تحاليل و تقارير ساخنه
قصة المنحة القطرية لغزة
منذ ثماني سنوات واسم قطر يتردّد في غزة كثيراً، بعدما صارت مموّلاً أساسياً للمشاريع القائمة في القطاع. لكن مساهمات الدوحة، التي لمع اسمها في مجال البنى التحتية تحديداً، تراجعت في العامين الأخيرين، وخصوصاً على صعيد الإعمار، وتحوّلت إلى دعم موظفي غزة لأشهر محدودة، ثم إلى الأسر الفقيرة. وحتى هذه المساعدات صار صرفها موقوتاً بالتهدئة، إن لم يكن مشروطاً بها، ما يؤشر إلى الطابع السياسي لما يُقدّمه القطريون للغزّيين
شهد عام 2012 بداية الدور القطري في تقديم المنح المالية الكبيرة إلى قطاع غزة، بعدما زار الأمير السابق لقطر، حمد بن خليفة، القطاع، وأعلن صرف مبلغ 407 ملايين دولار للإنشاءات والبنى التحتية فيه، قبل أن يرفع المبلغ إلى مليار في «مؤتمر إعمار غزة» الذي عُقد في العاصمة المصرية القاهرة بعد حرب عام 2014. منذ تلك السنة (2012)، دُشّنت «اللجنة القطرية لإعادة إعمار غزة»، والتي كانت مهمّتها متابعة أوجه صرف الأموال، لكنها في وقت لاحق باتت تؤدي دوراً سياسياً وميدانياً، بعدما صارت المشرفة على دفعات مالية اعتُبرت جزءاً من تفاهمات التهدئة منذ نحو عامين، في حالة ولّدت جدلاً سياسياً، داخلياً وخارجياً، على مدار محطّات مختلفة. وبينما كانت الدوحة تصرف «مساعدات» لغزة، فإنها كانت تستثمر أموالاً في الضفة المحتلة، حيث ساهمت في تدشين مدينة روابي (10 كلم شمالي مدينة رام الله وسط الضفة) التي خُصّصت آنذاك للسكن الدبلوماسي كما قيل، لكن هذه المساهمة لا يأتي على ذكرها القطريون أو حتى السلطة الفلسطينية. وقُدّرت التكلفة الإجمالية للمدينة التي بدأ العمل فيها مطلع 2010 بـ 1.2 مليار دولار (لم يُعرف تحديداً مقدار مساهمة الدوحة فيها)، والآن تعمل في معظمها شركات إسرائيلية باستثمار قطري ومشاركة رجل الأعمال الفلسطيني ــــ الأميركي بشار المصري.
كيف صُرفت المنحة؟
وفق المعلومات المتوافرة، جُلّ ما تَقرّر صرفه منذ 2012 حتى 2019 هو 707 ملايين دولار، قبل أن تُجدَّد المنحة في عام 2020، وتبدأ بصرف 16 مليون دولار عن الشهر الماضي (12 مليوناً للأسر الفقيرة، مليونان لتزويج الشباب، مليونان لتخليص الشهادات الجامعية ولترميم منازل الفقراء)، ليصل إجماليّ المنح المعلنة في خلال سبع سنوات إلى 723 مليوناً، في حين أن الأشهر التالية من هذه السنة لم تُحدّد مبالغ لها، علماً بأن مخصّصات كلّ شهر على مدار السنوات السابقة كانت متغيّرة. واستطاعت «الأخبار» الحصول على تفصيل لما صُرف سابقاً من مصادر في «اللجنة القطرية»، وهو كما يلي: في 2012 منحة إعادة إعمار بقيمة 407 ملايين، في 2013 خمسة ملايين للمساعدة في إصلاح الأضرار الناجمة عن منخفض جوي قوي، في 2014 (بعد الحرب) 30 مليوناً، في 2015 50 مليوناً لإعادة الإعمار. أما في 2016، فساهمت الدوحة في دفع جزء من رواتب موظفي «حكومة غزة» السابقة بقيمة 31 مليون دولار، ثم في 2017 قَدّمت 12 مليوناً لدعم «كهرباء غزة»، ومن بعدها في شباط/ فبراير 2018 خَصّصّت تسعة ملايين كـ«منحة إغاثة إنسانية»، تبعتها بعد شهرين منح خدمية وإنسانية بقيمة 13.7 مليوناً. أما من 10/2018 حتى 3/2019، فأُعلن صرف 150 مليوناً لدعم الكهرباء وموظفي غزة والأسر الفقيرة، ليصل الأمر إلى منحة هذا العام التي صُرف منها 16 مليوناً.
