يوم المرأة العالمي بين قيود التقاليد وقمع الاحتلال في فلسطين
تيسير خالد *
انطلقت في فلسطين نهاية العام الماضي حملة تحريض ، لا تخلو من الافتعال ، ضد اتفاقية القضاء على كافة أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو) . وقد أثارت تلك الحملة مجموعة من التساؤلات حول توقيتها خاصة وأنها جاءت متأخرة خمسة أعوام على توقيع دولة فلسطين على تلك الاتفاقية. بيانات صدرت ضد انضمام فلسطين الى تلك الاتفاقية ، وعشائر اجتمعت وأكدت رفض تطبيق الاتفاقية في فلسطين ، وأعلنت البراءة التامة منها وما يترتب عليها ودعت في مواقف تثير الاستهجان الى إغلاق جميع المؤسسات النسوية ، ووصل الأمر حدود تحذير القضاة من الالتزام بقرار الحكومة رفع سن الزواج ودعت الصحفيين الى الامتناع عن تغطية أنشطة المؤسسات النسوية ، الأمر الذي شكل مسا خطيرا بالقانون و تحريضا على العنف . كان ذلك التحريض على اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة “سيداو” مغرض وخرج عن المألوف وهيأ ارضية تجيز الاعتداء على النظام العام ومبادئ وقيم حقوق الإنسان وعلى المؤسسات النسوية ومؤسسات المجتمع المدني وسيادة القانون والدولة المدنية وقيم المجتمع المدني . واعتمدت حملة التحريض تلك على كم هائل من التضليل ونشر معلومات خاطئة حول الاتفاقية والمبادئ الواردة فيها وعكست ألوانا متعددة من المتاجرة الدينية والثقافية والتلاعب بالمشاعر الاجتماعية وبالعادات والتقاليد والمشاعر الوطنية .
وفي سياق رب ضارة نافعة جاءت ردود الفعل على حملة التحريض تلك تؤكد وعيا وطنيا متقدما بسماته الاجتماعية والحقوقية والسياسية الوطنية لتوضح أن انضمام دولة فلسطين الى اتفاقية ( سيداو ) كان إنجازا وطنيا يجب حمايته والبناء عليه ، خاصة وإن 190 دولة عضو في الأمم المتحدة قد صادقت عليها ومن بينها 54 دولة تنتمي إلى منظمة التعاون الإسلامي ومن بينها دول الخليج العربي ، مع بعض التحفظات على المواد 2 ، 7 ، 9 ، 15 ، 16 فضلا عن المادة 29 الخاصة بالتحكيم بين الدول . فقد صادق على الاتفاقية كل من المملكة العربية السعودية عام 2000 ومملكة البحرين عام 2002 ودولة الإمارات العربية المتحدة عام 2004 وسلطنة عمان عام 2006 ودولة قطر عام 2009 ، وكانت دولة الكويت أقل هذه الدول تشددا في تحفظاتها على مواد تلك الاتفاقية . وكان ذلك منطقيا خاصة وأن المادة (28) من اتفاقية (سيداو) تجيز التحفظ على بنودها ،باستثناء تلك المنافية لغرض الاتفاقية وهو المساواة في الحقوق والواجبات بين المرأة والرجل .
في حينه دعونا جهات الاختصاص في منظمة التحرير الفلسطينية ودولة فلسطين الى التعامل بكل مسؤولية مع التزامات دولة فلسطين ووضع حد لكل من يحاول أخذ القانون باليد بحجة الدفاع عن الدين والأعراف والتقاليد والبدء بتطبيق الاتفاقية ووضع تشريعات صارمة لحماية الأسرة من العنف ، والحد من حالات قتل النساء بداعي الشرف وإعادة قراءة القوانين والتشريعات التي تنطوي على كثير من التمييز بين المرأة والرجل في الحقوق والواجبات وفتح حوار مجتمعي يضم جميع الأطراف ذات العلاقة ، لمناقشة أية قضايا تتعلق بمواءمة التشريعات الوطنية مع متطلبات الاتفاقية وعدم التردد بنشر الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان التي انضمت إليها دولة فلسطين ، بما فيها اتفاقية ( سيداو ) في جريدة الوقائع الرسمية الفلسطينية ومواءمة التشريعات النافذة مع مضمون الاتفاقية .
