هل ثمةَ ما يُخبأ للوجود الفلسطيني في لبنان؟
(هل حقاً أن اللاجئين الفلسطينيين مسؤولون عن التوترات والصراعات والحروب التي عاشها لبنان واللبنانيون على مدار العقود الماضية كما يدعي البعض؟)
محمود كعوش*
كما هو الحال مع اليمين اللبناني عامة ظلّ الكتائبيون على الدوام، “بمن فيهم حزب القوات اللبنانية الذي كان ذراع حزب الكتائب العسكري قبل أن يفك ارتباطه به ويتحول إلى حزب مستقل تزعمه سمير جعجع،” يرون في الوجود الفلسطيني فوق الأراضي اللبنانية “عاملاً مؤسساً للتوترات والصراعات والحروب التي عايشها لبنان واللبنانيون” على مدار العقود الزمنية التي تلت عام 1948، التي شكلت تاريخ نكبة فلسطين والفلسطينيين وتشتتهم في ديار الغربة التي كان من بينها لبنان الذي حظي بالنصيب الأكبر منهم بحكم الأخوة والحدود المشتركة والمصير المشترك في الإطار القومي الأشمل.
وفي الفقرة التالية التي أقتطفها من مقال تحليلي حمل عنوان “الاستقرار حيال الخارج: أعطونا السلام وخذوا ما يدهش العالم” ونشره الموقع الرسمي لحزب الكتائب في الثاني من أيار/مايو 2009 ما يدلل على هذه الرؤيا الخاطئة. جاء في الفقرة ما حرفيته: “تكتسب قضية اللاجئين الفلسطينيين الذين هجِّروا إلى لبنان عام 1948 أهميّةً قصوى في الاستراتيجيا السياسية والديموغرافية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية اللبنانية. وقد عايش لبنان توترات وصراعات وحروباً كان فيها العامل الفلسطيني عاملاً مؤسساً لها، وخصوصاً منذ توقيع اتفاقية القاهرة في عام 1969 وحتى يومنا هذا رغم إلغاء المجلس النيابي اللبناني تلك الاتفاقية. وبقيت هذه القضية محطّ التباس ومطيّة تجاوزات، كما أُهمل الملفّ على مدى الثلاثين عاماً الماضية. أما منذ العام 2005 فقد انطلقت رؤيا جديدة في العلاقات اللبنانية-الفلسطينية، وكانت ثمرتها في تشكيل “لجنة الحوار اللبناني-الفلسطيني” على قاعدة تلاقي الشرعيّتين اللبنانية والفلسطينية وإعادة بناء جسور الثقة في المصارحة، وتفعيل الجهود الديبلوماسية لدعم حق العودة، والتأكيد على مسؤولية المجتمع الدولي في تحسين أوضاع اللاجئين الفلسطينيين حتى عودتهم بحسب القرار الدولي 194 إلى دولتهم الواجب أن تقوم حقاً بحسب القرار الدولي 181.
من هنا نرى أنه لا بد من:
- التأكيد على مبدأ سيادة الدولة اللبنانية على جميع أراضيها، سيادة لا يكون تجزئة فيها ولا انتقاص منها، ووجوب نزع السلاح الفلسطيني خارج المخيّمات وداخلها.
- إعلان مخيمات اللاجئين الفلسطينيين مناطق آهلة لا تخضع إلا لسلطة وحماية القوى العسكرية اللبنانية المولجة هذا الأمر و إنشاء مراكز عسكريّة للجيش داخل كل المخيّمات الفلسطينية، فلا تبقى تلك المناطق بؤراً أمنية خارجة على سلطة القانون. كما أنّ وجود الجيش داخل المخيّمات يلغي حجّة البعض بأنّ على الفلسطيني الاحتفاظ بالسّلاح للدّفاع عن نفسه، فالجيش هو الكفيل و الضاّمن الوحيد للدّفاع عن كل من يتواجد على الأراضي اللّبنانية.
- إجراء تعداد ودراسات لعدد الفلسطينيين وأوضاعهم في لبنان في كل المجالات الديمغرافية والقانونية والاقتصادية، لبلورة موقف لبناني على أسس علمية ثابتة.
- إطلاق مؤتمر دولي حول قضية اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، على أساس مبدأ حق العودة، توصلا الى خطة شاملة من أجل توزيع أعباء الوجود الفلسطيني في لبنان على كامل الدول الصديقة.