الدفعات منذ 2014 هي «جزء من منحة المليار» وليست من خارجها
تجديد المنحة هذه السنة لم يكن الأول من نوعه؛ إذ مع قرب انتهاء صرف ما أُعلنت نية دفعه في 2018، جرى التجديد في 2019 بعد ضغوط عدة. وتقول أوساط سياسية إن قرار التجديد لهذه السنة جاء من الأمير تميم بن حمد نتيجة اتصالات أجرتها «حماس» التي يمكث رئيس مكتبها السياسي، إسماعيل هنية، حالياً في الدوحة، معه، فيما تنسب “إسرائيل” إلى نفسها ضمناً إقناع القطريين بمواصلة دفع الأموال لغزة كما جاء في ما كُشف من فحوى زيارة رئيس جهاز «الموساد»، يوسي كوهين، وقائد المنطقة الجنوبية في الجيش الإسرائيلي، هرتسي هليفي، مطلع الشهر الماضي، إلى قطر. وفي لقاء مع قناة «روسيا اليوم» مساء أمس، قال هنية حول هذه النقطة: «ليس لدينا أي معلومات حول ما تحدث به (الوزير الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان) عن زيارة وفد إسرائيلي لقطر. الإخوة في قطر لديهم التزام عروبي تجاه شعبنا وغزة، وقدموا مساعدات ثابتة ودورية خلال سنوات الحصار. قطر وغيرها من الدول العربية الشقيقة التي تقف بجانبنا ليست بحاجة إلى إلحاح إسرائيلي لتقوم بواجبها»، مضيفاً: «كنت في قطر والتقيت سموّ الأمير ووزير الخارجية وتحدثنا معهم. نحن تقدمنا بطلب لاستمرار المنحة الشهرية، وزيادتها. مشكورون الإخوة وافقوا وبدأوا بالتنفيذ». وعن تصريحات ليبرمان، أجاب: «أعتقد أن هذا الحديث هو جزء من الصراع الانتخابي الإسرائيلي، وفي ظلّ هذا الصراع كلّ شيء متوقع». أيّاً يكن، سبق للمندوب القطري، محمد العمادي، أن قدمّ توضيحاً مهمّاً عندما قال في لقاء صحافي في غزة (أيار/ مايو 2017) إن الدفعات التي يقدّمها بلده منذ 2014 هي «جزء من منحة المليار» التي أعلنها الأمير الأب وليست من خارجها، أي أن ما يمكن أن يقدّمه بلده لاحقاً لن يتخطى قرابة 300 مليون كان الأصل أن تُنفَق على الإعمار. ولوحظ أنه في 2018 و2019 توقفت مسيرة الإعمار بشكل شبه كامل. وسبقت ذلك إجراءات اتخذتها السلطة الفلسطينية بحق موظفيها في غزة، ليتقلّص بموجبها نحو 20 مليون دولار من مدخول السوق الغزّي، تزامناً مع خطوات أخرى مشدّدة اتخذتها الولايات المتحدة ودول عربية للتضييق على غزة عامة وحركة «حماس» خاصة. تضييق تصاعد خاصة بعد وصول يحيى السنوار إلى رئاسة الحركة في غزة، لتأتي «مسيرات العودة الكبرى» في آذار/ مارس 2018 وتُشكّل ضغطاً دفع الإسرائيليين إلى التنسيق مع القطريين وتمديد المنحة.