كان ذلك ضروريا وما زال ، فليس في تراثنا ما يدفعنا للتردد . ففي الأصل كانت مكانة المرأة كمكانة الرجل في الاسرة البشرية ، لم تكن ملكاً ولم تكن سلعة . لأنها في الأصل حجر الزاوية في المجتمع ، تعي كما الرجل معنى الحريات ، والحقوق ، والمساواة . أما محاولة تحجيم دورها وحصره في جوانب حياة معينة فقد جاءت لاحقا في سياق التطورات التي دخلت على وسائل وملكية الإنتاج ، وهذه المحاولة هي التي أوصلت عديد المجتمعات إلى أدنى مستويات سلم التطور في عالمنا المعاصر. وغني هنا عن القول أن محاولة فرض انماط سلوكية تقليدية على المرأة لا تتماشى مع روح العصر ، لأن ذلك يبعث فيها روح التمرد بالتأكيد .
وعودة الى التاريخ القديم في هذه البلاد وفي المنطقة كذلك ، فقد كان للمرأة مكانة خاصة وعظيمة في حضارة أجدادنا الكنعانيين ، حيث كان الكنعانيون من أوائل الشعوب ، التي وضعت القوانين والأصول المدنية ، التي ساوت بين المرأة والرجل ، وكانوا أول من حرر المرأة و ساواها بالرجل ، فكانت المرأة الكنعانية كاهنة ، وقائدة جيوش ، وسياسية ، وبطلة ، نذكر هنا عشتروت و عليسه أو اليسار والسيدة مريم العذراء . ولا يضاهي الكنعانيين في تقديرهم لمكانة المرأة ودورها سوى المصريين القدماء ، الذين كانوا يعتقدون أنها أكمل من الرجل ، حيث كان المجتمع الفرعوني أقرب الى المجتمع الأمومي ، خلافا لما كان عليه الوضع السيء للغاية للمرأة في حضارة ومجتمعات بابل وسومر وآشور .
وعليه فإن الأصل والحالة هذه أن تقف المرأة على قدم المساواة مع الرجل ، فالرجال والنساء متساوون ، ولكنهم في الوقت نفسه ليسوا متماثلين ، إنهما يختلفان عن بعضهم البعض في شؤون عدة تتصل بالتركيبة الجسدية المميزة للجنس ، ولكنهما يتساويان في أمور الحياة الأخرى . حتى في أساطير القدماء كانت المساواة تطرح نفسها في ارقى الصور . الآلهة في الاساطير ، كان منها رجال ، وكان منها نساء ، وذرية تعيش على الأرض وأخرى تعيش في السماء .
أدرك طبعا أن باطن مجتمعاتنا يختلف عن ظاهره ، قد يبدو الظاهر متمدنٍا ويبدو الباطن مختلفا خاصة عندما تعم المجتمع ظواهر من ظلم ، وتصرفات وسلوك المجتمع الذكوري ، الذي يضع المرأة في منزلة أدنى ، حيث تكتسب الذكورة صفة سلطوية تعطي صاحبها دون وجه حق ، الحق في الهيمنة بحجج وذرائع حماية المرأة باعتبارها الحلقة الأضعف في المجتمع . من هنا فإن الحجر على حرية المرأة بذريعة الخوف عليها ، دليل على ضعف التربية في المجتمع . ثقافة التربية السليمة هي التي ترشد العقل الى اتخاذ القرارات والخيارات السليمة الصحيحة ، وبناء شخصية مستقلة قادرة على مواجهة صعوبات الحياة.
أما الخوف عليها أي على المرأة فهي الوسيلة لطمس شخصيتها عوضا عن إبرازها . تربية المرأة وتعليمها و معاملتها اسوة بالذكور ضرورة ثورية حتمية لإحداث نقلة اجتماعية نوعية ، تقف فيها المرأة والرجل على قدم المساواة في مواجهة الموروث المتخلف . هنا يصدق قول كارل ماركس تماما بأن التقدم الاجتماعي يقاس بالموقف الاجتماعي من تحرر المرأة ، وفي هذا حكمة بالغة ، فتغير نظرتنا وموقفنا من المرأة وتحويلها من عنوان على صلة بالجنس الى عنوان على صلة بالشراكة في الحياة يحرر مساحة واسعة من عقل الرجل ، ويمكنه من استخدم هذه المساحة المحررة في تحرير انتصاره على المفاهيم التقليدية لينطلق الجميع نحو مستقبل اكثر ثراء ، وأكثر انسانية.