- السعي لفتح أسواق العمل والتخصص أمام اللاجئين الفلسطينيين في مختلف البلدان العربية وفق قدرات استيعاب كل منها.
- منح اللاجئين الفلسطينيين حقوقهم الإنسانية كاملةً بما لا يتعارض مع ما ورد في الدستور اللبناني حول مبدأ رفض التوطين. فهذه الحقوق غير خاضعة لأي مبدأ مقايضة أو مفاوضات، وهي تسهم في استقرار لبنان وتعزيز صورته لجهة احترامه حقوق الإنسان، بصفته البلد العضو المؤسس في جامعة الدول العربية والأمم المتحدة، والمشارك في صياغة شرعة حقوق الإنسان.
- إعادة ترميم العلاقات اللبنانية – الفلسطينية على قاعدة المصارحة والمصالحة المتبادلة، واحترام سيادة واستقرار واستقلال لبنان.
- تعزيز التمثيل الدبلوماسي بين لبنان وفلسطين”.
هذا الكلام يقود إلى طرح السؤال التالي: ما مدى حقيقة ما يذهب إليه الكتائبيون واليمينيون اللبنانيون بشكل عام في رؤيتهم للوجود الفلسطيني فوق الأراضي اللبنانية، وهل حقاً أنهم صادقون ومحقون في ما يذهبون إليه حول إشكالية العلاقة اللبنانية الفلسطينية وتحميل الفلسطينيين مسؤولية التوترات والصراعات والحروب التي عاشها لبنان واللبنانيون على مدار العقود الستة الأخيرة؟
لتجنب الغوص في معطيات وحيثيات كثيرة ومعقدة قد تدخلنا في متاهات يصعب الخروج منها بالسهل أرى أن تكون الإجابة على هذا السؤال من حيث انتهت إليه مأساة مخيم نهر البارد للاجئين الفلسطينيين في شمالِ لبنان قبل ثلاث سنوات، باعتبارها علامة فارقة في العلاقات اللبنانية الفلسطينية ومحطة رئيسية من محطات هذه العلاقة، ولأن ارتداداتها السلبية لم تزل تتفاعل بين اللبنانيين والفلسطينيين على حد سواء حتى اللحظة الراهنة.
فيوم أصدرت الحكومة اللبنانية السابقة برئاسة فؤاد السنيورة أوامرها للجيش اللبناني، في شهر تموز/يوليو 2007، ليفعل ما فعله بذلك المخيم، بحجة استئصال إرهابيين من حركة “فتح الإسلام” كانوا يتواجدون في داخله، كان لبنان الرسمي مثقلاً بضغوط المحافظين الجدد وصقور اليمين الصهيوني المتطرف في كل من بيروت وواشنطن من جهة أولى، وكابوس عقدة إشكالية العلاقة التاريخية بين الدولة اللبنانية والفلسطينيين من جهة ثانية، وإلحاح التعهدات التي سعت إليها الحكومة “العتيدة” راغبة وألزمت نفسها بها تجاه المجتمع الدولي وعلى وجه الخصوص إدارة الرئيس الأميركي السابق الأرعن جورج بوش الابن من جهة ثالثة.
وكما هو معروف فإن إشكالية العلاقة بين الدولة اللبنانية والفلسطينيين قفزت إلى السطح بشكل جدي وواضح مع عقد “اتفاق القاهرة” الشهير بين الطرفين في الثالث من شهر تشرين الثاني/نوفمبر 1969 برعاية الزعيم العربي الكبير الراحل جمال عبد الناصر والذي بموجبه تم ضبط الوجود الفلسطيني المسلح فوق الأراضي اللبنانية.
فمع اللحظات الأولى للتوقيع على الاتفاق في ذلك التاريخ انقسم اللبنانيون إلى فريقين متخاصمين، الأول شمل اليسار الوطني المسحوق وقد رحب وقتها بالاتفاق على أساس أن القضية الفلسطينية هي قدر فرضته الجغرافيا السياسية والتاريخ والآلام والآمال المشتركة بين لبنان وفلسطين بحكم الانتماء العربي الواحد، والثاني شمل اليمين الانعزالي الرأسمالي إضافة إلى المؤسسة الرسمية طبعاً وكان قد قبله مجبراً تحت ضغط رجحان ميزان القوى التي حكمت الساحة اللبنانية آنذاك مع ظهور الثورة الفلسطينية كقوة فاعلة ومؤثرة، لا سيما وأنه مع بدء حمل الفلسطينيين السلاح في عقد الستينات من القرن الماضي كانت “إسرائيل” قد شرعت في استباحة أرض الجنوب فيما كانت المؤسسة الرسمية اللبنانية عاجزة عن الرد على اعتداءات جيشها المتكررة وغير المبررة.
