من الجسور المفتوحة إلى فك الارتباط وإعادته مع صفقة القرن (حلقة 2 من 3)
إستعادة الارتباط تأسيس لصراع إقليميِيْ القطرين!
د. عادل سمارة
عبر سياسة الجسور المفتوحة تحققت للكيان الصهيوني علاقات اعتراف متبادل، وإن لم تتجسد في الإعلان والسفارات…الخ. وتحقق القبول العربي والفلسطيني بذلك، ايضا دون إعلان. وخلال السنوات الأولى بعد عدوان وهزيمة 1967 واشتداد المقاومة الفلسطينية للاحتلال، دار التنازع بين م.ت.ف والنظام الأردني على تمثيل الشعب الفلسطيني. وبالطبع، فإن مجرد التنازع هو دليل على مرحلة تدهور البعد العروبي في الصراع مع العدو وتدهور البعد الوحدوي العربي لأن الطبيعي هو نضال مشترك بين القطرين والوطن بأجمعه. ففي حين كان النظام الأردني يحاول استعادة الحكم في الضفة الغربية كتركيز للقطرية وليس لتحريرها أو تحرير فلسطين كانت م.ت.ف تشهد الحمل بجنين تكوين قطرية فلسطينية في الضفة والقطاع والشتات والمهاجر تابعة للعدو الأمريكي على غرار القطريات العربية ومنافسة للأردن. يشهد بذلك ما كتبه إدوارد سعيد بانه حمل رسائل من الخارجية الأمريكية سايروس فانس إلى ياسر عرفات عام 1979 وذكر ذلك اثناء رده على تساؤلات الصحفي المصري عبد الله الناوي (انظر كتابه Peace & its Discontents:Gaza Jericho 1993-1995 )، أي المغازلة المبكرة لأمريكا. والطريف ان سعيدا يقول، أنا لست ممثلا لأي طرف، أنا مجرد مراسل! شكرا سعيد.
تبع ذلك حدثين مفصليين يندرجان في نطاق التطبيع:
الأول: إقتلاع المقاومة الفلسطينية من الأردن مع ايلول 1970 ورحيلها إلى لبنان مما أكد نهاية المقاومة عاجلا ام آجلا، لأن الأردن هو المكان الطبيعي لاستمرار المقاومة مما جعل وجود المقاومة في بيروت مثابة “العيش تحت ماكينة التنفس الإصطناعي” رغم كل الضجيج الإعلامي حينها والذي تم تلخيصه في هزار “دولة الفاكهاني” التي لم تحسن بناء العلاقة العروبية مع عرب لينان بل كانت أقرب إلى فرانكفوني لبنان، وبمقدار ما كان المقاتلون يقاتلون الكيان كانت القيادة تقاتل سوريا مخافة أن تعيق سوريا استدوالا فلسطينيا في الضفة والقطاع ذات يوم، وقد حصل بعد اتفقات أوسلو 13 ايلول 1993.
والثاني: مؤتمر الرباط 1974 الذي اعتبر م.ت.ف الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني وهو قرار في ظاهرة بلورة للشخصية الفلسطينية وفي باطنه إناطة تحرير فلسطين بالفلسطينيين، وإعفاء الأنظمة العربية من ذلك، أي إنهاء قومية المعركة على المستوى الرسمي وهو الأمر الذي استغلته قيادة م.ت.ف كمبرر للاعتراف بالكيان حيث رفعت شعار “القرار الوطني المستقل” وهو ما أسعد الحكام العرب وانتهى باتفاقات اوسلو التي عبدت الطريق لاعتراف الأردن بالكيان باتفاقية وادي عربه. وهو التطور الإنحطاطي الذي تبلور في اتفاقات كامب ديفيد 1979 حيث أخرج حكام مصر هذا البلد المركزي من الصراع ليدشنوا بذلك أمرين:
- خروج معظم الأنظمة من الرصاع العربي الصهيوني وهو ما تمسكت به امريكا بالنواجذ حيث اشترت قيادة مصر وقيادة عسكره
- وخروج كثير من القوى السياسي العربية من مفهوم عروبه الصراع.
