في القدس: الحبس المنزلي.. جريمة قلّ مثيلها ومعاناة لا شبيه لها
عبد الناصر عوني فروانة*
في القدس: تلك المدينة العتيقة والعريقة ومهد الديانات السماوية، يَنتهك فيها الاحتلال كل القيم والمبادئ والقوانين ويُدنس المساجد والكنائس والمقابر، ويَعتدى على المصلين والمصليات، والمرابطين والمرابطات، ويَنتهك حرمة القبور ورفات الأموات كما البيوت والأحياء. وفي القدس: المستوطنون يدهسون الرجال ويعتدون على النساء ويحرقون الأطفال ويَطلقون النار على الأبرياء. في القدس: قوات جيش الاحتلال المدججة بالسلاح تقتحم ليلاً بيوت الأهالي وتَعتقل الرجال والأطفال والأمهات والفتيات، وفي النهار تعتدي على الأماكن المقدسة والمرافق العامة ومقار المنظمات الدولية وتَختطف من داخلها الشباب والشيبة والنواب والوزراء وغيرهم.
في القدس: دولة الاحتلال تَهاب أطفال بعمر الزهور وتخشى مستقبلهم، فهي ترى في كل طفل فلسطيني مشروع مقاومة و”قنبلة موقوتة” مؤجلة التحقق لحين البلوغ، فتُختطفهم من أحضان آبائهم وأمهاتهم، وتَسلب طفولتهم البريئة، وتجعل من اعتقالهم الملاذ الأول وهدفا رئيسيا لقواتها المدججة بالسلاح، دون مراعاة لصغر سنهم، وتَزج بهم في سجون مظلمة وزنازين معتمة وظروف قاسية، ويُمارس السجان الإسرائيلي بحقهم أشد أنواع العذاب وصنوف الحرمان، وتُصدر المحاكم الإسرائيلية بحقهم أحكاماً قاسية بالسجن الفعلي وتفرض عليهم غرامات مالية باهظة، وجميع الأحكام الصادرة بحق أطفال القدس تكون مقرونة بفرض غرامات مالية، وأحيانا يُضاف إليها الإبعاد عن مكان السكن وبيت العائلة أو “الاقامة المنزلية” وما بات يُعرف بـالحبس المنزلي.
في القدس: عرفنا وعلمنا أن للاحتلال الإسرائيلي- منذ أن احتلها- سجون عديدة يَزِجُ داخل جدرانها وفي أقبيتها الفلسطينيين الذين يسكنون القدس. وفي القدس: أدركنا أن للاحتلال سجانين يعملون في تلك السجون وحراساً مدججين بالسلاح يحيطون بها من كل صوب وناحية، لإرهاب المقدسيين وبث الرعب في نفوسهم وتحطيم ارادتهم ومعنوياتهم والتأثير على توجهاتهم بصورة سلبية.
في القدس: تغيرت الأحوال وتبدلت الصورة، واختلفت الإجراءات الإسرائيلية لجهة القمع والتنكيل والتضييق، وارتفعت وتيرة الاعتقالات في صفوف المقدسيين بشكل كبير، واشتدت السجون الإسرائيلية قسوة، وتضاعفت معاناة أهلنا في القدس بشكل غير مسبوق، ولم تعد تلك السجون التي نعرفها ونعلم تفاصيلها تشكل عبئاً اقتصاديا على منشئيها ومن يُديرها، حيث باتت تكلفة نفقات الإقامة والحياة داخلها على نفقة المعتقلين الفلسطينيين.
وفي القدس: لم تكتف دول الاحتلال بما آلت إليه الأوضاع في سجونها وما تُمارسه بداخلها من قمع وتعذيب وحرمان، فلجأت إلى افتتاح مئات السجون الجديدة التي لم نكن نعرفها ولم نتوقع نشوئها أو افتتاحها لتشكل اليوم ظاهرة وظاهرة خطيرة آخذة بالاتساع والازدياد عنوانها: “الحبس المنزلي”. إذ لم تعد البيوت الآمنة ملكاً لساكنيها من المقدسيين، حين يفرض عليهم أن يجعلوا منها سجونا، ولمن ؟ لأبنائهم وبناتهم ولا أحد سواهم.
وخلال الأربع سنوات الماضية أصدرت سلطات الاحتلال نحو خمسمائة قرار بالحبس المنزلي غالبيتهم العظمى كانت بحق الأطفال المقدسيين، مما جعل مئات البيوت سجونا، وحولّ الآلاف من الأهالي وأفراد العائلات المقدسية الى سجانين على أبنائهم وأحبتهم، وحراس ومراقبين على من تصدر المحاكم الإسرائيلية بحقه حكما بالحبس المنزلي.
في القدس: المعاناة مركبة ومضاعفة، تتفاقم مع مرور الأيام وتشتد مع تعدد الإجراءات وقسوتها، فبعدما كان الأهالي يطالبون بحرية أبنائهم القابعون في سجون الاحتلال الإسرائيلي، فهم اليوم يُجبرون قسرا على حبس أبنائهم وخاصة الأطفال منهم داخل بيوت العائلة، يُقيدون حركتهم، ويتابعون أنشطتهم، ويراقبون تحركاتهم، ويمنعونهم من تخطي حدود البيت وتجاوز البوابة الخارجية للمنزل تنفيذاً لشروط الإفراج التي فرضتها عليهم المحاكم الإسرائيلية، وتجنباً لاعتقال الكفيل أو المتعهد والزج به في ظلمة السجون المعلومة بتهمة خرق “الاتفاق” وبنود الحكم وما وقّع عليه من التزام.
وهناك نوعان من الحبس المنزلي، الأول يُلزم الشخص، سواءً أكان طفلاً أم فتاة، رجلاً أم امرأة، بالبقاء في بيته وعدم الخروج منه بشكل مطلق طوال الفترة المحددة، والنوع الثاني وهو أصعب من الأول يتمثل بفرض “الحبس المنزلي” على الشخص وخاصة الطفل في بيت أحد الأصدقاء أو الأقارب البعيدة عن بيت الأسرة ومنطقة سكناها، مما يشتت العائلة ويزيد من حالة القلق لديها ويُحدث توترا في العلاقة ما بين الطفل واسرته، ويخلق العديد من المشاكل النفسية والاجتماعية لدى الشخص واسرته، كما ويشكل خطرا على المسيرة التعليمية للطفل.
ويُعتبر “الحبس المنزلي” إجراءً تعسفياً ولا أخلاقياً ومخالفةً لقواعد وأحكام القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان. كما ويشكل عقوبة جماعية للأسرة بمجموع أفرادها التي تضطر لأن تَبقى في حالة استنفار دائم، حريصة على حماية ابنهم من خطر تبعات تجاوزه للشروط المفروضة.
وتلجأ سلطات الاحتلال إلى هذا الشكل من “الحبس المنزلي” بهدف ترويع الأطفال وتخويفهم وفقدانهم الثقة بأفراد أسرهم، والتأثير على توجهات أفراد العائلة ومعتقداتهم وأفكارهم ودفعهم نحو الالتزام بما يصدر عن سلطات الاحتلال الإسرائيلي من قرارات، ومنع أبنائهم من تخطي تلك القرارات بشكل مباشر أو غير مباشر، أو تجاوز الإجراءات الإسرائيلية المشددة المفروضة على الفلسطينيين القاطنين القدس المحتلة. وصولا إلى الهدف غير المعلن والمتمثل بقبولهم بالأمر الواقع ومنعهم طواعية من المشاركة بأي شكل من أشكال الاحتجاجات السلمية والمقاومة المشروعة للاحتلال. هكذا تريد دولة الاحتلال، لكنها لم تَنجح ولن تَنجح في تحقيق مآربها. فالقدس وأهلها هم تاريخنا وحضارتنا وارثنا وذاكرتنا. وفي القدس تتجدد آمالنا وتنبع أحلامنا ويشرق مستقبلنا، ولا معنى لأي شيء بدون القدس، ولن نقبل بأن يَتحول أهلنا في القدس إلى سجانين على أطفالهم، حيث يبقى الحبس المنزلي: جريمة قلّ مثيلها ومعاناة لا شبيه لها.
5-2-2020
*رئيس وحدة الدراسات والتوثيق في هيئة شؤون الأسرى