وباعتبار أن التعايش اللبناني الرسمي مع الوجود الفلسطيني المسلح كان محكوماً بذلك الاتفاق الذي قبلته المؤسسة الرسمية اللبنانية على مضض، فقد تركزت جهود الحكومات اللبنانية التي تعاقبت على السلطة في بيروت على اغتنام الفرص واقتناص الظروف التي تيسرت لها وتوظيفها لخدمة تحجيم ما اعتبرته “سلطة موازية ومناقضة” لسلطتها، الأمر الذي تسبب في مواجهات عسكرية طاحنة في ما بين السلطتين، عادة ما كانت تشهدها المخيمات الفلسطينية والمعسكرات التي كانت تابعة للثورة الفلسطينية بموجب الاتفاق من وقت لآخر، مما ضاعف من تراكم حساسية المؤسسة الرسمية اللبنانية تجاه الوجود الفلسطيني بشكليه المدني والمسلح. وقد اتفق المحللون على أن “اتفاق القاهرة” شكل أحد أهم وأخطر العوامل السياسية والأمنية التي ساهمت في إذكاء سعير الحرب الأهلية المريرة والمدمرة التي شهدها لبنان بين عامي 1975 و1989. لماذا؟ لأن “الجبهة اللبنانية” التي شكلها الثلاثي الانعزالي كميل شمعون زعيم حزب الأحرار وبيار الجميل زعيم حزب الكتائب وريمون إدة زعيم حزب الكتلة الوطنية لمواجهة الحركة الوطنية اللبنانية التي كانت تحتضن الوجود الفلسطيني المسلح في لبنان نجحت في إقناع المسيحيين الموارنة وغالبية المسيحيين الآخرين بأن “اتفاق القاهرة” مثل “خطيئة مارونية كبرى” في تاريخ لبنان لأن قائد الجيش إميل البستاني ورئيس الجمهورية شارل الحلو منحاه الشرعية” من خلال توقيعهما عليه، وشكلت منهم وحدة متراصة في مواجهة تطبيقه.
فتحت عنوان هذا الاجتهاد الخبيث والمفتعل حوَّل حزب الكتائب الاتفاق إلى مادة دعائية دسمة طوعها لخدمة مآربه الخاصة وافتعال الحرب الأهلية “باعتبار أنها حرب وقائية” حسب زعمه. وهكذا كان له ما أراد، فنجح في فتح الوضع اللبناني على فضاء واسع من الفوضى، تطلبت من كل طرف من أطراف الحرب البحث عن الوسائل والآليات اللازمة لتحصين نفسه والحفاظ على بقائه وديمومته، وفق رؤية “مركز المعلومات الوطني الفلسطيني”.
وبما أن ثلاثة من المخيمات الفلسطينية كانت موجودة في المنطقة الشرقية من بيروت هي “تل الزعتر وجسر الباشا والضبية” قد تعرضت لمسلسل من المجازر والمذابح الوحشية والبربرية قبل أن تفرغ من أهلها وتدمر تماماً من قبل حزب الكتائب وحلفائه في الجبهة اللبنانية التي كانت قد تمددت لتشمل جميع التجمعات المسيحية، كان لا بد من أن يبحث الفلسطينيون بدورهم عن الوسائل اللازمة لتحصين أنفسهم والحفاظ على وجودهم في لبنان، باعتباره أحد المنافي المؤقتة لهم.
ومع التحولات التي طرأت على الوجود الفلسطيني بشكليه المدني والمسلح على خلفية الاجتياح الصهيوني للبنان في عام 1982 وما ترتب على ذلك الاجتياح من نتائج وإرهاصات كانت في غير مصلحة ذلك الوجود، اضطرت منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني إلى الانحناء أمام العاصفة والرضوخ لمطلب الحكومة اللبنانية المدعوم من قبل اليمين الانعزالي ـ الرأسمالي وقوى إقليمية ودولية، والتسليم بالأوضاع الجديدة التي أفرغت “اتفاق القاهرة” من مضمونه، والقبول بالضمانات الوهمية التي قدمها لها المبعوث الأميركي فيليب حبيب.