يمكن القول باختزال، بان مشروع تحرير فلسطين في مناخ القطريات العربية لم يعد قائما ولا مطروحاً، وهذا ما أنعش رغبة النظام الأردني في استرجاع دور ما في الضفة الغربية وإن أمكن قطاع غزة، وفي هذا أحد اسرار التمسك والإبقاء على سياسة الجسور المفتوحة. لكنه الاسترجاع بالمفاوضات والمساومات وليس بالحد الأدنى من التناقض مع العدو، اي مثلا: إغلاق الجسور.
كان على النظام الأردني الانتظار إلى حين تهالك أكثر ل م.ت.ف، وخاصة بعد اقتلاعها من لبنان وتشتت المقاومة على غرار تشتت الشعب الفلسطيني نفسه، لذا شهدت الفترة بين 1982 و 1987 نشاط علاقات اردنية صهيونية وخاصة في لندن وافتتاج مصرف القاهرة عمان في الضفة الغربية، ومصرف فلسطين في غزة. لكن انتفاضة 1987 أوصلت النظام الأردني إلى استحالة العودة إلى دور ما في المناطق المحتلة 1967 ، سواء بالتقاسم الوظيفي أو أي شكل مشابه.
لكن تخاذل الأنظمة العربية والموقف الدولي تجاه هذه الانتفاضة التي أتت في توقيت سيء من حيث تهالك الكتلة الاشتراكية وطبعا تهالك الوضع العربي رسميا والذي أهلك باستمرار الوضع الشعبي، بيَّن بأن الانتفاضة لن تؤدي إلى تحرير ولا إلى مجرد دولة في الضفة الغربية وقطاع غزة. وهذا ما كتبته في بداية عام 1988 في كتابي :”الحماية الشعبيىة ” حينها. حيث دعوت إلى تعميق الانتفاضة لتأخذ بعدا تنمويا (التنمية بالحماية الشعبية) وبعدا ثقافيا رفضاً لتسخيرها سياسيا للوصول إلى دولة في الضفة والقطاع، وهي الدولة التي لن تأتي.
كانت انتفاضة 1987 عامل تفوَّق تيار نفض اليد في الأردن من استعادة اي دور في الضفة الغربية، الخط الإقليمي الذي ينادي بالتخلص من العلاقة بفلسطين والإبقاء فقط على دور الأردن في الأماكن المقدسة، وهو ما نتج عنه قرار الأردن عام 1988 بفك الارتباط مع المحتل 1967، وهو بدوره اسعد الإقليميين الفلسطينيين. وكنت ربما الوحيد الذي رفض قرار فك الارتباط من جانب الأردن وكتبت ذلك في جريدة النهار التي كانت تصدر في القدس، وهو ما فاجأ الكثيرين! كان رأيي بأن فك الارتباط هو جعل الضفة الغربية منطقة بلا سيادة دولانية وهذا هدية للعدو. وبالطبع كنت ولا زلت مع وحدة الأردن وفلسطين ضمن خيار التحرير وليس المساومة والمفاوضات.
وحيث رفع الأردن أو ألغى سيادته على الضفة الغربية، فقد سهّل هذا على العدو توسيع الاستيطان وزعم “شرعيته” وهو ما أكده له العدو الأمريكي.
في عام 1994 حينما كنت مستشارا اقتصاديا للأنروا (حيث عملت لأقل من عامين إلى ان ذابت وظيفتي لأنني رفضت المشاركة في محادثات بروتوكول باريس) ، دُعي احد رجال القنصلية الأمريكية في القدس الشرقية المحتلة (اسمه كما اذكر جيمس) إلى مقر الأونروا في منطقة الشيخ جراح بالقدس ليعرض فيلما لكبار موظفي الأونروا عن الاستيطان الصهيوني في الضفة الغربية(طبعا كانت وظيفتي بتعاقد خارجي اي غير ثابت في قسم مشاريع إدرار الدخل) . وخلال النقاش، سألته سيدة فلسطينية: ولكن هذه مناطق محتلة! فرد عليها:
“حكومة بلادي بعد فك الارتباط الأردني تعتبر أنه لا توجد سيادة لأية دولة على هذه المنطق طبقا لمفاهيم الأمم المتحدة”
اي انها مفتوحة للاستيطان. وبالطبع استمر الاستيطان حتى بعد اتفاقات أوسلو بل تضاعف، هذا مع وجوب الإشارة إلى أن اتفاقات أوسلو لم تنص على اقتلاع المستوطنات بل حتى نصت على ما يسمى “توسعها الطبيعي”، اي باعتبارها طبيعية. وعليه، فإن اتفاقات أوسلو هي تكريس فلسطيني للجسور المفتوحة بمنعى لعب دور “حاضنة وفراخة” التطبيع في ومع الوطن العربي.