وفي حالتنا الفلسطينية الراهنة في ذكرى الثامن من آذار فلا نضيف جديدا عندما نؤكد أن النساء الفلسطينيات يواجهن ظروفاً بالغة الصعوبة والقسوة . فمن ناحية تتواصل جرائم الاحتلال وتتسع مساحة هذه الجرائم لتطال المزيد من النساء ويتجلى ذلك بوضوح في الحروب التي تشنها اسرائيل ضد الشعب الفلسطيني ، حيث تشكل المرأة والطفل نسبة تصل الى نحو النصف في عدد ضحايا تلك الحروب . ومن ناحية أخرى ، تتزايد معاناة النساء الفلسطينيات الناجمة عن ظاهرة العنف الذي تتعرض له المرأة الفلسطينية في المجتمع الفلسطيني . فما زالت الأراضي الفلسطينية المحتلة بعدوان 1967 تشهد تصعيداً واضحا في الجرائم التي ترتكبها قوات الاحتلال ، التي لا تستثنى منها النساء. وقد عاشت المرأة الفلسطينية وخاصة في الأعوام الأخيرة ظروفا صعبة وقاسية بعد ان صعدت تلك القوات من استخدام القوة المميتة ضد المرأة الفلسطينية ، هذا الى جانب التوسع في حملات الاعتقال ، التي طالت الاطفال . في الوقت نفسه وعلى الصعيد المحلي شهدت الأراضي الفلسطينية في الأعوام الماضية حوادث قتل للنساء على خلفيات مختلفة ، طالت العشرات من بينها حالات قتل مروعة على خلفية ما يسمى قضايا شرف العائلة.
كل هذا يدعونا إلى ضرورة المطالبة أولا بتوفير الحماية للسكان المدنيين تحت الاحتلال بمن فيهم النساء والعمل بكل السبل والإمكانيات المتاحة من أجل ممارسة الضغط على سلطات الاحتلال ودفعها لاحترام حقوق الإنسان والالتزام بمبادئ القانون الإنساني الدولي وفي الوقت نفسه ودون ان نضع ذلك على قدم المساواة دعوة منظمة التحرير الفلسطينية والحكومة الفلسطينية لاتخاذ الإجراءات والتدابير اللازمة لوضع حد لمظاهر العنف المحلي وملاحقة مرتكبي الجرائم بحق النساء ومحاسبتهم ، والوفاء بجميع الالتزامات الدولية الناجمة عن انضمام فلسطين إلى اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة ، ومواءمة القوانين المحلية مع الاتفاقيات الدولية بما فيها اتفاقية “سيداو” والقرار الأممي 1325 ، وإعلان بيجين وخطة العمل المنبثقة عنه عام 1995 ، وقبله إعلان مكسيكو عام 1975، وكوبنهاغن عام 1980 ، و نيروبي عام 1985 ، والعمل على ضمان تنفيذ وتطبيق هذه القوانين في مختلف المجالات ومواجهة سوء استخدام الدين والعادات والتقاليد لتبرير الظلم المركب الواقع على المرأة بهدف إقصائها وتهميشها .
وفي هذا السياق ، فإننا في الوقت الذي نرحب فيه بالتوجهات التي التزمت بها القيادة ، والتي منحت المرأة الفلسطينية بعضا من حقوق المساواة مع الرجل في شؤون عائلية ودعت الى إعادة النظر بقانون العقوبات لجهة توفير الحماية للمرأة الفلسطينية ، نؤكد أن الحماية الفعلية للمرأة الفلسطينية في مجتمعها المحلي تتحقق عندما تجري عملية مواءمة حقوقها في التشريعات الوطنية بشكل كامل مع الاتفاقيات الدولية التي وقعت عليها دولة فلسطين والتزام نظامنا السياسي الفلسطيني بها وخاصة اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة ( سيداو ) والعهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية للمرأة في إطار بناء منظومة قوانين عصرية تحمي الحقوق والحريات وتحارب كافة أشكال التمييز وتوفر البيئة التشريعية والاجتماعية لضمان ذلك .
وأخيرا تجدر الاشارة الى أمرين في غاية الأهمية والخطورة ، يتصل الأول بحياة المرأة الفلسطينية في قطاع غزة ويتصل الثاني بظروف عمل المرأة الفلسطينية العاملة . هنا وفي هذه المناسبة العظيمة ، في يوم المرأة العالمي ندعو الى رفع الظلم عن المرأة الفلسطينية ، فمن الاهمية بمكان الاهتمام بالمرأة الفلسطينية التي تعيش ظروفا مأساوية في غزة ، تثقل الضمير الانساني ، ويتصل الثاني بوقف استباحة حقوق المرأة العاملة ، ومعالجة ظروف عملها التي تقترب من ظروف العمل بالسخرة والى إنصافها بالضمانات الاجتماعية والصحية و بتطبيق الحد الأدنى للأجور ، الذي تم التوافق عليه قبل أعوام دون ان يجد طريقه الى التطبيق والتنفيذ .
** عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية
** عضو المكتب السياسي للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين