حينما يكذب نتنياهو ويصْدُق معاً!
عبد اللطيف مهنا
في سياق حملته الانتخابية ومحاولاته عبرها إنقاذ نفسه من عاقبة تهم فساده التي ستأخذه حتماً إلى السجن، لا يكف نتنياهو عن المباهاة معدداً منجزاته التهويدية، والرقص على الأصداء، والإفادة من الأجواء، التي خلفتها وأشاعتها همروجة إعلان “صفقة القرن” النتنياهوية الأصل الترامبوية التبني، أو ما عقدت بين أصلها ومتبنيها، ذلك بكيل الوعود لناخبيه باقتراب المزيد المزمع من قرارات الضم الموعودة التي أقرتها الصفقة والكفيلة بإنجاز التصفية النهائية للقضية الفلسطينية، دون التوقُّف عن التغني بفتوحاته التطبيعية مع عرب الردة، هذه التي تدغدغ طبولها التي يوالي قرعها العقدة الوجودية لدى صهاينته، لما توحيه لهم وتائرها اندلاقاتها المعلنة من احتمالات تبدو أنها في طور التحقيق لدفن الصراع العربي الصهيوني وتأبيد الكيان وتتويجه قطب رحى تدور من حوله كيانات الانهزامية في المنطقة.
يزعم نتنياهو متفاخراً بأنه بات يطوّر الآن علاقات سرّية مع الدول العربية والإسلامية، وهو هنا يقترب من التعميم فيكاد يقول كل هذه الدول، حين يستدرك متواضعاً، ” واحدة أو دولتين أو ثلاث فقط لا تقيم معنا علاقات تتعزز باستمرار”.. هنا يكذب نتنياهو ويَصْدُق معاً.. كيف؟!
يصدق حيث مشاهد اندلاقات التطبيع العربي، دولاً ونخباً، تتوالى وهي من الشواهد التي تؤكد على هذه المصداقية، إذ لا زالت، ونأتي من الآخر، حكاية برهان السودان التي لا زالت حديث الساحة العربية، وقبل أن تخفت أصداؤها أعادتها الطائرات الصهيونية التي بدأت تعبر على راحتها أجواء السودان إلى حدثيتها، توازيها استضافات صهيونية لعروض أفلام وسنيمائيين عرب، منهم لم يسمع بإسمه من قبل، يناقشون مع عدوهم الشجون السينمائية العربية في القدس المحتلة، وكذا في ذات الوقت حوارات الأوسلويين والصهاينة في تل أبيب، وانتقالها، أو ما شابهها، لاحقاً إلى متحف ياسر عرفات في رام الله! أما الدول الإسلامية فأغلبها، ولا نعمم، أشاح منذ أمد متناسياً أن أولى القبلتين وثالث الحرمين يقعان ويرزحان تحت الاحتلال في القدس!
ويكذب نتنياهو، ومن عادته أنه يكذب أكثر مما ترمش عيناه، حين يكاد أن يعمم، فليس كل الدول العربية، رغم كل هذا الخراب المستشري في الإرادة السياسية العربية منذ كامب ديفيد، يقيم علاقات سرّية معه، والأمر ذاته اسلامياً، هذا على الصعيد الرسمي، أما الشعبي فالحصيلة، ومنذ كامب ديفيد لم تزد على الصفر.. أما لم يكذب فليس لأنه كاذب فقط، وإنما لأسبابه التالية:
اولاها، انتخابية وانقاذية أشرنا لها بدايةً ولا حاجة للعودة إليها، والثانية، والثانية تقَصُّد المبالغة في سياق سياسة كي الوعي الشعبي العربي التي ينتهجها الصهاينة منذ أن غزوا بلادنا لبث التيئيس وتعميم روح الإنهزامية في كتلة الأمة.. بيد أن الأهم هي الثالثة.. ماهي؟
لا يدرك أحد مدى هشاشة الكيان الصهيوني أكثر من الصهاينة أنفسهم، ومهما بلغت قوتهم.. هنا تكمن عقدتهم وفوبياهم الوجودية القاتلة. يدركون أنهم جسم غريب مرفوض تاريخياً وملفوظ جغرافياً، ومادام هناك فلسطينية تلد، وأمة لم تتنازل عن فلسطينها، فلا مستقبل لهم في هذه المنطقة، لذا فدونما شطب كامل للوجود الفلسطيني مادياً ومعنوياً، وهو محال، أو هزيمة وتسليم عربي كامل بها، يتبعهما تطبيع بمعني إثبات القبول حد التبعية، وهو رغم واقع الحال الشائن، وقياساً على الشعبي لا الرسمي محال، ستظل أي خطوة تطبيعية صغرت أم كبرت هي أكبر من حجمها، لأنها عندهم بعض من حبل نجاة مأمول وإن غير موثوق لديهم.. وعليه، كذب نتنياهو وصدق، لكنما الأصدق منه هم من جنرالاته ونخبه، وهم غير قليل، ونأخذ مثلين:
يقول جنرال الاحتياط يتسحاق بريك، واصفاً حال الكيان ومستقبل الصراع في المنطقة على ضوء المتغيّرات والتحوّلات الجارية فيها، والتي هي عندي مواكبة بالضرورة لتنامي ثقافة المقاومة بالتوازي والتضاد مع استشراء الإنهزامية: “البيت (يعني الكيان) ما زال قائماً، لكن التصدُّع في الذروة”، لماذا؟ لأن “قواعد الاشتباك في المنطقة تغيرت”.. كيف؟ أصبح الكيان الآن “قدرة هجومية هائلة إلى جانب قدرة دفاع صفرية”..
وقبل الجنرال بريك بثلاث أعوام سبق المحلل السياسي المعروف، آري شافيط، في مقال له في “هآرتس” عام 2017، فقال: إن “إسرائيل كدولة تلفظ أنفاسها الأخيرة”، ويتابع، وإن “الإسرائيليين هم حصيلة كذبة اخترعتها الحركة الصهيونية حول المحرقة وأرض الميعاد”، وعليه، “وإذا كانت الإسرائيلية واليهودية ليستا عاملين حيويين في الهوية، وإذا كان هناك جواز سفر أجنبي، ليس فقط بالمعنى التقني، بل بالمعنى النفسي أيضاً، فقد انتهى الأمر، يجب توديع الأصدقاء والانتقال لسان فرانسسكو أو برلين”..