وتفاعلا من النظام الأردني مع صفقة القرن وتدهور اوضاع الفلسطينيين سواء بتخلي م.ت.ف عن الكفاح المسلح، وصعود قوى الدين السياسي ثم الانقسام، واتخاذ حماس موقفا رمادياً من الصراع، بدأ الحديث في الأردن عن التراجع عن فك الارتباط.
اي ان النظام الأردني يتم دمجه في صفقة القرن اليوم على أشلاء وضع فلسطيني متهالك وجاهز للانقضاض عليه ليكون الأردن الرسمي والأمني مجرد غطاء/برداية تغطي كون الأرض بيد العدو!، وهذا يذكرني كيف ان الاستعمار التركي جهز الوطن العربي خرابا يبايا للاستعمار الغربي، ومع ذلك حتى اليوم تطالب قوى الدين السياسي باسترجاع الاستعمار التركي!
كان الارتباط/وحدة الضفتين إثر احتلال فلسطين 1948 قد ثبَّت شرعية دولانية اردنية، ورغم احتلال الضفة الغربية، فإن الاحتلال لا قيمة له بمفهوم وطني مقاوم ولا بمفهوم القانون الدولي. لكن اختراق هذا القانون أمر مفتوح ومباح للكيان الصهيوني ومحرَّم على اية دولة عربية. فحينما استعاد العراق الكويت وهي الولاية 19 من العراق ، هبت الأمم المتحدة “ثأراً” للكويت باعتبارها عضو في تلكم الأمم!
إن المعنى الحقيقي لاستعادة الارتباط هو تحرير الأرض، اي استعادة الشرعية التي اغتصبها العدو بالقوة المجردة، أي لا معنى لها سوى بتحرير الأرض نفسها من الاحتلال لا سيما وأن العدو لن يسمح باستفتاء للشعب على من يمثله، ناهيك عن ان الشعب الفلسطيني يعتبر م.ت.ف هي ممثله الشرعي، بغض النظر عن تورطاتها، وغالباً إلى أن يبلور قيادة مختلفة يكون شرط الحد الأدنى فيها هو، فك الزواج بين م.ت. ف وسلطة أوسلو بحيث تكون م.ت.ف خارج الأرض المحتلة لتحافظ على كونها تمثل الشعب الفلسطيني من أجل التحرير وبلا مواربة.
ويظل من حق الشعب الفلسطيني رفض هذه الإستعادة الرسمية الأردنية طالما هي في نطاق التقاسم مع العدو، بل حتى في نطاق ابتلاع الكيان للأردن نفسه ولا معنى لوحدة الضفتين دون تحرير الأرض، بل لا منعى لأية وحدة بين قطر عربي وآخر بدون تحرير هذا القطر و ذاك من أنظمة التبعية فكيف بوحدة تحت حراب العدو! وعليه، فإن محاولة استعادة الارتباط القانوني والإداري الآن من قبل الأردن تحمل مخاطر هائلة ونتائجها لصالح الكيان الصهيوني وذلك:
لأن ما تم احتلاله يجب فقط تحريره
ولأن فرض جنسية/مواطنة على الفلسطينيين دون تحرير هو أمر مرفوض ولن ينجح حتى بالقمع.
وبأن اية سيادة لا تكنس العدو من الأرض هي تسليم الأرض للعدو بلا مواربة وبالتالي يصبح من “حقه” طرد شعبنا لا سيما وأنه يعلن بأن دولته ستكون دولة يهودية خالصة وهذا ما تؤكده صفقة القرن.
