماتية والموضوعية)
بسّام عليّان*
يحتل الخطاب السياسي لأي حكومة أو رئيس دولة مكانة مهمة في المجتمع (أي مجتمع)، فالسياسة مثلها مثل الاقتصاد والدين هي عصب الحياة، فكل فرد في المجتمع يتمتع بثقافة سياسية ولو بقدر بسيط، ويعج الخطاب السياسي بالأيديولوجية التي تعتبر مفهومًا غامضًا، فالخطاب الذي يتبنى أفكارًا معينة، يلقي بأيديولوجيته إلى الناس محاولًا التأثير فيهم وتوجيه سلوكهم بغرض تحقيق مصلحة معينة ويعتمد في ذلك إما على خطاب ظاهر معلن، يبرر أفكاره بشكل صريح وإما باللجوء إلى أسلوب غير مباشر، فيعبر عن آرائه ليقوم أهل الاختصاص بالتنقيب عن المسكوت عنه، والكامن وراء ظاهر الألفاظ.
وهنا يظهر دور المحلل السياسي والذي يهتم بوجه عام بالحدث؛ هدفه بالأساس هو إنارة الرأي العام، وإخبارهم بما يجري من وقائع في الحياة الاجتماعية أو السياسية أو الثقافية مع توضيحها قدر الإمكان والكشف عن الأسباب المباشرة التي تتحكم فيها دون تبرير أي موقف والدفاع عنه.
لكن عندنا بفلسطين؛ إذا كنا في الداخل الفلسطيني أو في الشتات؛ كلما كان خطاب أو حدث سياسي تظهر نفس الوجوه على المنابر الإعلامية لاجترار التحليل المألوف والمعد سلفًا، فيقومون بدور المحلل الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والعسكري والنفسي والثقافي وحتى الرياضي في غياب أهل الاختصاص، لدرجة أن المواطن الفلسطيني ملّ رؤية هذه الوجوه التي يتم استنطاقها بمناسبة وبدون مناسبة، مما يشعرنا بالغبن أمام هذا الاعلام المنافق.
فالتضليل السياسي الذي أشكاله وطرائقه موضع تحليل معرفي ومادة لكتابات سياسية حديثة؛ وهو النهج الذي ما زال المحللون السياسيون يمارسونه بأكثر أشكاله تخلفًا وبشاعة وتقدمه بديلًا مستدامًا عن الإصلاح والتغيير الحقيقي وتجعل منه الخيار الوحيد (كما يبدو) الذي تجده بمتناول اليد للبقاء والاستمرار في الحكم وتبرير السياسات الفاشلة.
وهنا يكمن الفرق بين الفكر الغربي والفكر العربي في السياسة حيث إن الفكر الغربي يحاول بناء خطاب يتحرر تدريجيًا من سلطة السلطة كمفهوم مركزي (التعددية، القطاع الخاص، المجتمع المدني، الانتخاب الإنسان) بينما يرتكز الفكر العربي على خدمة سلاطين وسلطة السلطة.
فبين الديماغوجية والواقعية في تحليل الخطاب السياسي يتحدد مستقبل الشعوب ومصيرها، وترتسم مواقع الأمم والدول، فإما أن يقودها هذا التحليل إلى مواجهات مفتوحة على الاحتمالات السلبية كافة، سواء مع محيطها أو مع المجتمع الدولي المقرر. فالخطاب الديماغوجي يرتكز على كلام فضفاض لا منطق له، ويحاول صاحبه من خلال استعراض قواه وبطولاته الوهمية، إغراء الجمهور واستمالة الرأي العام وخداع الناس وخدمة أجندته السياسية، فيما الخطاب الواقعي أو العقلاني يقوم على التجرد من كل مصلحة شخصية ـ ذاتية، ويرتكز على صياغة حوارية وعلى أفكار بناءة ومسؤولة، وذلك في محاولة من صاحبه لتصويب المسارات السيادية عبر توعية الشعب وتنبيهه مما يحاك له من مؤامرات تهدد مستقبله ومصالح دولته.
ففي غياب منهجية ومأسسة التعاطي مع الأزمات، تخرج الأصوات التي تحاول ملء الفراغ بتحليلها للمواقف من مرجعيات متحكم فيها من لدن السلطة.
المشكلة في الخطاب الديماغوجي أنه يحاكي عنفوان الشعوب إنما بطرق ملتوية مشبّعة بعقائد إما حزبية وإما طائفية ومذهبية وإما عرقية مليئة بالمغالطات والمتناقضات، وهو خطاب انتهازي متخصص بغزو العقول غير المثقفة سياسيًا ووطنيًا، من خلال اللعب على الوتر الوجودي والتخويف من “خطر وهمي وغير وارد”، على عكس الخطاب الواقعي المتميز بالجدية والمسؤولية الوطنية حيال وجودية الدولة واستمراريتها على قاعدة الفصل بين التبعية لهذا الزعيم وتلك المرجعية، وبين الانتماء للهوية الوطنية فقط لا غير، وهو الخطاب الذي نحتاج إليه اليوم فلسطينياً، لإعادة تكوين مواطنة فلسطينية صالحة قائمة على الانتماء للوطن والأرض الفلسطينية، وغير تابعة لرئيس حكومة أو رئيس دولة أو زعيم تنظيم أو حزب معين أو لأي مرجعية أخرى غير مرجعية الدولة.
إن جميع المحللين السياسيين مدعوون اليوم إلى مراجعة خطاباتهم بكلّ أركانها حتّى يتصالحوا مع الجماهير ويفلحوا في إعادة روح الأمل إليها بعد أن كدّرت المشاكل الاجتماعية والاقتصاديّة النّفوس وأصابتها بالإحباط وحتّى تعيد صياغة مشاريعها وفق رؤى واقعيّة مستندة إلى المستجدّات الحاصلة على جميع المستويات، وهذا يفرض على صانعي الخطاب السياسي مراعاة عدة خطوات إجرائية لعل في مقدمتها:
(1) ضرورة مراجعة «الوصفات السياسيّة الجاهزة»؛ والتي بمجملها تبدو أقرب إلى الشعارات المتعالية على الواقع ومخرجاته.
(2) صياغة خطابات بعيدة عن تكريس تقسيم أبناء الشعب الواحد؛ (ضفة غربية، قطاع غزة، أراضي 1948، داخل، خارج، وافد، وغيرها من التسميات المقيتة)؛ واستبدال خطاب توافقي بها يتبنى قيم التسامح ويقرّ بالحق في الاختلاف والتعدّد والتنوع ويدعم قيم المواطنة الحقيقية لفلسطين ولأرض فلسطين التاريخية.
(3) وضع خطط واقعية وجذّابة من خلال السعي إلى إشراك الكفاءات في اتخاذ القرار، شرط أن تنتمي تلك الكفاءات إلى ميادين مختلفة كعلم الاجتماع والسياسة والاقتصاد والقانون وعلم النفس والاعلام، فكلما اتّسعت دائرة الاستشارة لتضمّ مختصين متنوّعين، كانت أكثر التحامًا بقضايا الواقع، وأقدر على مجابهتها وإيجاد الخطط الكفيلة بحلّها، فيبتعد الخطاب السياسي عن الحديث عمّا يعارضه إلى الحديث بجدّية عمّا يعتزم تحقيقه وفق رؤية واضحة المعالم.
(4) تكثيف الزيارات الميدانية إلى مختلف المناطق، والالتحام بالقاعدة الشعبية، وعقد لقاءات دورية للتشاور وطرح المشكلات الوطنية على طاولة النقاش؛ فيكون الخطاب السياسي حينئذ نابعًا فعلًا من عُمق الشعب، وقادرًا على كسب ثقته وإشعاره بأنه عنصر فاعل في بلورة الخطاب، مما يجعل اللغة بين الطرفين مشتركة فعلًا.
(5) تكثيف منابر الحوار مع جميع الأطياف السياسية لتتدارس مستجدات الساحة الوطنية الفلسطينية على كافة الأصعدة. وعدم استثناء أي أحد.
وإننا –هنا- لا نزعم أن ما ذكرناه يُحصي كل الطرائق التي من شأنها أن تجوّد تحليل الخطاب السياسي الفلسطيني، ولكنها نقاط نراها جوهرية وضرورية في الوقت الراهن من أجل الخروج بالخطاب السياسي من النمطية ومن اللغة الخشبية إلى رحاب الواقع، في لغة تلامس قضايا الواقع وتسعى إلى ايحاد حلول حقيقية لها.