مذّاك، يرافق المنحة صخبٌ كبير حول أهدافها وطريقة دخولها، سواء على الساحة السياسية والإعلامية الإسرائيلية أو الفلسطينية. إذ إن المنحة تأتي على شكل أموال نقدية يحملها في حقائب خاصة إلى إسرائيل المندوب القطري، أو نائبه خالد الحردان، عبر مطار بن غوريون في تل أبيب، لتَدخُل بعدها من حاجز «بيت حانون ــــ إيرز» بين غزة وفلسطين المحتلة عام 1948. واشتغلت إسرائيل على تخصيص المنحة لموظفي غزة فقط، في محاولة لتقييد «حماس» في أوج «مسيرات العودة»، ما دفع الحركة إلى رفض الشرط الإسرائيلي، والطلب تقسيم الأموال على ثلاث فئات: عشرة ملايين دولار للموظفين، وعشرة ملايين للجرحى وأسر الشهداء، وعشرة ملايين للأسر الفقيرة. وعلى إثر ذلك، طلبت إسرائيل رؤية كشوف المستفيدين مسبقاً من أجل منح موافقتها على من يُصرَف له، وهو ما جعل «حماس» ترفض خلال صرف الدفعة الثالثة تسلّم الجزء المخصّص للموظفين، ليجري التوافق بينها وبين القطريين على تحويل هذا الشق من الأموال إلى «وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين» (الأونروا)، أي تخصيص 20 مليون دولار لتوفير قرابة 6400 وظيفة مؤقتة، إضافة إلى مساعدة الحالات الفقيرة.
من بعدها، صار المستفيدون من المنحة حصراً هم الأسر الأشدّ فقراً والفقيرة، والتي يتراوح عددها ما بين 60 ألفاً و120 ألفاً كأقصى حدّ في كلّ دفعة، والرقم الأخير تَحقّق في كانون الثاني/ يناير 2019 وكذلك في الشهر الماضي، فيما كانت أعداد الأسر المستفيدة في الأشهر الأخرى 80 ألفاً كمعدّل وسطي، على أن الاتفاق الحالي هو ألّا ينقص العدد عن مئة ألف أسرة في كلّ دفعة من هذا العام، تبعاً لأوساط متابعة. ويجري إعداد كشوف الأسر الفقيرة عبر وزارة الشؤون الاجتماعية، ضمن معايير منها ألّا يكون المستفيد موظفاً أو يتقاضى مساعدات الشؤون الاجتماعية في رام الله، وهو ما يخضع أيضاً لمتابعة العمادي أو نائبه في بعض الأحيان، كما أن الهيئات المعنية في الفصائل تقدّم عدداً من الأسماء. ويستفيد أشخاص من المنحة على مدار أشهر متتالية (ثلاثة أو أربعة)، أو يجري إدخالهم لاحقاً عبر الكشوفات ضمن المعايير، لكن الكشوفات في مجملها لا تتغير كثيراً. و«اللجنة القطرية» ترسل بدورها الكشوف إلى سلطات الاحتلال التي حجبت مئات الأسماء بذريعة انتمائها إلى الفصائل، وهو ما يفسّر تقلص عدد المستفيدين تباعاً. أيضاً، تمرّ المساعدات القطرية عبر آليات محدّدة؛ فمثلاً تشغيل محطة توليد الكهرباء يمر عبر الأمم المتحدة، فيما تمر المساعدات النقدية للأسر الفقيرة عبر «حكومة غزة» السابقة وتسلّم في مكاتب البريد.