تعني الاستعادة الرسمية الأردنية هذه فتح فرصة للإقليميين من الشعبين للاقتتال مما يخدم العدو على حساب مقاومة عروبية من الشعبين. وهذا الاقتتال المقصود هو رصاصة أخرى لإنهاء القضية الفلسطينية. لا معنى لسلطة إدارية اردنية على الضفة الغربية فذلك لا يختلف عن وضعية السلطة الفلسطينية التي يأكل العدو الأرض من تحت قدميها بينما هي “كأنما على راسها الطير”.
أما الحديث عن وصاية اردنية على الأماكن المقدسة، فلا قيمة حقيقية لها، لأن هذه الأماكن جزء من الوطن ولا تختلف عنه قطعيا. ما من شبر افضل من الآخر، ولا أحد وريث لهذه الأماكن سوى الشعب العربي وليس كل العالم المسمى إسلامي. فدولة الخلافة اي تركيا، هي أول دولة إسلامية اعترفت بالكيان وتحتل ارض سوريا والعراق وتعوي ضد ليبيا.
إن صفقة القرن والجسور المفتوجة وتجليات التطبيع، لتعيدنا حقا إلى جذر تجزئة وتدمير الوطن العربي وانتقال استهداف هذا الوطن إلى استباحته. ونجد شواهد قولنا هذا في أن اتفاق سايكس-بيكو 1916 ووعد بلفور 1917، يعنيان أن هناك حبلٌ سُرِّي بين الكيان الصهيوني وأنظمة القطرية العربية يتماسكان ويتحالفان وهذا يتأكد إذا ما تورط الأردن الرسمي اليوم في قبول إملاءات امريكا بصفقة القرن.
إن الاستعادة لسلطة على الناس دون الأرض هو إعلان بأن العدو الغربي وخاصة الأمريكي لم يعد بحاجة لدور الأردن الرسمي كسور شرقي لحماية الكيان. فالتطبيع الرسمي العربي في موجتيه:
- موجة التطبيع المصري والفلسطيني والأردني
- وموجة التطبيع الخليجي
وهما موجتان تقتضيان اليوم فيضان تسونامي صهيوني على الأرض وهذا يؤكد ما اسميناه في غير مقال: “دمج الكيان في الوطن العربي اندماجا مهيمنا” حيث يتجلى في تحويل الإردن إلى أرض محتلة للكيان لتكون مثابة أو حالة “استعمار داخلي” للكيان الصهيوني ومحطة توسع اقتصادي، سياسي ثقافي ونفسي. بل إن تذويب الكيانية السيادية الأردنية من خلال وحدة شكلانية ادارية قانونية مع الضفة الغربية هو احتلال صهيوني للأرض الأردنية، وتربيط وتقييد الأردن بروابط يغدو من الصعوبة الفكاك منها سواء ربط بنيته التحتية أو نظامه الاقتصادية بالكيان الصهيوني إلى درجة أن الفكاك منها يغدو عصيَّا ومكلفا مما يخلق شريحة اجتماعية تضج من الفكاك، وهو ما نراه اليوم في صفقة الغاز مع الكيان حيث لا تسمع السلطة من برلمانها. وإذا كان البرلمان الأردني قد ابتلغ رفض السلطة لموقفه من صفقة الغاز فإن عليه أن يرفض صفقة القرن وأن يستقيل.
بقي أن أُعيد لذهن القارىء حقيقة خطيرة طالما تم إخفاها. لقد ثبت أن اتفاقات أوسلو ليست سوى تسليم المناطق المحتلة للكيان الصهيوني تدريجيا، وها هي صفقة القرن تأتي لتكرس ليس فقط التهام كامل فلسطين، بل الأردن ايضاً، وهذا برسم الحركة الوطنية العربية في الأردن وفلسطين بعيدا عن الأنظمة والشرائح الطبقية التابعة التي تستبدل مصالحها بالأرض.
ملاحظة: ورد مصطلح الإزاحة والانزياح الذاتي في الحلقة الأولى من هذه المقالات، والمصدر هو : عادل سمارة، الاستيطان من الطرد للإزاحة فالإنزياح الذاتي . في مجلة كنعان ، العدد 94 كانون ثاني 1999، ص 87-100.
يتبع …