وعلينا أن ندرك جيداً؛ أن أزمة المشروع الوطني الفلسطيني، لا تزال في أوجها. فالنخب الممسكة بالقرار لا تزال تسبح في بحر عجزها، بل توغل في التحايل على هذا العجز عوضًا عن مواجهته بجرأة وبمسؤولية. فالقيادة الفلسطينية لا تقدم أفقًا سياسيًا ولا خطة مبلورة تتدرج من مرحلة إلى أخرى؛ فما زال الكل يعلق شماعته على “أزمة الحصار”، و”أزمة البديل”، و”أزمة السلطة”، و”أزمة فصائل العمل الوطني الفلسطيني”، ومؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية غير مهيأة وغير قادرة على قيادة الشعب الفلسطيني؛ ويكتفي كل من ذكرناهم بالإعلان – فقط – أن “م.ت.ف. هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني” ..!!!؟ فيما الحقيقة تؤكد على أن الالتزام بمهمة التحرر والحرية للشعب الفلسطيني أينما وجد، لا بدّ أن تتمسك بنقد الفساد أو الانحراف الذي يطال مؤسسات م.ت.ف. بهدف المراجعة وإعادة تصويب المسار. فقد طالت هذا الجسم الفلسطيني الوطني الأعلى، (م. ت. ف.)، أمراضاً كثيرة وبصورة مبكرة.
وبغض النظر عن نوايا القيادة الفلسطينية، التي توصلت إلى اتفاق “أوسلو” من وراء المؤسسات التمثيلية للمنظمة. فإن هذا الاتفاق وجه ضربة كبيرة لمشروع النضال الوطني الفلسطيني والتحرري. وتبيّن مع مرور الوقت أنه بمثابة مأسسة لنظام الأبارتهايد الكولونيالي. فالاتفاق كرس تجزئة القضية الفلسطينية، جغرافيًا وديموغرافيًا، وجرى تجريم النضال الفلسطيني باعتباره “إرهابًا”. وأن الاتفاق لم يتوقف عند السياسة وما تطلبه أحيانًا من مساومات تكتيكية، بل طال التاريخ والحقوق والهوية.. هذا أخطر ما في الاتفاق؛ فقد مُنعت السلطة من كتابة “الوطني” أو “الوطنية”، وحتى بعد الاعتراف بــ دولة فلسطين كدولة؛ ما تزال يكتب على المؤسسات الرسمية والوثائق الرسمية “السلطة الفلسطينية”؛ بناء على اتفاق اوسلو، ولا ذكر لكلمة وطني أو وطنية أو دولة فلسطينية …!!!؟.
…؛ ولسنوات بعد أوسلو ظن العالم أن القضية الفلسطينية في طريقها إلى الحل، في حين كان يجري تفكيكها إلى ملفات وتفاصيل ويتواصل الاستيطان مما أكد للفلسطينيين عدم جدوى مواصلة التمسك بهذا الاتفاق السيء. كما أن “أوسلو” فتح الطريق أمام حكومة الاحتلال نحو دول لم تكن لها علاقات معها. كما أن حركة التضامن العالمية تراجعت، فلم يعد لديها مبرر لمواصلة الحملة ضد “إسرائيل” كدولة محتلة، في حين يرتبط أصحاب القضية أنفسهم باتفاق معها، ناهيك عن تهافت أنظمة عربية أخرى على حكومة الاحتلال بعيد اعتراف منظمة التحرير بها.
….؛ من هنا غاب الفلسطيني الثائر الفدائي المقاوم، الساعي إلى التحرر من الاحتلال وجرائمه، ليحل معه الفلسطيني الذي يتصالح مع المحتل؛ وهو شعور بالخديعة. كان من المفترض أن تؤدي التضحيات الجسام التي قدمها شعب فلسطين، والخسائر غير المسبوقة التي ألحقتها الانتفاضة الفلسطينية في الثمانينات بالمحتل، إلى قلب المعادلة، ويتمسك الفلسطينيون بمشروعهم الوطني الأصلي.
يحتل الخطاب السياسي لأي حكومة أو رئيس دولة مكانة مهمة في المجتمع (أي مجتمع)، فالسياسة مثلها مثل الاقتصاد والدين هي عصب الحياة، فكل فرد في المجتمع يتمتع بثقافة سياسية ولو بقدر بسيط، ويعج الخطاب السياسي بالأيديولوجية التي تعتبر مفهومًا غامضًا، فالخطاب الذي يتبنى أفكارًا معينة، يلقي بأيديولوجيته إلى الناس محاولًا التأثير فيهم وتوجيه سلوكهم بغرض تحقيق مصلحة معينة ويعتمد في ذلك إما على خطاب ظاهر معلن، يبرر أفكاره بشكل صريح وإما باللجوء إلى أسلوب غير مباشر، فيعبر عن آرائه ليقوم أهل الاختصاص بالتنقيب عن المسكوت عنه، والكامن وراء ظاهر الألفاظ.
وهنا يظهر دور المحلل السياسي والذي يهتم بوجه عام بالحدث؛ هدفه بالأساس هو إنارة الرأي العام، وإخبارهم بما يجري من وقائع في الحياة الاجتماعية أو السياسية أو الثقافية مع توضيحها قدر الإمكان والكشف عن الأسباب المباشرة التي تتحكم فيها دون تبرير أي موقف والدفاع عنه.
لكن عندنا بفلسطين؛ إذا كنا في الداخل الفلسطيني أو في الشتات؛ كلما كان خطاب أو حدث سياسي تظهر نفس الوجوه على المنابر الإعلامية لاجترار التحليل المألوف والمعد سلفًا، فيقومون بدور المحلل الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والعسكري والنفسي والثقافي وحتى الرياضي في غياب أهل الاختصاص، لدرجة أن المواطن الفلسطيني ملّ رؤية هذه الوجوه التي يتم استنطاقها بمناسبة وبدون مناسبة، مما يشعرنا بالغبن أمام هذا الاعلام المنافق.
فالتضليل السياسي الذي أشكاله وطرائقه موضع تحليل معرفي ومادة لكتابات سياسية حديثة؛ وهو النهج الذي ما زال المحللون السياسيون يمارسونه بأكثر أشكاله تخلفًا وبشاعة وتقدمه بديلًا مستدامًا عن الإصلاح والتغيير الحقيقي وتجعل منه الخيار الوحيد (كما يبدو) الذي تجده بمتناول اليد للبقاء والاستمرار في الحكم وتبرير السياسات الفاشلة.
وهنا يكمن الفرق بين الفكر الغربي والفكر العربي في السياسة حيث إن الفكر الغربي يحاول بناء خطاب يتحرر تدريجيًا من سلطة السلطة كمفهوم مركزي (التعددية، القطاع الخاص، المجتمع المدني، الانتخاب الإنسان) بينما يرتكز الفكر العربي على خدمة سلاطين وسلطة السلطة.
فبين الديماغوجية والواقعية في تحليل الخطاب السياسي يتحدد مستقبل الشعوب ومصيرها، وترتسم مواقع الأمم والدول، فإما أن يقودها هذا التحليل إلى مواجهات مفتوحة على الاحتمالات السلبية كافة، سواء مع محيطها أو مع المجتمع الدولي المقرر. فالخطاب الديماغوجي يرتكز على كلام فضفاض لا منطق له، ويحاول صاحبه من خلال استعراض قواه وبطولاته الوهمية، إغراء الجمهور واستمالة الرأي العام وخداع الناس وخدمة أجندته السياسية، فيما الخطاب الواقعي أو العقلاني يقوم على التجرد من كل مصلحة شخصية ـ ذاتية، ويرتكز على صياغة حوارية وعلى أفكار بناءة ومسؤولة، وذلك في محاولة من صاحبه لتصويب المسارات السيادية عبر توعية الشعب وتنبيهه مما يحاك له من مؤامرات تهدد مستقبله ومصالح دولته.
ففي غياب منهجية ومأسسة التعاطي مع الأزمات، تخرج الأصوات التي تحاول ملء الفراغ بتحليلها للمواقف من مرجعيات متحكم فيها من لدن السلطة.