تقدَّمت مساعدات الدوحة على غيرها في غزة، لكنها لم تؤسّس لتنمية
في الوقت نفسه، تنفي مصادر متابعة إجراء عملية «البصمة» للمستفيدين، أو وجود بصمات تذهب إلى إسرائيل، قائلة إن هذا الحديث أطلقته مواقع تابعة لحركة «فتح» في بداية صرف المنحة، لكنها لا تنفي أن الآلية ككلّ يَطّلع عليها العدو. من جهة أخرى، يوازي الدعمَ القطري لغزة دعم آخر تقدّمه الدوحة للسلطة في رام الله، إذ خَصّصت لها في أيار/ مايو الماضي 480 مليون دولار، صُرف منها 300 مليون لميزانية السلطة التي استفادت أيضاً من «آلية روبرت سيري» للإعمار باحتكار توريد الاسمنت المُقدَّم إلى غزة. كذلك، تواصل الدوحة استثماراتها هناك، إذ تتشارك مع «صندوق الاستثمار الفلسطيني» التابع للسلطة في أسهم شركة «أوريدو للاتصالات» العاملة في فلسطين، علماً بأن العمادي سبق أن كشف في لقاء مع الصحافيين في 2017 عن علاقة اقتصادية تربط شركاته مع شركة «الدوحة» التابعة لابنَي رئيس السلطة، ياسر وطارق عباس.
غياب التنمية والدور السياسي
تقول مصادر سياسية إن أوجه صرف المنحة تتحكّم بها الجهات المانحة، في وقت تضطر فيه الفصائل إلى قبول ذلك للتخفيف من واقع القطاع المتردّي اقتصادياً واجتماعياً. لكن المُسلّم به أن أوجه الصرف إغاثية في أحسن الأحوال، ولا تحقق تنمية حقيقية. فعلى صعيد البنية الإسكانية مثلاً، عمل القطريون على تخصيص بعض الشقق للأسر الفقيرة، فيما وُضعت بقية الشقق المستفيدة ضمن نظام الدفع الميسّر لمصلحة صندوق خُصّص لاستكمال بناء المرحلة الثالثة من مدينة حمد، على رغم صدور بيان عن العمادي في تشرين الثاني/ نوفمبر 2015 قال فيه إن بلاده ستستكمل بناء المرحلة الثالثة من المدينة بنفسها. أيضاً، وعلى رغم تخصيص منحة لشراء الأدوية والمستلزمات الطبية، لا تزال البنية الصحية في غزة تفتقر الى أجهزة متخصصة يحتاج إليها السكان على صعيد الأمراض الخطيرة كالسرطان أو فحص الأشعة الذرية. حتى «مستشفى حمد»، الذي أُنشئ للأطراف الصناعية، حَوّل المئات من المصابين للعلاج في الخارج بسبب ضعف إمكاناته. كما أن الإعلان القطري الأخير عن إنشاء مستشفى في رفح بقيمة 24 مليون دولار جاء كتبرّع تقدمت به مواطِنة قطرية، أي أنه ليس ضمن المنحة الأميرية، كما تقول المصادر.
بصورة عامة، منذ سنوات، تساهم المنحة في تسكين البطالة والفقر ــــ من دون علاج لهما ــــ في أشهر محدّدة، ومع ترقّب لكلّ شهر بشهره. كما أن الأموال تُصرف ضمن مساعدات وليس كمشاريع تشغيلية، ما يعني عملياً أنها لا تحقق تنمية صناعية أو زراعية أو حتى على صعيد المشاريع الصغيرة. ومع أن المنح القطرية تَقدّمت إلى حد كبير على غيرها لناحيتَي الكمّ والمدة، إلا أنها لم تتخطَّ المساهمة الإغاثية، ثم تحوّلت إلى شرط للتهدئة الميدانية بين المقاومة والعدو، من دون التأسيس لبنية تنموية في القطاع. ولهذا السبب، تصرّ «حماس» على استكمال المرحلة الثالثة من تفاهمات كسر الحصار، لا الاكتفاء بالمنحة القطرية، وفي مقدمة تلك المرحلة استكمال تشغيل محطة الكهرباء بالغاز الذي يشرف على تمويلها القطريون بقيمة 25 مليون دولار، وتدشين بنى صناعية تحتية والطاقة الشمسية. لكن الدوحة تتذرّع بالأوضاع الداخلية الإسرائيلية التي تحول بحسبها دون تنفيذ ذلك.
الأخبار اللبنانية