لكن مع سقوط تلك الضمانات في مستنقع الدم الطاهر والبريء الذي أحدثته مجزرة صبرا وشاتيلا التي ارتكبها أفراد من “القوات اللبنانية”، التي كانت تعتبر الذراع العسكري لحزب الكتائب والتي كان يقودها في حينه العميل إيلي حبيقة، بإشراف مباشر من الإرهابي آرئيل شارون في شهر أيلول من ذلك العام وبعد أيام قليلة فقط من مغادرة المقاتلين التابعين لمنظمة التحرير الفلسطينية لبنان إلى المنافي الجديدة، تولد سجال جديد وحاد بين الحكومة اللبنانية وقيادة المنظمة بشأن أمن المخيمات الفلسطينية، بلغ ذروته عندما أقدم مجلس النواب اللبناني على إلغاء “اتفاق القاهرة” في جلسة خاصة عقدها لهذا الغرض في 21 أيار/مايو 1987.
لكن دخول منظمة التحرير الفلسطينية كقوة فصل فاعلة على خط المواجهة المسلحة بين حزب الله وحركة أمل في معارك إقليم التفاح ساعد في صياغة علاقات لبنانية فلسطينية جديدة ارتكزت في ديمومتها على الحوار والتفاهم الدائمين بين الحكومة اللبنانية وقيادة المنظمة.
هذه العلاقات غير المحكومة باتفاق مماثل ل”اتفاق القاهرة” ظلت عرضة للرياح المتقلبة التي هبت على لبنان بدءاً باتفاق الطائف الذي أقر في 30 أيلول/سبتمبر 1989، مروراً بالقرارين الدوليين 1559 لعام 2004 و 1680 لعام 2006، وصولاً إلى القرار الدولي 1701 الذي أصدره مجلس الأمن في 11 آب/أغسطس 2006 لحفظ ما تبقى من ماء وجه جيش الحرب “الإسرائيلي” وحكومة أيهود أولمرت وقتذاك بعد فشل عدوانهما الأخير على لبنان وهزيمتهما المنكرة أمام المقاومة اللبنانية البطلة.
فالفقرة التنفيذية الثالثة من القرار الأخير تقول ما حرفيته: يشدد “مجلس الأمن” على أهمية بسط سيطرة الحكومة اللبنانية على الأراضي اللبنانية كاملة تماشياً مع أحكام القرار 1559 لعام 2004 والقرار 1680 للعام 2006 وبنود اتفاق الطائف ذات الصلة، كي تمارس سيادتها كاملة، فلا يعود هناك سلاح من دون موافقة الحكومة اللبنانية ولا سلطة غير سلطتها.
لذا ومما تقدم يمكن القول أنه إذا ما استمر اليمين اللبناني، بما فيه الكتائبيون طبعاً، في تحميل اللاجئين الفلسطينيين وزر ما تؤول إليه الأوضاع في لبنان من فوضى وعدم استقرار بين الحين والآخر لتبرير مخططاتهم الجهنمية، وإن صدق حدسي وحصل المحظور، لا قدَّر الله، فسيكون هذه المرة بذريعة التوطين والحرص على الصيغة اللبنانية وعدم الإخلال بالتركيبة السكانية للشعب اللبناني، وفي ظل حكومة لبنانية يرأسها شخص يحظى بدعم عربي وإقليمي ودولي يفوق كثيراً الدعم الذي توفر لفؤاد السنيورة، الذي كان قد وصل إلى رئاسة الحكومة في لبنان عن طريق المصادفة البحتة إثر اغتيال الراحل رفيق الحريري والد رئيس الحكومة الحالي سعد الدين الحريري.
لقد بدأ تدمير المخيمات الفلسطينية في لبنان بذريعة إسقاط “اتفاق القاهرة” وتواصل بذريعة استئصال منظمة “فتح الإسلام” فهل ينتهي بذريعة إفشال “التوطين”، الذي سعت إليه “صفعة القرن” الترامبية الخيانية، مع العلم أن الفلسطينيين دأبوا على رفضه بشكل قاطع؟ وهل حقاً أن هناك ما يخبأه البعض للفلسطينيين ومخيماتهم المتبقية في لبنان؟ سؤالان تبقى الإجابة عليهما مرهونة بتبلور الأوضاع وتطور الأحداث في لبنان والمنطقة بشكل عام؟
*كاتب وباحث فلسطيني