المشكلة في الخطاب الديماغوجي أنه يحاكي عنفوان الشعوب إنما بطرق ملتوية مشبّعة بعقائد إما حزبية وإما طائفية ومذهبية وإما عرقية مليئة بالمغالطات والمتناقضات، وهو خطاب انتهازي متخصص بغزو العقول غير المثقفة سياسيًا ووطنيًا، من خلال اللعب على الوتر الوجودي والتخويف من “خطر وهمي وغير وارد”، على عكس الخطاب الواقعي المتميز بالجدية والمسؤولية الوطنية حيال وجودية الدولة واستمراريتها على قاعدة الفصل بين التبعية لهذا الزعيم وتلك المرجعية، وبين الانتماء للهوية الوطنية فقط لا غير، وهو الخطاب الذي نحتاج إليه اليوم فلسطينياً، لإعادة تكوين مواطنة فلسطينية صالحة قائمة على الانتماء للوطن والأرض الفلسطينية، وغير تابعة لرئيس حكومة أو رئيس دولة أو زعيم تنظيم أو حزب معين أو لأي مرجعية أخرى غير مرجعية الدولة.
إن جميع المحللين السياسيين مدعوون اليوم إلى مراجعة خطاباتهم بكلّ أركانها حتّى يتصالحوا مع الجماهير ويفلحوا في إعادة روح الأمل إليها بعد أن كدّرت المشاكل الاجتماعية والاقتصاديّة النّفوس وأصابتها بالإحباط وحتّى تعيد صياغة مشاريعها وفق رؤى واقعيّة مستندة إلى المستجدّات الحاصلة على جميع المستويات، وهذا يفرض على صانعي الخطاب السياسي مراعاة عدة خطوات إجرائية لعل في مقدمتها:
(1) ضرورة مراجعة «الوصفات السياسيّة الجاهزة»؛ والتي بمجملها تبدو أقرب إلى الشعارات المتعالية على الواقع ومخرجاته.
(2) صياغة خطابات بعيدة عن تكريس تقسيم أبناء الشعب الواحد؛ (ضفة غربية، قطاع غزة، أراضي 1948، داخل، خارج، وافد، وغيرها من التسميات المقيتة)؛ واستبدال خطاب توافقي بها يتبنى قيم التسامح ويقرّ بالحق في الاختلاف والتعدّد والتنوع ويدعم قيم المواطنة الحقيقية لفلسطين ولأرض فلسطين التاريخية.
(3) وضع خطط واقعية وجذّابة من خلال السعي إلى إشراك الكفاءات في اتخاذ القرار، شرط أن تنتمي تلك الكفاءات إلى ميادين مختلفة كعلم الاجتماع والسياسة والاقتصاد والقانون وعلم النفس والاعلام، فكلما اتّسعت دائرة الاستشارة لتضمّ مختصين متنوّعين، كانت أكثر التحامًا بقضايا الواقع، وأقدر على مجابهتها وإيجاد الخطط الكفيلة بحلّها، فيبتعد الخطاب السياسي عن الحديث عمّا يعارضه إلى الحديث بجدّية عمّا يعتزم تحقيقه وفق رؤية واضحة المعالم.
(4) تكثيف الزيارات الميدانية إلى مختلف المناطق، والالتحام بالقاعدة الشعبية، وعقد لقاءات دورية للتشاور وطرح المشكلات الوطنية على طاولة النقاش؛ فيكون الخطاب السياسي حينئذ نابعًا فعلًا من عُمق الشعب، وقادرًا على كسب ثقته وإشعاره بأنه عنصر فاعل في بلورة الخطاب، مما يجعل اللغة بين الطرفين مشتركة فعلًا.
(5) تكثيف منابر الحوار مع جميع الأطياف السياسية لتتدارس مستجدات الساحة الوطنية الفلسطينية على كافة الأصعدة. وعدم استثناء أي أحد.
وإننا –هنا- لا نزعم أن ما ذكرناه يُحصي كل الطرائق التي من شأنها أن تجوّد تحليل الخطاب السياسي الفلسطيني، ولكنها نقاط نراها جوهرية وضرورية في الوقت الراهن من أجل الخروج بالخطاب السياسي من النمطية ومن اللغة الخشبية إلى رحاب الواقع، في لغة تلامس قضايا الواقع وتسعى إلى ايحاد حلول حقيقية لها.
وعلينا أن ندرك جيداً؛ أن أزمة المشروع الوطني الفلسطيني، لا تزال في أوجها. فالنخب الممسكة بالقرار لا تزال تسبح في بحر عجزها، بل توغل في التحايل على هذا العجز عوضًا عن مواجهته بجرأة وبمسؤولية. فالقيادة الفلسطينية لا تقدم أفقًا سياسيًا ولا خطة مبلورة تتدرج من مرحلة إلى أخرى؛ فما زال الكل يعلق شماعته على “أزمة الحصار”، و”أزمة البديل”، و”أزمة السلطة”، و”أزمة فصائل العمل الوطني الفلسطيني”، ومؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية غير مهيأة وغير قادرة على قيادة الشعب الفلسطيني؛ ويكتفي كل من ذكرناهم بالإعلان – فقط – أن “م.ت.ف. هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني” ..!!!؟ فيما الحقيقة تؤكد على أن الالتزام بمهمة التحرر والحرية للشعب الفلسطيني أينما وجد، لا بدّ أن تتمسك بنقد الفساد أو الانحراف الذي يطال مؤسسات م.ت.ف. بهدف المراجعة وإعادة تصويب المسار. فقد طالت هذا الجسم الفلسطيني الوطني الأعلى، (م. ت. ف.)، أمراضاً كثيرة وبصورة مبكرة.
وبغض النظر عن نوايا القيادة الفلسطينية، التي توصلت إلى اتفاق “أوسلو” من وراء المؤسسات التمثيلية للمنظمة. فإن هذا الاتفاق وجه ضربة كبيرة لمشروع النضال الوطني الفلسطيني والتحرري. وتبيّن مع مرور الوقت أنه بمثابة مأسسة لنظام الأبارتهايد الكولونيالي. فالاتفاق كرس تجزئة القضية الفلسطينية، جغرافيًا وديموغرافيًا، وجرى تجريم النضال الفلسطيني باعتباره “إرهابًا”. وأن الاتفاق لم يتوقف عند السياسة وما تطلبه أحيانًا من مساومات تكتيكية، بل طال التاريخ والحقوق والهوية.. هذا أخطر ما في الاتفاق؛ فقد مُنعت السلطة من كتابة “الوطني” أو “الوطنية”، وحتى بعد الاعتراف بــ دولة فلسطين كدولة؛ ما تزال يكتب على المؤسسات الرسمية والوثائق الرسمية “السلطة الفلسطينية”؛ بناء على اتفاق اوسلو، ولا ذكر لكلمة وطني أو وطنية أو دولة فلسطينية …!!!؟.
…؛ ولسنوات بعد أوسلو ظن العالم أن القضية الفلسطينية في طريقها إلى الحل، في حين كان يجري تفكيكها إلى ملفات وتفاصيل ويتواصل الاستيطان مما أكد للفلسطينيين عدم جدوى مواصلة التمسك بهذا الاتفاق السيء. كما أن “أوسلو” فتح الطريق أمام حكومة الاحتلال نحو دول لم تكن لها علاقات معها. كما أن حركة التضامن العالمية تراجعت، فلم يعد لديها مبرر لمواصلة الحملة ضد “إسرائيل” كدولة محتلة، في حين يرتبط أصحاب القضية أنفسهم باتفاق معها، ناهيك عن تهافت أنظمة عربية أخرى على حكومة الاحتلال بعيد اعتراف منظمة التحرير بها.
….؛ من هنا غاب الفلسطيني الثائر الفدائي المقاوم، الساعي إلى التحرر من الاحتلال وجرائمه، ليحل معه الفلسطيني الذي يتصالح مع المحتل؛ وهو شعور بالخديعة. كان من المفترض أن تؤدي التضحيات الجسام التي قدمها شعب فلسطين، والخسائر غير المسبوقة التي ألحقتها الانتفاضة الفلسطينية في الثمانينات بالمحتل، إلى قلب المعادلة، ويتمسك الفلسطينيون بمشروعهم الوطني الأصلي.